تمر المجتمعات السياسية كافة بأزمات شتى. بعض تلك المجتمعات يتفاعل حول أزماته بصورة عفوية، فتدفعه عواصف الفعل ورد الفعل الى حيث لم يكن يرغب أو يتصور. أما المجتمعات السياسية الذكية فإنها ترفض تسليم أشرعتها للعواصف، فتسبر غور القضايا المثارة، وما وراء إثارتها من ضغوط، قد لا يكون لها صلة تذكر بهذه القضايا، وتعيد تكوين السياق الذي انفجرت منه الأزمات، لكي تطبق حلولاً تقود المجتمع الى حيث يشاء أو يرجو. فإذا طبقنا هذه الطريقة الأخيرة على الأزمة الأخيرة التي أثارها حزب "العمل" المصري المعارض، قد ننتهي بوضوح الى استنتاج أن ثمة حلولاً أخرى أنفع للمجتمع وأكثر سداداً وتوفيقاً في علاج الأزمة، اذا اتفقنا على إحداث تغييرات بسيطة في السياق الذي انفجرت فيه الأزمة. إن السياق الذي نشير إليه هو حال الحياة الحزبية كلها في مصر. اذ يستحيل فهم اختيار قادة حزب العمل تحويل قضية عادية كان يمكن حل الخلاف حولها بحوار هادئ بين المختصين في شؤون النقد والادب الى عاصفة كبرى من دون الاشارة الى التداعيات الحتمية للقيود والاحتقانات التي تعاني منها الحياة الحزبية والصحافية. وبالتالي يكون من الخطأ أن نعالج الأزمة بطريقة مضاعفة هذه القيود والاحتقانات. إن الوعي بالحاجة الى مدخل واقعي ومتوازن لحل تلك الأزمة تبلور - لحسن الحظ - لدى القطاعات الأكبر من المجتمع السياسي. وعبّرت احزاب المعارضة كلها وغالبية المفكرين عن الرأي السليم القائل بأنه ليس من الصواب معالجة خطأ بخطأ. وأن هناك مداخل اخرى لحصر تداعيات الاخطاء الكبيرة التي ارتكبها حزب العمل أو بالأحرى صحيفته غير تجميد الحزب. غير أن هذا الرأي السليم يبدو لي مع ذلك ناقصاً في أوجه جوهرية، وأعني بالتحديد ان تلك الأزمة كان مناسبة مثالية للتصدي بشكل واقعي ومتوازن لإشكالية تمثيل التيارات الاسلامية في النظام السياسي، وتحديداً في البنية التعددية الحزبية. إذ ينبغي الاعتراف بأن الفكر السياسي الرسمي وغير الرسمي في بلدنا لم يصل بعد الى حل سليم وواقعي ومتوازن لتلك الإشكالية. ويمكن صوغ تلك الإشكالية بصورة نظرية - وهي بالطبع تجريدية الى حد ما - في كيفية التوفيق بين اعتبارين متعارضين. الاعتبار الأول هو الحيلولة من دون نشوء حزب ديني، وبخاصة اذا كانت له طبيعة مغلقة او كانت هياكله الحقيقية المنفذة والتي يتم فيها اتخاذ القرارات الجوهرية ذات طبيعة سرية. فالحزب الديني كفكرة يتعارض جوهرياً مع النظرية والمثل الديموقراطية. وبديهي انه قد ينتهي الى تكوين دولة دينية، والى تقسيم الأمة، وهدر طاقتها وإثارة شتى صور العنف الأخلاقي والرمزي والمادي فيها، وهو ما حدث في حالي السودان وايران، ناهيك عن حال افغانستان. اما الاعتبار الثاني فهو الواقعية السياسية. فإذا شاء المجتمع ان يتطور سليماً، فإنه يجب ان يستأصل تماماً اختيار استئصال تيار سياسي واسع له انصار متحمسون بعضهم من أثمن ما تملكه الأمة من شخصيات، وبعضهم يعمل من داخل جهاز الدولة ذاته، وجميعهم لهم نفوذ وتأثير في المجتمع