غداة الاحتفاء ب"رائد النقد الجديد" رولان بارت في ذكرى غيابه العشرين بدا اكتشاف نصّين غير منشورين له ضمن مخطوط كتابه الفريد "مقاطع من خطاب في العشق" حدثاً أدبياً بارزاً1. فالكتاب هذا هو تجربة نادرة في خوض "خطاب" العشق كما تجلّى عالمياً، قديماً وحديثاً، عبر أبرز النصوص الفلسفية والأدبية والصوفية. ومن خلاله سعى بارت الى "صهر" وليس الى جمع أجمل مقولات العشق في نصّ متقطع ومتواصل عبر تقطّعه، معتمداً لعبة "التناصّ" خير اعتماد وموظفاً ثقافته العميقة والشاملة وقراءاته المتعددة في تراث "العشق" العالميّ بغية ترسيخ حال من المحاورة بين الأنا والآخر، بين العاشق والمعشوق، بين النص والنصوص الأخرى. وإن بدا اكتشاف ذينك النصّين غير المنشورين حدثاً أدبياً فرنسياً بامتياز فإن صدور ترجمة عربية للكتاب الفريد هو بدوره حدث أدبي عربي، خصوصاً أنه رافق الذكرى العشرين لغياب الكاتب والناقد الفرنسي الكبير ولو متأخراً قليلاً2. إلا أن الترجمة العربية لم تكن حدثاً كما من المفترض أن تكون، بل بدت خيانة حقيقية للكتاب الفرنسي وتشويهاً للتجربة التي خاضها بارت. هذا الانطباع يخامر للفور القارئ العربي الذي يدرك أسرار الكتاب الفرنسي أو أسرار اللعبة التي اعتمدها بارت في الأحرى. فالتشويه يظهر أول ما يظهر في خربطة بنية النص التي أصرّ بارت عليها بشدة مركزاً على محاورة المتن والهامش. فالمترجمان اللبنانيان والناشر الكويتي عمدوا الى الغاء "الهامش" جاعلين إياه مجرّد عناوين داخل المتن نفسه. وكان قصد بارت هو المقابلة بين نصه والنصوص المستعارة والمنصهرة داخل نصه عبر إفراد أسماء أصحابها أو مراجعها في الهامش وتحديداً قبالة المقولات نفسها. هذه البنية المزدوجة والفريدة حقاً غابت تماماً عن الصيغة العربية التي لم تعرها اهتماماً ظناً من المترجمين والناشر أن إلغاء "الهامش" أو ضمّه الى "المتن" لن يؤثر في بنية النص الأصلي. ولم يقتصر التشويه على هذا الإلغاء بل بلغ ذروته في دمج "المقاطع" بعضها ببعض في أحيان وفي نسيان بعض الأسماء والعناوين علاوة على ضياع المرجعية التي شدد بارت عليها لينسب المقولة الى صاحبها مظهراً كيف استطاع أن يجعل من تلك "المقولات" نصاً من نصوص أو نصوصاً في نص. ذروة التشويه أما ذروة التشويه أو الفضيحة فتمثلت في "الرقابة" التي مارسها المترجمان والناشر على النص وقد خوّلتهم هذه الرقابة أن يحذفوا مقاطع كاملة وجملاً وكأنهم يؤدون فعلاً دور "الرقيب" الأدبي. وبدا فعل "الحذف" عملاً مشيناً حقاً ومسيئاً الى رسالة المترجم ورسالة الترجمة معاً، علاوة على كونه خيانة للأمانة العلمية والأدبية المنوطة بالمترجم أولاً ثم بالناشر. تُرى هل يحق للمترجم والناشر أن يعمدا الى حذف ما لا يجرؤان على ترجمته ونشره؟ هل يحق للمترجم أن يجتزئ من النص ما لا يروق له من غير أن يبرر فعلته؟ هل يحق للمترجم أن يلقن صاحب النص درساً في الأخلاق فيحذف ما يحلو له أن يحذف؟ حذف المترجمان والناشر قرابة سبعة مقاطع وجمل من دون أن يشيروا الى فعل الحذف وكأنهم لا يأبهون لا للنص ولا للمعنى ولا للسياق الذي اختاره رولان بارت. في فصل "الاهداء" تُحذف جملة ومقطع يتحدث فيهما بارت عن "الهدية" التي يتبادلها العاشق والمعشوق فإذا هي كما يعبّر "جلد ثالث" يجمع بينهما. وفي فصل عنوانه "في الهدوء العاشق لذراعيك" يُحذف المقطع الثاني كاملاً وفيه يتناول بارت الوجه الطفولي للعاشق. وقد حلّ المقطع الثالث في الترجمة العربية محلّ الثاني حلولاً عشوائياً بعد فعل الحذف. في فصل "ثوب أزرق..." حُذفت عبارة كاملة للفيلسوف الاغريقي سقراط وحذف اسم سقراط كذلك علماً أن العبارة تتحدث عن الحب الذكري المعروف لدى الإغريق في طريقة مهذبة وفلسفية. وكذلك في فصل "الوشاح" حُذفت جملة مستوحاة من العالم النفسي لاكان تبعاً لجرأتها في التحليل العلمي. وفي فصل عن "الفحشاء" في العشق عنونه المترجمان: البذيء في العشق يقع الكاتب الفرنسي جورج باتاي ضحية الحذف والمنع إذ يسقط مقطع كامل له استشهد به بارت لما يحمل من جرأة في تحليل فعل الحب. والمضحك حقاً هو نسب مقطع آخر الى جورج باتاي ليس هو صاحبه وفيه يرد اسم فرتر وسواه. وفي فصل رائع عنوانه "مديح الدموع" تُحذف جملة أساء المترجمان والناشر فهمها إذ انها بعيدة كل البعد من الإباحية بل انها تخفي معنى شعرياً وفلسفياً يدور حول "الجسد الطفل" أي الجسد النضر والبريء. وفي فصل رائع عنوانه "اتحاد" وفيه يسترجع بارت ابن حزم الأندلسي تحذف جملة من غير مبرر أيضاً... لعل مثل هذا الحذف أو المنع الذي مارسه المترجمان والناشر يُفقد الترجمة طابعها العلمي وصدقها وموضوعيتها بل هو يجعل فعل الترجمة وهي أصلاً فعل إبداعي فعل تشويه واجتزاء. وينمّ فعل الحذف هذا عن حال من التواطؤ "المضمر" بين المترجم والرقيب علماً أن الترجمة عمل حضاري يتطلّب الأمانة والموضوعية والنزاهة. وما دام المترجمان والناشر يخشون جميعاً جرأة رولان بارت العميقة ونصه الطليعي فلماذا أقدموا على ترجمته ونشره مُجتزأً ومراقباً و"ممنوعاً"؟ كان في إمكانهم أن يدعوه في لغته الأم وأن يبحثوا عن نص آخر أقل جرأة وعمقاً! وإن لم تكن هذه البادرة هي الأولى في عالمنا العربي إذ سبقتها ترجمات مشوّهة كثيرة فينبغي ألا تسري بين المترجمين وفي حركة النشر كظاهرة يسهل الأخذ بها. فهي تسيء الى الثقافة العربية أكثر مما تسيء الى النصوص المترجمة والى أصحابها. وتدل على مدى خوفنا وارتباكنا حيال النص الآخر، أياً كان. كان في إمكان هذه الترجمة أن تكون حدثاً عربياً حقاً لو لم تقع في "شرك" التجزيء والتشويه ولو بذل المترجمان جهداً آخر الى الجهد الذي بذلاه في الترجمة. فالتعريب بدا شبه حرفيّ أحياناً وخالياً من الحذاقة اللغوية و"اللعب" الأسلوبي اللذين عُرف بارت بهما. ولم تنجُ الصيغة العربية من الركاكة حيناً والجفاف حيناً والصلابة وبدت تحتاج الى المرونة اللغوية والبعد الشعري واللمسة الأدبية. ناهيك بالأخطاء اللغوية والطباعية التي زادت من سوء الترجمة. وبرز خطأ فادح في تأنيث شخصية "شارلوس" وظنه امرأة وهو أحد "أبطال" الكاتب الفرنسي مارسيل بروست في ملحمته الروائية "البحث عن الزمن الضائع". وكان في إمكان المترجمين العودة الى الجزء الثالث من "الملحمة" هذه أي رواية "ناحية غيرمانت" ليدركا أن شارلوس بطل محوري وأساسي في عالم "الزمن الضائع". وبدا تأنيثه داخل السياق الذي ارتآه بارت مضحكاً ومشيناً. ولعل العودة "التفصيلية" الى الترجمة ومقارنة النص المعرّب بالنص الأصلي تكشفان عن الكثير من الهنات التي اعترت فعل الترجمة. ولكن يجب الاعتراف بأن المترجمين بذلا جهداً واضحاً في مواجهة نص صعب ومعقد، نصّ قائم على لعبة التناص و"الاستعادة" وعلى لعبة الكتابة المزدوجة التي تستوحي النصوص وتصهرها في سياق لغوي جديد. ومَن يقرأ النص في لغته