رأيت الرئيس الأسد أربع مرات فقط على مدى 30 سنة له في الحكم، ولم أعرفه كما عرفت الملك حسين مثلاً، فلم تكن بيننا جلسات مغلقة، واسرار، غير انني وأنا أراجع شريط ذكرياتي المحدودة معه، لاحظت انه في ثلاثة من الاجتماعات الأربعة التي اتيح لي حضورها معه تحدث عن الوحدة العربية... عن وحدة سورية الطبيعية أولاً، ثم الوحدة العربية الشاملة، كحلم راوده طيلة حياته. الدكتور بشار الأسد أعرفه بشكل أفضل، وقد وجدت وأنا اراجع ملاحظاتي عن اجتماعاتي معه، وآخرها في دمشق في أواخر السنة الماضية، ان موضوع الاقتصاد كان الغالب عليها. واختار اليوم بعضاً مما سجلت سابقاً، من وحي هذه الاجتماعات: - ليس سراً ان الدكتور بشّار الأسد خطا خطوات جريئة في محاربة الفساد وايقاف الهدر، وأثبت النظام انه لا يوجد "رأس كبير" في الحملة على الفساد، الا ان الدكتور بشّار أول من يعترف أن القضاء نهائياً على الفساد غير يمكن، وانما المهم حصره في أضيق نطاق ممكن، واشعار الفاسدين والمفسِدين ان هناك محاسبة شديدة. - الدكتور بشّار يقول إن محاسبة الفاسدين ووقف الهدر خطوة أولى، الا انها ليست هدفاً بذاتها، وانما وسيلة للوصول الى غاية هي تطوير مؤسسات الدولة وتحديث الادارة للنهوض باقتصاد جديد. - الكلام يظل أهون من التنفيذ فثمة حاجة الى كوادر مؤهلة لشغل المناصب القيادية في المؤسسات المحدَّثة، أو المستحدثة، والنهوض بأعباء الاقتصاد، مع قطاع خاص يتجاوز التاجر التقليدي الذي يستورد من الخارج ويبيع محلياً، ليضم صناعيين يبيعون في الخارج الانتاج المحلي. - هل يستطيع جيل بشار الأسد ان يطلق الاقتصاد السوري من عقاله؟ أكاد أقول ان المهمة مستحيلة لأنها من نوع اصلاح سيارة قديمة وهي سائرة على الطريق، فتطوير مؤسسات الدولة، ونشر تكنولوجيا العصر، واصلاح القوانين المكبلة لم يكد يبدأ، ومع ذلك فاقتصاد سورية يواجه دوره في منطقة التجارة العربية الحرة، بحسب قرار قمة 1996، فترفع الضرائب تدريجاً بدءاً من 1999، بمعدل 10 في المئة لتزول خلال عشر سنوات، وفي تحرير التجارة بحسب اتفاق مع لبنان فترفع الرسوم بمعدل 25 في المئة في السنة، لتزول خلال أربع سنوات، ومع هذا اتفاق الغات الذي حرر التجارة العالمية، ومفاوضات الشراكة مع أوروبا، ومؤتمر برشلونة لقيام منطقة تجارة حرة في حوض البحر المتوسط. عندما كتبت هذا الكلام الصيف الماضي، وزدت عليه ان الكوادر المطلوبة لبناء الاقتصاد السوري الجديد غير موجودة، سمعت احتجاجات فورية لأنني بدوت متشائماً، وقال لي وزير الخارجية السيد فاروق الشرع ونحن في نيويورك أنني سأفاجأ بتسارع خطوات الاصلاح، وبقدرة الاصلاحيين، وأصر على ان العملية صعبة، ولكن ليست "تكاد تكون" مستحيلة كما ذكرت. - السياسة اسهل، فالمفاوضات مع اسرائيل محسومة سلفاً من زاوية الانسحاب الكامل من الجولان المحتل فلا يعود هناك سوى التفاوض على طبيعة السلام الذي سيقوم بين الجانبين... - هناك درسان من الاتحاد السوفياتي تستطيع سورية التوكؤ عليهما، الأول: هو ان القوة النووية الهائلة لدولة عظمى لم تغنِ شيئاً عندما لم يسندها اقتصاد قوي، أي ان سورية لن تكون قوية سياسياً وعسكرياً، اذا لم تكن قوية اقتصادياً، والثاني ان التحول من اقتصاد موجه اساسه القطاع العام الى اقتصاد حرّ للقطاع الخاص فيه الدور الأكبر مهمة محفوفة بالمخاطر، فالنقلة المفاجئة وغير المدروسة هي سبب الخلل الاقتصادي الذي تتخبط به روسيا الآن، وما يرافقه من كوارث اجتماعية. - هل ينجح الدكتور بشار وجيله من الشباب في اجتراح معجزة اقتصادية سورية؟ لعلهم مع الاستفادة من تجارب دول المعسكر الاشتراكي ومصر يهتدون ايضاً بتجاربهم، فقد كانت هناك ثلاث مراحل اقتصادية واضحة المعالم في السنوات الأخيرة، بدأت سنة 1985 بقرار اقام قطاعاً مشتركاً من العام والخاص أفرز رجال أعمال معروفين، ثم جاءت مرحلة ثانية من الانفتاح سنة 1986 عندما سمح للقطاع الخاص بالعمل في المجال الزراعي، وتبعتها مرحلة ثالثة سنة 1991 بصدور القانون رقم 10 الذي سمح للسوريين وغيرهم بتأسيس شركات خاصة تعمل في الصناعة والزراعة والسياحة والنقل، مع تنازل عن دورها في مجالات استراتيجية مثل الكهرباء والاسمنت والغزل والنسيج. وربما أزيد اليوم ان حكومة الدكتور مصطفى ميرو تحتل مرحلة اقتصادية رابعة تشهد الغاء القوانين التي تكبل القانون رقم 10. شخصياً، اتفاءل بفهم الدكتور بشّار أوضاع بلاده، خصوصاً الأولويات التي يجب ان تحظى باهتمامه، وأعتقد انه اذا أعطي فرصة فسينجح.