في مثل هذا اليوم 19 حزيران يونيو 1992 التقى أربعة رجال في تل أبيب وتوافقوا على اطلاق القناة الخلفية التي افضت الى "اتفاق اوسلو". حضر عن الجانب الاسرائيلي يوسي بيلين ويائير هرشفيلد وعن الجانب الفلسطيني فيصل الحسيني وكان النروجي تيري رود لارسن هو الرابع. ولارسن الواصل الى بيروت اليوم يتذكر، من دون شك، ذلك الاجتماع الذي ادخله تاريخ الشرق الأوسط وأدخل الفلسطينيين نفقاً لا يتراءى أي ضوء في نهايته. لقد كرّس اللقاء المذكور توافقاً كان لارسن توصل اليه مع بيلين في 29 نيسان ابريل 1992 حين التقيا في مطعم هندي في تل أبيب. كان بيلين في المعارضة ويملك الوقت الكافي لمقابلة نروجي يترأس مؤسسة تهتم بقضايا التنمية وموصولة، بشكل ما، بالنقابات النروجية وبأوساط الأممية الاشتراكية. ويقول بيلين في كتاب وضعه عن المفاوضات السرية انه وجد لارسن "يشع حرارة وجاذبية وحسّا واقعياً". والأرجح انه ادرك، ايضاً، ان امامه رجلاً لا يعرف الكثير عن الصراع العربي - الاسرائيلي وتعقيداته. ان المصادفات هي التي قادت لارسن الى الاهتمام بالمنطقة. فهو رئيس لمؤسسة FAFO منذ عام 1982 في حين ان زوجته مونا جول تعمل في السلك الديبلوماسي. كانت موظفة في سفارة بلادها في مصر عام 1988 عندما ذهب لزيارتها من أجل "الاستجمام ولعب التنس" كما قال لبيلين. والتقى، في القاهرة، فتحي عرفات الذي حدثه لبعض الوقت عن مشكلات شعبه. فخطرت له فكرة اجراء دراسة لمقارنة مستويات الحياة الفلسطينية والاسرائيلية. ومع انه يبدو في تعاطيه مع الملف اللبناني شديد الاستعجال فان المعروف عنه انه امضى سنة كاملة من حياته وهو يحاول وضع استمارة يوافق عليها الفلسطينيون والاسرائيليون تمهد لإجراء الدراسة. وتسنى له، في غضون ذلك، التعرف على فيصل الحسيني وسري نسيبه وغيرهما من قادة "فلسطينيي الداخل". ولما شرعت FAFO في دراستها عيّن لارسن لرئاسة المشروع ماريان هايبرغ زوجة وزير الدفاع النروجي جوهان يورغن هولست مؤكداً بذلك صداقته لها ولزوجها وقربه الدائم من مراكز صنع القرار. في الثنائي لارسن تبدو مونا هي الأقرب الى العمل الديبلوماسي. وربما شجع ذلك بيلين للتوجه الى الغذاء الهندي في ذلك اليوم الحار. فمونا كانت، في ذلك الوقت، مديرة مكتب يان ايغلاند نائب وزير الخارجية النروجي. ويقول بيلين ان مونا هي التي اقنعت زوجها بلقاء احمد قريع ابو علاء من اجل ان يتعرف على واحد من قيادات "الخارج". اجتمع اليه ولكنه استمر يفضل اشراك فيصل الحسيني في اي حوار سري تحتضنه مؤسسته وذلك لأنه كان مقتنعاً ان لا دور لفلسطينيي تونس. عرض لارسن رأيه على بيلين بعد ان حصل على موافقة الحسيني ثم توالت الاجتماعات التي تقرر فيها انتظار نتائج الانتخابات الاسرائيلية. وبعد فوز اسحق رابين وصعود بيلين الى موقع نائب وزير الخارجية انذاك شمعون بيريز استأنف النروجيون، ولارسن على رأسهم، مساعيهم لتحريك القناة الخلفية. وحمل ايغلاند الدعوة الى نظيره الاسرائيلي ومعها تعهد وزير الخارجية توروالد ستولنبرغ باستضافة الحوار وتم الاتفاق على ذلك مساء 19 أيلول سبتمبر في اجتماع حضره لارسن وزوجته. قطع بيلين الاتصالات بالنروجيين بعد ذلك اليوم منتظراً نتائج الانتخابات الأميركية. ولذا فإن التأسيس الفعلي لانطلاق مسار اوسلو بقي معلقاً حتى مطلع كانون الأول ديسمبر. ففي ذلك اليوم كانت لندن تشهد اجتماعاً للجنة الاشراف على المفاوضات الاقليمية كان بيلين حاضراً. وكان ابو علاء موجوداً في العاصمة البريطانية من دون ان يملك حق دخول القاعة. وكان لارسن ايضاً هناك متذرعاً بعمل لا علاقة له بالمفاوضات. وفي حين كان الفلسطينيون والاسرائيليون يخوضون مواجهات حادة كان أبو علاء مجتمعاً مع هيرشفيلد في فندق لندني وبالتحديد في غرفة لارسن ومن دون حضور هذا الأخير. ومع بدء عمل القناة الخلفية كان لارسن وسيطا ينقل الى الفلسطينيين او الاسرائيليين المواقف المتبادلة، ويشارك في تنظيم "سرية" المفاوضات، ويقدم بيته احياناً لاستضافة المتحاورين، ومع اقتراب لحظة الحسم، وكان هولست اصبح وزيراً للخارجية، كان لارسن الى جواره في زيارة الى تونس أواسط تموز/ يوليو 1993 لانتزاع تنازلات فلسطينية تولى لارسن تبشير الاسرائيليين بها. ولما توجه هولست مع بيريز الى لقاء وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر لإبلاغه نبأ التوصل الى الاتفاق كان لارسن ضمن الرحلة غير مدرك، كما يقول بيلين، ان ما يجري "سوف يحدث زلزالاً في الشرق الأوسط". الواضح ان هذه التجربة لا تؤهل لارسن للعب دور ديبلوماسي مباشر في ملف مثل الملف اللبناني، فالانتقال من وسيط ومسهِّل الى شريك في القرار ليس سهلاً، كما ان العلاقة الخاصة مع اسرائيل ورجالاتها تبقى نقطة ضعف تولّد انحيازات خطيرة، ثم ان الاعتياد على "مرونة" ابو علاء وحسن عصفور يتحول الى صدمة عند اكتشاف "تصلّب" الفريق اللبناني المفاوض... وهي صدمة يريد لارسن حلّها، بتوجيه من كوفي انان وربما من الأميركيين والاسرائيليين، باستباق النتائج والاعلان المتكرر عن استكمال انسحاب لم يكتمل!