ككل، وفي فئاته الوسطى الحديثة بالذات، مثلما هو الحال في بلدنا. وتملي الواقعية والممارسة السياسية الأخلاقية معاً، ليس استبعاد سيناريو الاستئصال فحسب، بل وسيناريو التجاهل أيضاً. إذ أن هذا السيناريو او الاختيار مستحيل بذاته. فإذا كان المجتمع يشغي بالتيارات الدينية السياسية، فإنها سوف تجد طريقها للتعبير عن نفسها بشكل أو آخر. وسوف تكون تلك الأشكال بالغة التعقيد والتشوه وأكثر ضرراً بالديموقراطية وبنسيج ا لمجتمع السياسي من أي اختيار او سيناريو آخر. والواقع ان الدولة تأخذ باختيار التجاهل تماماً خلال السنوات القليلة الماضية. فتحت رماد الحياة الحزبية كانت هناك نار فعلاً. وما بدا للبعض من سكون أو ركود الحياة الحزبية ليس تعبيراً عما يحدث في الواقع وتحت السطح. لقد أنتجت القيود الصارمة المفروضة على الحياة الحزبية انفضاضاً واسعاً للكوادر الأساسية للأحزاب كافة ولغالبية الأعضاء. غير أنه كانت هناك ايضاً عملية فرز واعادة تسكين لا تخطئها عين الخبير، ولم تكن بالطبع خافية على الدولة. ولا شك أن عملية الفرز وإعادة التسكين تقوم بدور جوهري وايجابي في الحياة السياسية والحزبية لأي مجتمع. ولو تُركت للتداعي الحر لكانت انتجت حلولاً عبقرية ومفيدة على السطح وفي العمق على السواء. ولكنها في حالتنا لم تكن بالقطع كذلك، ببساطة لأنها لم تترك للتداعي الحر. كما أنها لم تخضع لتأمل عميق ولقرار استراتيجي يدمجها في رؤية أو تصور بعيد المدى لتطور المجتمع السياسي في الاتجاه المرغوب. لقد طال حزب العمل كثير من نتائج عملية الفرز واعادة التسكين هذه. ومن بين هذه النتائج أنه تحول فعلاً الى حزب ديني. ولكن هذا التحول اتسم بخصوصية فريدة. اذ نجحت القيادة الحالية للحزب في توليد ما يكفي من الضغوط لإخراج قطاعات كبيرة ساهمت في تأسيسه. فخرج القطاع الأقرب إلى الناصرية أولاً، ثم خرج القطاع الاقرب الى فكر "مصرالفتاة" ثانياً. ثم اختارت عناصر عدة من الشخصيات المهمة فيه والتي رغبت في مزج معتدل بين الناصرية والنزعة الاسلامية السياسية إما أن تجمد نفسها وأن تساير التيار الذي تعبر عنه القيادة التنفيذية. وفي المقابل، حرصت تلك الاخيرة على ضم وتصعيد ممثلي التيار الاسلامي الأكثر تطرفاً والذين جاءوا، إما من صفوف الاتجاه الجهادي أو من المخزون السلفي الهائل. و بالتالي تحول الحزب فعلاً الى حزب ديني. ووافقت الدولة ضمناً على هذا التحول، وذلك حتى صدور قرار التجميد. وربما نفسر قرار التجميد كالآتي: لقد كانت الدولة تأمل في أن يؤدي استيعاب حزب العمل لممثلي التيارالاسلامي المتطرف الى تشذيب هذا الأخير او اعادة تثقيفه في اتجاه الاعتدال. وفوجئت الدولة بأن ما حدث هو العكس: أي أن التيار المتطرف اكتسح الاعتدال النسبي للحزب. بل إن الدولة لم تأخذ في اعتبارها ان المشروع الفكري والسياسي الحقيقي للقيادة التنفيذية والنظرية للحزب لا يختلف سوى في التفاصيل عن التيار الاسلامي ذاته الاشد تطرفاً. ووصلنا بذلك الى نتيجة غريبة وبالغة التشوه الى حد عدم