الفرنسية ومراجعه يصعب عليه أن يقرأ النص العربي المترجم إذ سرعان ما يدرك خيانته للأصل لا في ما حُذف منه واقتطع فقط، ولا في تشويه بنيته تشويهاً نافراً بل في مناخه أو فضائه اللغوي والفلسفي والصوفي. فمن يترجم رولان بارت لا يكفيه أن يجيد الفرنسية بل عليه أن يلمّ ب"أسرار" تجربته ككل، تجربته النقدية والأدبية واللغوية. وليس إصرار بارت على اعتماد عبارة "أصل الكلمة"3 في كتابه إلا دليلاً على مدى تجذّره في اللاوعي اللغوي أو الذاكرة اللغوية وعلى نزعته "الاشتقاقية" التي أتاحت له أن يختلق مفردات ومقولات جديدة. وقد أساء المترجمان كثيراً في حذف عبارة "أصل الكلمة" سبع مرّات من الهامش غير مدركين أنها تعني الكثير في معجم بارت النقدي. أكثر ما يؤلم في الترجمة العربية لكتاب بارت "مقاطع من خطاب في العشق"4 أن المترجمين والناشر أضاعوا أمام القارئ العربي فرصة سانحة لقراءة كتاب نادر وجميل. فالكتاب هو خلاصة قراءات الناقد المثقف في حقل العشق وخلاصة تأمّل في أحوال العاشق ومقامات الخطاب العشقي. فالناقد - الكاتب لم يجمع المقولات العشقية القديمة والحديثة ولا الاختبارات التي كابدها بعض "الأصدقاء" حذفت أحرف اسمائهم جميعاً من الترجمة العربية بل عمد الى صوغها صوغاً أدبياً مسبغاً عليها طابعاً جديداً ومدرجاً إياها في سياق جديد تلتئم عبره خبرته هو ككاتب طليعي والخبرات الأخرى التي تزخر بها المقولات المختارة. واللافت أن بارت لم يقصر ذائقته على الأعمال الأدبية فحسب وإنما أفاد كثيراً من الفن التشكيلي والموسيقى والسينما تماماً مثلما أفاد من كتاب "آلام الفتى فرتر" للشاعر الألماني غوته ومن "الوليمة" للفيلسوف الاغريقي أفلاطون ومن نيتشه والمتصوّفة وفلسفة الزن والتاوية عطفاً على النصوص الحديثة و"المرجعيات" المعاصرة التي ارتكز إليها. ولم يكن من المبالغة تسمية الكتاب حين صدوره في العام 1977 ب"سيميولوجيا العواطف" فهو ضمّ مقولات عاطفية في "إخراج" نصيّ ممسرح. فالكاتب لا يعتمد لعبة "التوليف" التقليدية بل هو يركّز على مبدأ "التناص" أو ما يسمى ب"الصراع بين النصوص" ليخلص الى نص هو نصه أولاً و"نصوص" الآخرين ثانياً ولكن بحسبه. يحوّل بارت النصوص تحويلاً عشقياً أي كيميائياً حتى لتصبح اللغة كأنها "لغة محلومة" كما يعبّر والكتابة "علم ملذات اللغة" كما يقول أيضاً. ولعل وصف فيليب سولرز للكتابة "المقطعية" لدى بارت هو خير تحديد لها إذ وصفها ب"الكتابة - اللقطة" و"المونتاج المرن" و"التصنيف الموسيقي"... وكم كانت الكتابة عن "مقاطع من خطاب في العشق" لتبدو مغرية وجميلة لو أن الترجمة العربية كانت أمينة على الأصل ووفية وغير خائنة الى هذا الحد من الخيانة . هوامش 1 - نشرت صحيفة "لوموند" النصين في 24 آذار مارس 2000 ضمن ملف في ذكرى رولان بارت. 2 - صدرت الترجمة في سلسلة "إبداعات عالمية" المجلس الوطني للثقافة والآداب - الكويت تحت عنوان "شذرات من خطاب في العشق" أنجز الترجمة الهام سليم حطيط وحبيب حطيط. 3 - المقصود بالفرنسية Etymologie. 4 - اختار المترجمان كلمة "شذرات" وهي صيغة لم ترد في "لسان العرب" لأبن منظور ولا في "أساس البلاغة" للزمخشري ووردت في "محيط المحيط" في صيغة "شذور" جمع شذرة. والشذرة هي واحدة الشذر. والشذر قطع من الذهب أو خرز أو هو اللؤلؤ الصغير. وواضح أن بارت لم يكتب "شذوراً" صغيرة بل مقاطع تضمّ بعض التحليل والعرض والتأمل.