تشهد باريس موجةً من كتب السِّيَر الذاتية واليوميات عبر حركة نشرٍ نشيطة. وعلى غرار سابقاتها، تقسم هذه الموجة، عند انكسارها على "الشاطئ" الثقافي، السابحين فئتين: فئة أولى ترى في السيرة الذاتية سياقاً كتابياً أنانياً، قد يكون موبوءاً أو منحرفاً في معنى ما، يدّعي الكاتب من خلاله أنّ حياته مهمّة، لا بالنسبة اليه فحسب، بل بالنسبة الى الآخرين أيضاً، أي الى جمهور القرّاء. وفئة ثانية تؤمن بأنّ لكلّ واحد الحقّ في سرد قصّة حياته، سواء أكان شخصية مرموقة وذائعة الصيت، تتمتع بشهرةٍ في العالم الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، على غرار رونو كامو واندره بلانشار وميشال سيري ورولان جاكار وغيرهم، أم كان إنساناً عادياً اختبر تجربة غير عادية تستحق الحديث عنها، على غرار سيسيل غوادر، التي روت محنة انتحار ابنها، أو كلود كوتورييه التي كتبت عن كفاحها ضدّ مرض الألزهايمر. "الأنا" الأدبية في الفئة الأولى، يرسم بعض أصحاب الموقف المتطرّف من هذه المسألة، لكاتب هذا النوع الأدبي الرائج، هوية ذات خصائص "مرضية" وعقد نفسية متشابكة. وذلك في اطار تحليل ساخر لشخصيته. فيصفونه على سبيل المثال بإنسانٍ "مصاب بالوساوس والسويداء، مبغض للنساء وعديم الذمة، يدأب على تشويه موهبته وميزاته ويعتبر نفسه أفضل من كل معاصريه. وهو، إذ يدّعي كره المجتمع والناس واحتقار الأوساط الأدبية، لا يهتم في الحقيقة إلاّ بتلك الأوساط وينتظر، بلهفةٍ مثيرة للشفقة، أن تعترف هذه الأوساط بنبوغه وعبقريته". ومما لا شك فيه أنّ هذا الوصف ينطوي على كثيرٍ من المغالاة، ويتوخّى أن يكون نوعاً من "الكاريكاتور" اللاذع أكثر مما يهدف الى تقديم نقدٍ موضوعي. إلاّ أنه ينمّ كذلك عن شعور، خفيّ تارة ومعلن طوراً، بالإزدراء، أو اقلّه بعدم التقدير، بإزاء هذا الخطّ الذي يتمتع الآن في فرنسا بحظوة وشهرة لا مثيل لهما. وتعجّ رفوف المكتبات بمنتجاته الكثيفة الآتية من كلّ حدبٍ وصوب. وأحد أهم أسباب هذا الاستخفاف يكمن في أنّ البعض يشككّ في إمكان وجود نوعٍ أدبي تتطابق فيه الحقيقة النسبية التي يؤمن بها أحدهم، مع الواقع المطلق. إذ ثمة مستويات مختلفة من الواقع تصوغ للإنسان "أناه" الواقعية التي يعمل على سردها في يومياته. في حين أنّ الجوهر هو في مكانٍ آخر، في الأدب. وهو المسؤول الحقيقي عن صناعة الكاتب وصوغه. لذلك فإنّ "الأنا" الأدبية أهمّ من "الأنا" الواقعية، وهذا ما يجعل من السيرة الذاتية، بحسب اصحاب الموقف المتحفظ منها، مشروعاً "ملتبساً" مهما توخّى الدقة والصدق. فنّ كتابة الذات لكن ثمة كما ذكرنا، في مواجهة هؤلاء، فئة ثانية. فئةٌ تحبّذ انتقال شخصٍ ما، مهما كانت هويته، ومن خلال مقتطفاتٍ من يومياته الحميمة، من عتمة السرّية الى وضح استعراض الذات، لأنه قرّر أنّ حياته قد تكون مثيرة للاهتمام. أي مثيرة لاهتمام الآخرين. فالسيرة الذاتية، بالنسبة الى هذه الفئة، هي وهب الذات للإنسانية، مثلما يمكن المرء أن يهب جسده للعمل عند وفاته. لكنّ هذه الهبة سيفٌ ذو حدين، إذ تُنعَت غالباً بالأنانية: فلماذا هذا السعي الى التميّز لدى كاتبها، واعتباره حياته أكثر إثارة للاهتمام من حياة الآخرين؟ من هنا الاعتقاد السائد بأنّ نشر اليوميات مبادرةٌ تُستَحقّ عن جدارة. في المقابل، السيرة الذاتية، بحسب حجج روسّو القاطعة، هي عملٌ خطير، يجازف الكاتب من خلاله بتعريض علاقاته مع الآخرين للبلبلة والإنقلاب. إنه "قرن الثور"، مثلما كان يسميه ميشال ليريس، الذي يهدّد كلّ من يدخل الى حلبة الحقيقة. والسيرة الذاتية، من جهة اخرى، هي فعل عطاء سخي: فهي تفتح ثغرة في عتمة العلاقات بين الأفراد، وتسمح للآخر بأن يفهم نفسه على نحو أفضل عبر مقارنة تجربته بتجربة نظيرٍ له، وهو أمرٌ غير متاح في الحياة الواقعية. أخيراً، وبحسب روسّو، لا تكفي شهرة الإنسان لجعل قصّة حياته مثيرة للاهتمام في حدّ ذاتها، فالجوهر يكمن في روح الراوي وفكره، بغضّ النظر عمّا إذا كان مغموراً بأضواء المجد أو غارقاً في ظلال المجهول. ولكن، من جهة أخرى، وخارج تلك العناصر التي ذكرنا، هل كون حياةٍ ما تستحق ان تُروى، والرغبة في سرد قصتها، عاملان كافيان لضمان نجاح مشروع مماثل؟ فالكتابة فنّ تخفى أسراره على كثيرين، حتى إذا كان قارئ السيرة في معظم الأحيان مرافقاً متسامحاً ومتعاطفاً أكثر منه مستهلكاً متطلّباً. من هذا المنطلق، من الضروري الإعتراف بوجود "فنّ كتابة الذات". التجدّد والطليعية كتابة السيرة الذاتية هي إذاً فنّ حقيقي، له أسلوبه ومقوّماته وبنيته المحدّدة. ولكن الى جانب عددٍ من الخصائص الأساسية، التي قد تقيّد الكاتب أحياناً ضمن أطرٍ تقليدية ومتعارف عليها، والتي نجدها في بعض الموجزات التعليمية على غرار تلك التي تصدر خصوصاً في الولاياتالمتحدة، لا شيء يحول دون اختراع الكاتب طريقاً خاصاً به نحو حقيقة حياته. وتلك هي بالذات احدى اهم الثورات الأدبية في النصف الثاني من القرن العشرين في فرنسا: إذ استعادت كتابة السيرة الذاتية ديناميتها وقدرتها على الابتكار، وهما ميزتان كانت تتمتع بهما عند ولادتها في زمن روّادها، أي روسّو وشاتوبريان وستندال، قبل وقوعها ضحية الخمول والرتابة والتكرار. هكذا شهدت كتابة السيرة الذاتية أخيراً تجدّداً لافتاً، وانتقلت من المواقع الخلفية الى الطليعة: إذ شقّ عددٌ من الكتّاب المعاصرين طرقات جديدة تتحدّى، كلّها، الأساليب التقليدية وتخرج على السردية الخطية أو الجزم المباشر المرتبطين بها. فحاول ميشال ليريس مثلاً بناء نصّ سيرةٍ ذاتية يعتمد على شبكات التداعي والصدى الخاصة بالشعر "قانون اللعبة"، 4 أجزاء، 1948-1976. أمّا كلود مورياك فقام ب"مونتاج" من نوع المتاهة لخمسين عاماً من يومياته "الزمن الجامد"، 10 أجزاء، 1974-1988. وقدّمت ناتالي ساروت سرداً حوارياً لطفولتها طفولة"، 1983، وغيرهم كثيرون ممن طبعوا هذا النوع الأدبي ببصمات تجديدية، أكانت هذه إضافات صرفاً اليه، أم تغييرات جذرية في منطق كتابته. بين الحقيقية والتخيّل وما تلك إلاّ البداية، إذ كم من الابتكارات التي لم تولد بعد، في هذه المجال، لا تزال تنتظر مخترعيها! على سبيل المثال، وخلال مؤتمرٍ حديث لمكتبة فرنسا