عقد أخيراً مؤتمر تجاري في رام الله، باشتراك وزير الاقتصاد والتجارة. وقد جرى الإعداد للمؤتمر من خلال سلسلة من الندوات، نتجت عنها تسع أوراق عمل، قدمت خلال المؤتمر، بما في ذلك ورقة أعدت من قبل السيد ماهر المصري، وزير التجارة والصناعة، عن حاجة القطاع الخاص إلى سياسات تتعلق بالخصخصة والاحتكارات. جاء في الورقة، كما لُخصت في جريدة "الأيام" 2/5/2000، أن مشاركة الحكومة المباشرة وغير المباشرة في الشركات والاحتكارات، "أثارت انتقادات في الداخل والخارج، وألقت ظلالاً من الشك على التزام السلطة الفلسطينية باقتصاد السوق، الأمر الذي أثار شكوك المستثمرين والقائمين على مؤسسات القطاع الخاص، إضافة إلى انتقادات الدول المانحة، وبعض المؤسسات الدولية المهمة". إن انتقادات من هذا النوع، ومطالبات تتعلق بإرساء حكم القانون وإقرار التشريعات اللازمة للاقتصاد والتنمية، تتكرر باستمرار في التقارير والدراسات، وفي الندوات والمؤتمرات. ونحن نرى، الآن، بدايات تشكل مجموعات ضغط ستعمل، بشكل مستمر، من أجل مصالحها، والتي لا يلبيها النظام الحالي في فلسطين، وستجد دعماً لدى الدول المانحة والحكومات الأوروبية والبنك الدولي والولاياتالمتحدة. أمّا بخصوص العوامل الخارجية التي ستدفع باتجاه التغيير، فتمكن الإشارة إلى الحاجة إلى ما يسمى ب"استقرار" النظام الإقليمي، المتفرع عن النظام العالمي الحالي بقيادة الولاياتالمتحدة، وإلى دور إسرائيل ومصالحها المستقبلية في فلسطين. في ما يتعلق ب"النظام الاقليمي" واستقراره من وجهة نظر الولاياتالمتحدة، أستذكر هنا مسعى الولاياتالمتحدة، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، لتوفير نظام إقليمي مستقر ومتجانس نسبياً كجزء من النظام العالمي بقيادة الولاياتالمتحدة. وقد شكلت الانتفاضة حافزاً مباشراً للولايات المتحدة للعمل على بدء عملية تسوية سياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، كمقدمة لتسويات أخرى. فلم يكن بإمكان الأردن، مثلاً، عقد معاهدة سلام مع اسرائيل قبل عقد اتفاق ما بين اسرائيل والفلسطينيين. ويمكن، أيضاً، النظر إلى حرب الخليج بهذا المنظور. فبمعزل عمّا إذا كانت الولاياتالمتحدة قد أوقعت بالعراق عن طريق إعطائه ضوءاً أخضر خافتاً لاحتلال الكويت، كما قيل في حينه، وأنه تم على لسان سفيرة الولاياتالمتحدة في العراق، أو أن الولاياتالمتحدة استفادت من هذه الفرصة، بدليل رفضها لانسحاب العراق من الكويت مع حفظ ماء الوجه قبل بداية حرب الخليج، سعت الولاياتالمتحدة لتوفير "الاستقرار" من خلال الحرب. فوجود دولة إقليمية قوية، غير إسرائيل، في المحيط العربي، وقرب دول الخليج ومنابع النفط، يؤدي إلى وجود "مجال حيوي" أو "نطاق نفوذ" لتلك الدولة في محيطها، الأمر الذي قد يهدد مجال نفوذ الولاياتالمتحدة، وأيضاً مجال نفوذ اسرائيل بقدر ما. فيصبح هناك لاعب آخر في الحقل، يجب إرضاؤه أو استمالته أو التحالف معه، وهي سياسة مارستها الولاياتالمتحدة مع العراق خلال الحرب مع إيران، ولأسباب معروفة. وقد بدأت الولاياتالمتحدة العمل على إيجاد تسوية ما للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي خلال الانتفاضة، وفي الفترة التي كان فيها جورج شولتز وزيراً للخارجية. وتبعت ذلك جولات وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر المكوكية في العام 1990، والتي استمرت بعد حرب الخليج، وانتهت بانعقاد مؤتمر مدريد. من هذا المنظور، ترى الولاياتالمتحدة الآن، وترى إسرائيل أيضاً، ومنذ عهد نتانياهو، أن وجود دولة فلسطينية هو النهاية