"انصحك بأن تضع دائماً نصب عينيك انجازات الفرس والكمبوديين، والمصريين بعض الشيء. وأعلم ان الخطأ الكبير هو اليونان، على رغم جمالها". هذه العبارات وردت، عند بدايات هذا القرن، في رسالة بعث بها الرسام الفرنسي غوغان الى صديق له، يحدثه فيها عن افضل المرجعيات التي تصلح متكئاً للوصول الى تحقيق فن جميل وأصيل. في ذلك الحين كان غوغان قد وصل الى نهاية حياته تقريباً، اذ انه سوف يرحل عن عالمنا، فقيراً مريضاً ووحيداً، يوم الثامن من ايار مايو 1903. لكنه سوف يرحل سعيداً، لأنه برحيله في الجزر الاستوائية، حيث الشمس والالوان الزاهية كان عرف كيف يحقق حلماً قديماً وأصيلاً من احلام صباه. فغوغان كان دائماً يحلم بالشرق، بالشمس، بالدفء وبخط الاستواء. وكان دائماً يريد ان يحقق لوحات تنقل ذلك الدفء من دون ان تنتمي الى اية مدرسة محددة، اللهم الا مدرسة النور المطلق. وغوغان في بحثه الصاخب عن تحقيق تلك الرغبة، عاش منذ وقت مبكر من حياته، تلك البداوة التي سيعرفها ويعيشها الكثير من فناني القرن العشرين بعد ذلك، ولا سيما منهم، السينمائيون. ولكن لئن كان قد قدّر لهؤلاء، وتحديداً لأسباب سياسية غالباً، وبعد ذلك لأسباب تتعلق بعالمية فن السينما بالتحديد، وأحياناً لأسباب تتعلق بالبحث عن صور جديدة ومفاجئة وغريبة، كان دافع غوغان الى الشرق، والى غير الشرق، بحثه الدائم عن الضوء يزين الوان لوحاته، هو الذي سئم الالوان الغامقة. والحال ان هذا الفنان الاستثنائي الذي لم يعرف سوى الفشل خلال المراحل الاولى من حياته، تمكن من تحقيق حلمه وإن كان قد مات قبل ان ينال هو ثمار عمله. ولد بول غوغان العام 1848 في باريس التي كانت في ذلك الحين تصخب بأحداثها السياسية الخطيرة. وبعد ثلاثة اعوام من ولادتها وإثر الانقلاب الذي قام به لوي نابوليون، وجدت اسرة غوغان ذات الاصول البورجوازية، ان الوقت قد حان للرحيل، وهكذا توجهت العائلة الى ليما في البيرو، من دون ان يثبط من عزيمتها كون رب الاسرة قد مات في الطريق. وسوف يعيش بول غوغان الطفل في ذلك البلد الاميركي اللاتيني المشرق حتى سن السابعة. اي انه عاش هناك طوال اربع سنوات، ظلت ذكرياتها منطبعة في ذهنه حتى آخر ايامه، وكانت هي ما حكم رغبته الدائمة في البحث عن الشمس. بعد ذلك عادت العائلة الى فرنسا، حيث تلقى بول دراساته الابتدائية والثانوية، ثم التحق بالبحرية. وحين ماتت امه وكان لا يزال مراهقاً، وجد الفتى انه بات من الفقر بحيث يتوجب عليه البحث عن عمل، اي عمل. وهكذا بدأت رحلة حياته الشاقة وبدأ يبحث عن لقمة العيش في الوقت نفسه الذي اكتشف فيه انه يريد ان يرسم. منذ تلك اللحظة صارت حياة غوغان ثلاثية الاتجاه: اتجاه نحو الرسم، اتجاه نحو البحث عن عمل يقيم اوده، واتجاه نحو الترحال الدائم. اصبح بدوياً حقيقياً. في البداية اكتفى بالتنقل بين المدن والمناطق الفرنسية، مرة مع زميله كاميل بيزارو، ومرة في آرل مع فان غوغ الذي سرعان ما اختلف معه. اما ارتحاله الاول الى الخارج، فكان حين اقام في كوبنهاغن بالدانمرك، بعد ان تزوج من دانمركية. غير ان الفشل كان طوال ذلك الحين كله من نصيبه: الفشل في الحياة العائلية، والفشل الفني حيث ان لوحاته الاولى التي تأثر فيها بالمناخ الانطباعي السائد لم تقنع احداً، ثم الفشل في الحصول على اي استقرار. وهكذا راح يهرب الى الامام، فيتوجه الى مقاطعة بريتاني محاولاً ان يجدد في مواضيع رسمه، ثم يعود الى باريس حيث يعمل لاحقاً للأفيشات، ثم يقع مريضاً مع ابنه كلوفيس، ثم يترك كل شيء ويرحل من جديد. غير ان هذا كله لم يكن اكثر من تحضير لسفره الاكبر. السفر الذي بدأ يتجسد حين شارك في المعرض الدولي في باريس، وزار جناح جاوا الاندونيسي، وبدأ تأثره بالشرق يبدو واضحاً. ومنذ تلك اللحظة صار الشرق هاجسه،. وهكذا ما لبث ان اتجه الى تاهيتي في العام 1891، وهناك عاش مع فتاة تاهيتية شابة صارت ملهمته. وراح يرسم تلك اللوحات التي فاجأت الجمهور والنقاد وفتحت آفاقاً جديدة، لوحات عامرة باللون والضوء والموسيقى. وفيها عكس الحياة اليومية للناس الفطريين هناك، الناس الذين احبهم وأحبوه وصار معبراً عنهم وعن تطلعاتهم، مازجاً اياها بأفكار ربما وصلت الى ذروتها في لوحته الاشهر "من اين جئنا؟ من نحن؟ والى اين نسير؟". وهكذا عثر غوغان اخيراً على الهامه الحقيقي وراح يرسم وقد بدأ يصارع المرض والخوف بقوة. بعد ذلك عاد الى باريس حيث اكتشف انه ورث بعض المال عن قريب له. غير ان اقامته لن تطول هذه المرة، اذ سرعان ما عاد الى تاهيتي ليرسم من جديد على رغم اعتلال صحته وأيضاً لكي يمضي جل وقته وهو يدافع عن السكان المحليين ضد الاوروبيين الذين لم يتوقف عن تسخيفهم. وفي جزر المركيز كانت نهايته، ولكن بداية اسطورته، هو الذي، راح الكثيرون يقلدون اسلوبه، بل ايضاً يرغبون في عيش حياته، وفي مطاردة الشمس كما فعل. الصورة: غوغان كما رسم نفسه.