الوطنية، وصف دومينيك نوغيز بالسيرة الذاتية هذا النوع الكتابي الجديد الذي يتحالف فيه البحث الدقيق عن الحقيقة مع ابتكار أشكالٍ جديدة. إلاّ أنّ هذا الأمر يطرح تساؤلات من نوعٍ آخر عن الحدود التي يفترض أن تتأرجح بينها مواصفات كتب السيرة الذاتية. إذ يرى كثيرون أنّ الذاكرة، وهي العنصر الحيوي الذي تنطلق منه كتابة السيرة، خاضعةٌ لإغراء الاختلاق والنسج، طوعاً أو لا شعورياً، بهدف "تجميل" الحياة واغنائها وتجاوز سطحية الأحداث الواقعية. ومن هنا كلمة "التخيّل الذاتي" التي اخترعها سيرج دو بروفسكي عام 1977، والتي تعني التضحية بعنصر الحقيقة في سبيل الفنّ وفاعلية الكتابة وأسلوبها وشكلها، بغية استنباط شيء قادر على التأثير على القارئ، وإن كان من نسيج الوهم. لكن ثمة موقفان متعارضان حول هذه النقطة. ففي حين يؤمن البعض بضرورة الاستجابة، في آنٍ واحد، لنداءَيْ الحقيقة والفنّ، وتلبية شروطهما في ظل توتّر متطلّب، مثلما فعل ليريس وبيريك وروبو وغيرهم، يرى آخرون في الفنّ طريقاً نحو "حقيقة" أسمى من واقعٍ يعتمد على دقّة تافهة، فيستسلمون لجاذب التخيّل واختراع الذات بغية التحرّر من كبت الرقابة التي يفرضها الواقع، والوصول الى ثروات "الأنا" الدفينة. هكذا يشرح هكتور بيانشوتي أنّ الكاتب هو الشخص الوحيد العاجز عن كتابة سيرةٍ ذاتية حقيقية، لأنه يمنح الأولوية للكلمات، فتحمله هذه فوراً الى حقيقة عليا. في الواقع، قد تكون الرغبة في التملّص من خصوصية الحياة العادية وتحويلها اسطورة، توقاً مبرراً ولكن من جهة أخرى، ألم يقل أناتول فرانس، عام 1887، إنّ الزمن لا يرأف بالتخيّلات ولا يحسن معاملتها، في حين انه يجوهر السير الذاتية، ويزيد من وهجها ما أن تنتمي الى عالم الماضي؟ الإنتصار على الموت في خضمّ هذه المواقف المتضاربة، تظلّ اليوميات سواء أكانت من النوع السياسي أم الحميمي أم الأدبي، إناءً للمشاعر والشكوك والهموم والخيبات والطموحات، ولأسباب اليأس أو الغرور. فالمراسلة اليومية مع الذات تشبع الحاجة الداخلية الى فهم أنفسنا، وتالياً الى قبولها. هكذا نرى، بين كتّاب اليوم، كيف تروي دومينيك رولين، في "يوميات حبّ"، قصّة الحب السعيدة التي تعيشها منذ أربعين عاماً مع الروائي فيليب سولرز، وكيف ينقل جان شالون، في "يوميات باريس"، أجواء انغماسية في الحياة الاجتماعية الباريسية، في حين ينقلنا برنار دلفيل في يومياته الى طبقاتٍ أكثر عمقاً وشاعرية من حياته الأدبية الغنية، ويلقي ميشال ديل كاستيلو نظرةً ثاقبة على الناس والأحداث ويكشف اسراراً مؤلمة في سيرته، "وداع القرن". مجموعةٌ كبيرة من الحيوات المشرّعة المختلفة والمتنافرة، يجمع بينها نوعٌ من التعري يتيح للبعض ترسيخ ذاكرتهم، أو يساعد آخرين على اعادة بناء معناهم. لكن في خضمّ هذا الإختلاف، تظل كتابة الذات، بالنسبة الى راويها، رسماً لرؤيته عن العالم، أو وسيلةً للانتصار على الموت وبنيةً للصمود والاستمرارية عبر الأدب، مثلما أنّ يوميات الآخر أو سيرته الذاتية قد تعني احياناً، وبكل بساطة، بالنسبة الى قارئها، روعة أن يجد نفسه فيها!