التصديق. فالدولة لم تكف عن ضرب وفرض الحصار على حركة "الاخوان المسلمين"، ولكنها في الوقت نفسه سمحت باستيلاء التيار الأقل اعتدالاً بكثير على حزب العمل. وصار هناك حزب رسمي مغموس كلية في الطابع الديني، ولا يمثل سوى الاتجاه الراديكالي الذي لم يكن له أي نفوذ سياسي أو مدني حقيقي في البلاد. أما الاتجاه "الاخواني" الذي يملك فعلاً هذا النفوذ فإنه محروم من الاعتراف به، ويعيش حالاً حقيقية من الحصار. بل وتبدو النتيجة الاغرب كما يلي. لقد نجحت قيادة حزب العمل - من خلال الحملة الأخيرة - في فرض طبيعة تابعة لحركة "الاخوان المسلمين" وجرهم الى موقف لم يكونوا ليتخذوه بالضرورة لولا شعورهم بالحصار من ناحية والحرج من ناحية اخرى. وهكذا، وقبل ان يتخذ قرار تجميد حزب العمل، كان الاعتراف قد وقع بوجود حزب ديني، ولكن هذا الاعتراف سلم - للغرابة - لعناصر هامشية في حركة الاسلام السياسي، كما أنه وقع من دون اعتبار لنتائجه طويلة المدى والتي هي فعلاً ضارة بالمجتمع السياسي كله، ناهيك عن أنها ضارة بالتيار الاعتدالي في الحركة الاسلامية. لقد أخذنا الواقع الى جولة طويلة بعيداً عن الإشكالية الجوهرية التي يتعين على المجتمع السياسي ان يبدع حلاً لها. واتصور أن مثل هذا الحل موجود نظرياً، وأنه جدير بأن نجربه، أو على الأقل ألا نصادر عليه. يقوم هذا الحل في عناصر خمسة تمثل مقدمات لعملية طويلة المدى لتطور ديموقراطي سلمي ومتناسق، وهي: 1- السماح لما هو فعلاً - حتى الآن - اتجاه أو حركة دينية سياسية بأن تشكل حزباً سياسياً على أساس قانون يحظر الاحزاب الدينية، إذا كان مستعداً للتخلي عن مشروع تأسيس دولة دينية. 2- ويقوم القانون بالزام هذا الاتجاه او هذه الحركة بالتصرف فعلاً كحزب بتقديم برنامج سياسي وتشكيل لهياكل سياسية واقامة ممارساته داخل البرلمان وخارجه كحزب سياسي وليس كحركة دينية، فيحظر اقامة أية تشكيلات سرية أو عسكرية وشبه عسكرية، أو فرز الناس على أسس دينية، ويسمح لمواطنين اقباط بدخوله كاعضاء، ولو من حيث المبدأ. 3- يقوم القانون بمنع صور التحريض الديني كافة، أو التحريض على اعمال العنف داخل هذا الحزب أو خارجه. ويكون الحزب مسؤولاً امام القانون والمجتمع عن انتاج خطاب سياسي، قد يستند في نهاية المطاف على المرجعية الدينية التي يشاركه فيها فرقاء الحياة السياسية وشركائها كافة. 4- ويقوم المجتمع السياسي - بما في ذلك الجهاز السياسي للدولة - بتفعيل الوسائل والاستراتيجيات المناسبة لضمان تأقلم هذا الحزب مع التقاليد المرعية في مجتمع ديموقراطي، والتوجه نحو الاعتدال بما يتماشى مع المصالح الاستراتيجية الجوهرية للدولة المصرية، كدولة وطنية. 