ربما كان أفضل دليل على العهد المتجدد في سورية، انني تحدثت امس عن الاقتصاد، بدل السياسة في بلد خالطت السياسة فيه الهواء والماء، فقد طغى موضوع اصلاح الاقتصاد على جلسة طويلة لي مع الدكتور بشّار الأسد في دمشق الاسبوع الماضي. مع ذلك لا يجوز إهمال السياسة، فهناك حديث قديم جديد، عن مؤتمر قطري قادم لحزب البعث، وهناك تعديل وزاري متوقع، والأرجح ان ينتظر هذا وذاك تشكيل الحكومة الاسرائيلية لسبر توجهاتها وربما انقضاء الصيف. هل يعين الدكتور بشّار الاسد في موقع يناسب حجم المهمات الملقاة على عاتقه، او المتوقعة منه؟ هو ليس زاهداً في المنصب، الاّ انه لا يريد منصباً عالياً يصل اليه عن طريق وضعه العائلي، او منصباً منخفضاً لا يستطيع منه مواصلة الحرب على الفساد، وإصلاح الاقتصاد، وتطوير المؤسسات، ومواكبة العصر. باختصار، الدكتور بشّار فيه من طبابة العيون تلك الدقة اللامتناهية المطلوبة لتشخيص المرض، وفيه من أبيه صفة الحذر، فهو لا يريد ان يرفع توقعات الناس الى درجة تنتهي بخيبة آمالهم، مع صعوبة التحديات المطروحة، الا انه في الوقت نفسه لا يريد ان يحرمهم من الأمل بمستقبل يسعى اليه جهده، والله لا يكلّف نفساً الا وسعها. وتبقى السياسة أسهل، فالمفاوضات مع اسرائيل محسومة سلفاً، من زاوية الانسحاب الكامل من الجولان المحتل، فلا يعود هناك غير التفاوض على طبيعة السلام الذي سيقوم بين الجانبين لم أقل البلدين لأنني مثل السوريين افضل استعمال هذه الكلمة بعد توقيع اتفاق السلام لا قبله. والاسرائيليون يقولون ان حجم الانسحاب سيكون من حجم السلام، ما يعني انهم يريدون سلاماً كاملاً شاملاً هو موضوع المفاوضات لا الانسحاب نفسه. وفي النهاية فالقرار في شأن المفاوضات، او التعديل الوزاري، او مؤتمر الحزب في يد الرئيس ولا احد غيره، فنعود الى الاقتصاد وحاجة سورية الى انهاء عقود من الحماية للصناعة المحلية والزراعة لتستطيع المنافسة في سوق عالمية مفتوحة. هناك درسان من الاتحاد السوفياتي تستطيع سورية التوكؤ عليهما، الاول ان القوة النووية الهائلة لدولة عظمى لم تغنِ شيئاً عندما لم يسندها اقتصاد قوي، اي ان سورية لن تكون قوية سياسياً وعسكرياً اذا لم تكن قوية اقتصادياً، والثاني ان التحوّل من اقتصاد موجّه اساسه القطاع العام الى اقتصاد حرّ للقطاع الخاص الدور الاكبر فيه مهمة محفوفة بالمخاطر، فالنقلة المفاجئة غير المدروسة هي سبب الخلل الاقتصادي الذي تتخبط فيه روسيا الآن، وما يرافقه من كوارث اجتماعية. ثم هناك المثل المصري، فالدولة المصرية نجحت نجاحاً كبيراً في اطلاق الاقتصاد المصري، من دون ان يقع البلد في كوارث من النوع الذي شهده التحول في دول اوروبا الشرقية. ومصر الآن دولة ذات اقتصاد قوي يعتبرها صندوق النقد الدولي من "نمور" الشرق الاوسط. وقد تابع المسؤولون السوريون باهتمام كبير التجربة المصرية في الخصخصة، او التخصيص، وهم مع قناعتهم بضرورتها مصرّون على الا تحصر الثروة الجديدة في أيدي 20 رجلاً او 30 فلا يصل الى بقية الناس منهم غير ما يفيض عن حاجتهم. هل ينجح الدكتور بشّار الأسد وجيله من الشباب في اجتراح معجزة اقتصادية سورية؟ لعلهم مع الاستفادة من تجارب دول المعسكر الاشتراكي ومصر يهتدون ايضاً بتجاربهم، فقد كانت هناك ثلاث مراحل اقتصادية واضحة المعالم في السنوات الاخيرة، بدأت سنة 1985 بقرار أقام قطاعاً مشتركاً من العام والخاص، أفرز رجال اعمال معروفين، ثم جاءت مرحلة ثانية من الانفتاح سنة 1986 عندما سمح للقطاع الخاص بالعمل في المجال الزراعي. وتبعتها مرحلة ثالثة سنة 1991 بصدور القانون رقم 10 الذي سمح للسوريين وغيرهم بتأسيس شركات خاصة تعمل في الصناعة والزراعة والسياحة والنقل، مع تنازل عن دورها في مجالات استراتيجية مثل الكهرباء والاسمنت والغزل والنسيج. كل مرحلة من هذه كانت جيدة في وقتها… وناقصة، حتى وصلنا اليوم الى وضع لا يزال رجل الاعمال السوري يواجه فيه القانون 24 الذي يمنع التعامل بالقطع الاجنبي ويفرض غرامات مخيفة على المخالفين، في بلد لا توجد فيه بورصة للتداول بالاسهم. يقول المثل "آخر الدواء الكي"، ونقول ان النظام السوري حذر بطبيعته، وحذره هذا هو الذي مكّنه من الاستمرار وأعطاه أسباب القوة، لذلك ربما كان صعباً عليه ان يقبل فكرة استبدال تغيير جذري بمشية السلحفاة الوئيدة، ولكن الوطيدة التي يتقنها. مع ذلك فنحن لا نتكلم عن النظام السوري القائم منذ 1970، وانما عن نظام متجدد مع جيل بشّار الأسد. هذا الجيل قد يقتبس من الثقة السياسية ثقة اقتصادية، وقد رأينا في الأشهر الأخيرة أمثلة متتالية على ثقة النظام بنفسه، فأركانه التاريخيون أحيلوا على التقاعد مع بلوغ كل منهم السن القانونية من دون مشكلة اطلاقاً. بل ان ثقة النظام بنفسه انعكست على لبنان، فبعد العلاقة المكبلة او الخانقة، لا يهم سورية الآن من أمر لبنان سوى الأمن المشترك والمسار المشترك، وهما محسومان، لذلك فالمسؤول السوري الكبير لا يريد ان يعرف عن الامور الاخرى مع استعداد اطراف لبنانية كثيرة لابلاغه من دون طلب. الدكتور بشّار الأسد سيبني لنفسه بعداً عربياً بعد التجربة اللبنانية، الا ان أداءه الاقتصادي سيظل أصعب مهمة يواجهها اليوم او غداً.