الوحيدة الممكنة للمفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين، وأن هذا أيضاً سيوفر "استقراراً" في المنطقة، أو إنه أحد عوامل "الاستقرار". ولكن وجود دولة، لا يكفي في حد ذاته. فحتى يؤدي وجود الدولة الى القدر الممكن من "الاستقرار"، من منظور الولاياتالمتحدة وإسرائيل، يجب أن توفر الدولة عاملين أساسيين: الأول، قدراً معيناً من الرخاء الاقتصادي، وثانياً، قدراً معيناً من الاستقرار السياسي داخل الدولة. بالنسبة الى الرخاء الاقتصادي النسبي، فإن موقف إسرائيل معروف إزاء هذا الجانب. وقد صرح، في الماضي، أكثر من مسؤول ووزير إسرائيلي أن هذا أحد اهتمامات إسرائيل، لأنها تراه كتعزيز للاستقرار في فلسطين، وهو أمر في مصلحتها أيضاً. وهذا يتوافق أيضاً مع مواقف البنك الدولي، كما تظهر في نشراته. فالبنك الدولي، على سبيل المثال لا الحصر، ضد احتكار شركة الاتصالات لهذا القطاع في فلسطين، بسبب ارتباط الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالنشاط الاقتصادي في عصر العولمة، وبسبب التطور السريع والمستمر لتكنولوجيا المعلومات، الأمر الذي قد لا يتوفر بسهولة في فلسطين بوجود احتكار لشركة واحدة. والوضع الأمثل، من وجهة نظر البنك الدولي، حسبما جاء في نشرة دورية يصدرها عن فلسطين، كانون الثاني/ يناير 2000، ص2 هو وجود منافسة بين أكثر من شركة، حتى يتم توفير تكنولوجيا معلومات مُحدَّثة باستمرار، لغرض ربط فلسطين بالاقتصاد الاقليمي والعالمي. مرة أخرى، نجد أن التنمية في فلسطين، ومن ثم الرخاء الاقتصادي النسبي، مرتبطان باقتصاد السوق وحاجاته. ولهذا مستلزمات بنيوية وإدارية وقانونية غير تلك الموجودة حالياً في فلسطين، وكما أشرت سابقاً. في ما يتعلق بالاستقرار السياسي بعد نشوء الدولة، توجد عوامل عدة ستؤثر على هذا الجانب، ولا يتسع المجال هنا للتعرض لها. سأركز على عامل واحد، داخلي، يتعلق بالبنية السياسية للنظام. وأبدأ بالإشارة إلى الجانب الدولي المتعلق بالموضوع، الذي سيترك أثراً ما على فلسطين. وأشير، تحديداً، إلى الركيزتين الأساسيتين لما سمي "بجدول أعمال الليبرالية الجديدة" Neo-Liberal Agenda، واللتين تم اعتمادهما من قبل الولاياتالمتحدة والدول الغربية الصناعية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في السياسات الخارجية، وهما: اقتصاد السوق والديموقراطية في النطاق السياسي. وقد تم تطوير جدول الأعمال هذا، واعتماده بوضوح، في نهاية الثمانينات. وما زالت هاتان الركيزتان العنصرين الأساسيين في السياسات الخارجية لتلك الدول والمؤسسات، ويجرى الدفع باتجاههما، ما أمكن، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية بعض الدول مثل دول الخليج. وقد أخذ بخصوصية الوضع المرحلي في فلسطين، ولم يجر الدفع بقوة بهذين الاتجاهين. ولكن، من الواضح أن هاتين الركيزتين موضوعتان على جدول أعمال فلسطين لأغراض مستقبلية. والمقصود ب"الديموقراطية"، من هذا المنظور، هو توفير نظام سياسي وقانوني وإداري مناسب لأغراض اقتصاد السوق. وقد أشرت إلى هذا الجانب سابقاً. والمقصود، إضافة، توفير قدر من الاستقرار في النظام السياسي عن طريق مأسسة عناصر أساسية فيه، وبالتالي عدم الاعتماد، لاستقرار النظام، على شخصية شعبوية، أو أبوية، أو كارزمية توفر الصمغ اللاصق للنظام، لأن لهذا مخاطر معروفة، خصوصاً إن اتسم النظام بالمركزية المفرطة في اتخاذ القرار، أو بالسلطوية. فهذا الوضع يشجع الانقلابات والاغتيالات السياسية، خاصة في الدول الفقيرة، ولا يوفر شرعية سياسية في عالم اليوم. ولكن