5 - ومن بين هذه الوسائل والآليات إفراز عوامل تساعد على تولي شخصيات اعتدالية للمناصب القيادية في هذا الحزب. على ألا يكون ذلك من خلال التدخل المباشر في الآليات الديموقراطية الداخلية التي يجب ان تلتزم بها الاحزاب كافة. ويفترض هذا التصور ان يتم السماح بتكوين هذا الحزب للاتجاه الأكثر اعتدالاً من التيار الاسلامي السياسي، على نحو يجعله الأكثر قدرة على نظم وتهذيب هذا التيار بما يتوافق مع التقاليد الديموقراطية في مجتمع ناهض وعقلاني حديث. وفي تقديري ان الاتجاه المؤهل حقلاً لهذه المكانة هو حركة "الاخوان المسلمين". فهي الحركة الأم التي تفرعت عنها الحركات الاخرى. ثم أنه لا يمكن انكار ما اجرته من تعديلات جوهرية على فكرها وخطابها، والأهم استراتيجيتها السياسية. فهي ابتعدت بما فيه الكفاية عن أية استراتيجية ثورية أو انقلابية، وتبنت استراتيجية تقوم في الجوهر على الدعوة. وهي تنأى بنفسها عن أساليب الصدام العنيف، ولا تكف عن المطالبة بالحوار وانتهاج الاساليب السلمية في الممارسة السياسية. وهي تقبل بالنموذج الديموقراطي - ولو في ملامح اساسية له، كما أنها تخلّت عن كثير من المواقف المتزمتة ازاء المرأة والاحزاب السياسية الاخرى والمجتمع المدني الواسع. وقد يقول البعض إن هذه التحولات ليست سوى تكتيك حتى تصل الحركة الى السلطة، فتقلبها على أعقابها. غير أننا حتى اذا قبلنا بهذا التوصيف، لا يزال أمامنا وقت طويل لنتأكد من خلال الممارسة، حتى لا نصدر حكماً مسبقاً وتعسفياً لا نملك عليه دليلاً كاملاً. ثم اذا قارنا حركة "الاخوان المسلمين" بما يعتمل في داخل التيار الاسلامي الواسع لوجدنا أكثر بكثير من مجرد كونها الأكثر اعتدالاً. فالواقع ان الحركة اذا تحولت الى مركز الثقل السياسي المقنن داخل هذا التيار تستطيع المساعدة في تحرير المجتمع وتطهير التيار الاسلامي من أسوأ عناصره. فلا شك أن هناك خطراً كامناً ورهيباً يعمل في الأساس التحتي للتيار الاسلامي. أو باسمه، ويتمثل في انتعاش هائل للخرافة وللجمود الطقسي والذي يرعاه اتجاه سلفي معاد لمظاهر الحداثة والاعتدال كافة. وهو اتجاه فقد شعبيته في بلد عربي شقيق واكتسب شعبية ليست محدودة في بلدنا. كما أن حركة الاخوان المسلمين وحدها هي القادرة على دحر الاتجاه الجهادي العنفوي الذي عانت البلاد من إرهابه المادي والفكري طوال ربع القرن الماضي. إن هذا التصور الاستراتيجي طويل المدى لا يدعو مطلقاً الى تجميد حزب العمل أو حله أو أي شيء من أشكال التدخل الإداري ضده. ولكن هناك ما يدعونا الى استنتاج أن مجرد الاعتراف القانوني بالأصل سوف يفضي حتماً الى وقف المزايدة الدينية من جانب حزب العمل. فإما أن يتوقف عن هذه المزايدة ويستعيد طابعه الحزبي المدني بتشكيلته التي بدأ بها، أو ان يفقد مكانته التي اصبحت"مركزية" داخل التيار الاسلامي بفضل ما يحوزه من امتياز أو احتكار قانوني لتمثيل هذا التيار. كما أننا إمعاناً في الحصول على تطمينات كافية، لا ندعو بالضرورة الى تطبيق هذا التصور فوراً. بل ندعو الى التفكير فيه ملياً والبدء بمشاورات مع الاطراف كافة، ذات الصلة للبدء بوضعه موضع التطبيق في توقيت يتفق عليه، ومن جانبنا فنحن نتمنى أن يكون هذا التوقيت مناسباً ايضاً للبدء في تطبيق اصلاحات سياسية ملموسة. * نائب مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية - القاهرة.