الجانب الأهم، المتعلق بهذا الموضوع، هو أن الديموقراطية، بتعريفها المحدود هذا أي ليس بتعريفات أخرى أوسع، توفر الاستقرار من حيث إنها تفتح النظام السياسي أمام مشاركة النخب، وتسمح بقدر من تداول السلطة من خلال الانتخابات الدورية. في غياب ذلك، ستبقى النخب خارج النظام السياسي، وهذا يشكل خطورة على النظام واستقراره، خاصة في أوضاع الأزمات، لأنها قد توفر قيادة لحركات أو هبات شعبية معارضة للنظام، أو لبعض من سياساته، تعمل من خارجه. والعمل من خارج النظام قد يتحول، بسهولة، إلى مسعى لتغيير جذري في النظام في أوضاع الأزمات. وهذه هي العبرة الأساسية التي استخلصها النظام الاردني من "ثورة الخبز" الشهيرة، التي بدأت في جنوب المملكة قبل أكثر من عقد من الزمن. وكانت الانتخابات البرلمانية، في حينه، مجمدة، وأعيد العمل بالانتخابات للمجلس النيابي، وتم ادخال النخب السياسية في النظام السياسي، بما في ذلك الحركات الاسلامية. وفي هذا المضمون، يمكن فهم الأهمية السياسية ل"بيان العشرين"، وإن كان الوضع هنا معكوساً، مقارنة مع الأردن. فلم يلقَ البيان صدى شعبياً واسعاً، بخلاف وقعه بين النخب. أي إن موقعي البيان لم يتحولوا إلى نخبة تقود حركة احتجاج شعبية، ولعدة أسباب، أحدها، كنت قد اشرت إليه سابقاً، وهو حذر الجمهور من التغيير الجذري في هذه المرحلة. ولكن، من غير الواضح أن هذا الوضع له مقومات الاستمرار بعد قيام الدولة، إن لم يجر فتح النظام السياسي المغلق حالياً. فلا تزال "الهبات" الشعبية تأخذ طابعاً محلياً في فلسطين، كما حدث قبل بضعة أيام في مخيم البريج في غزة، وفي مناسبات سابقة في غزة أيضاً. وهي مؤشر على الاحتقان والانسداد في النظام الحالي، ونذير للمستقبل. وأشير، أخيراً، إلى دور إسرائيل ومصالحها المستقبلية في فلسطين، وإذا كان الأردن يقع ضمن "المجال الحيوي" لإسرائيل، كدولة عازلة Buffer-State، فإن دولة فلسطين ستحتل حيزاً أكبر من الأهمية لإسرائيل، بسبب القرب الجغرافي، وطول الحدود، وتنقل العمال والبضائع، إضافة إلى عوامل أخرى. ولم تتمكن إسرائيل، خلال فترات الاحتلال، من إيجاد عزل جغرافي تام، خصوصاً بين إسرائيل والضفة الغربية. ومن المتوقع أن تبقى هذه مشكلة في المستقبل، من منظور إسرائيل الأمني. بالتالي، فإن استقرار النظام السياسي في الدولة الفلسطينية أمر في غاية الأهمية لإسرائيل، لأن الاستقرار السياسي يعزل "الخروقات الأمنية"، ويبقيها محدودة. ولن تعتمد إسرائيل، في مجال ضمان أمنها، على الاستقرار السياسي فقط، ولكنه يبقى أحد العوامل التي لا يمكنها أن تهمله. ولا يبدو لي أن إسرائيل تخشى من فتح النظام السياسي لدخول المعارضة فيه، سواء أكانت إسلامية أو غير إسلامية، بل العكس من ذلك تماماً. إن النخب السياسية التي ستدخل النظام السياسي، بفعل الانتخابات، ستجد نفسها أمام اتفاقات ملزمة لها، بموافقة وضمان عدة دول عربية وعالمية. بالتالي، فإن المجال الوحيد المتاح لتغييرها أو تعديلها هو المفاوضات السياسية. ولا تخشى اسرائيل ذلك، وهي في موقع قوة على الأرض، أخذين بعين الاعتبار موقعها الاقليمي والدولي. ختاماً، اود ان أُضيف إلى عوامل التغيير المشار اليها آنفاً التاريخ السياسي للشعب الفلسطيني، بتعدديته وتسيّسه، ووجود مجموعات كبيرة من مغتربي الفصائل تترقب وجود بدائل، ونخب جديدة صاعدة، ودعم شعبي للتغيير. فهل يمكن للنظام الفلسطيني أن يبقى كما هو في المستقبل؟ إن الأطروحة التي يجب الدفاع عنها هي إمكانية الاستمرار، وليست إمكان التغيير. * عميد الدراسات العليا وأستاذ فلسفة في جامعة بيرزيت