بعد ما يزيد عن عقدين من الانتاج الدرامي التلفزيوني العربي الكثيف والجدّي، شاهدنا خلالهما اعمالاً ذات سوية فنية متقدمة، وسط ركام من الاعمال الغثة او المرتجلة، صار في الامكان الاشارة الى ان الاعمال الدرامية التلفزيونية العربية الأهم، والاكثر رسوخاً في ذاكرة المشاهد العربي، تلك التي قامت على ما يمكن تسميته مجازاً ب"الرواية التلفزيونية". فهذه تقدم الى المشاهد حياة متكاملة زماناً ومكناً، وتلقي الضوء على ما في ذلك الزمان والمكان من شخصيات تعيش صراعاً نشاهده بتفاصيله، وفي آحاده القصوى، حيث تذهب التفاصيل كلها نحو ذروة درامية كبرى هي مفتاح العمل، وحيث هذه الذروة الدرامية الكبرى قادرة بدورها على حمل التفاصيل والاستجابة لها. الامثلة على الرواية التلفزيونية اكثر من ان تعدّ، لكن ابرزها في تقديري، ما كتبه للشاشة الصغيرة الكاتب المبدع اسامة انور عكاشة، وحققه عدد محدود من المخرجين محمد فاضل، اسماعيل عبدالحافظ، جمال عبدالحميد، إنعام محمد علي وغيرهم. وهي اعمال كانت الميزة الابرز فيها تقديم تشريح إجتماعي يكشف وعي الافراد والجماعات، ويقدم في الوقت نفسه رؤى بانورامية للأحداث سواء في خلفياتها وأصولها، او في تأثيراتها المباشرة على المجتمع والناس. رأينا هذا في "ليالي الحلمية" بأجزائه المتعددة التي رصدت صعود طبقة اجتماعية وحقيقة دورها، في وقت كنا نشاهد احداثاً متسلسلة للتاريخ، ولكن في سردية نقدية لا تكتفي بإيراد الاحداث والوقائع، بل تعمد الى تقديمها من وجهة نظر الكاتب والمخرج، وخلال ذلك كله لا يغفل محققو العمل عن تقديم قراءات عميقة للشخصيات من الداخل، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند تصرفاتها وردود افعالها الخارجية، فأمكن مثلاً قراءة التطورات العاصفة التي حدثت في المجتمع المصري، والتي افرزت منظومة جديدة من العلاقت الانسانية، وكشفت التحولات في وعي الافراد، بتأثير مباشر من العلاقات السياسية والاقتصادية الجديدة. وقد رأينا ذلك ايضاً في "ابواب المدينة" حيث رصد عميق لآفاق الرأسمالية الوطنية المصرية ووعيها، فيما توجه "الشهد والدموع" لتشريح العلاقات الاسرية في ضوء موضوعة الميراث، وما يمكن ان يتسبب فيه من صراعات. والامثلة من اعمال اسامة انور عكاشة كثيرة، نذكر منها "وقال البحر"، "الراية البيضاء"، "عصفور النار"، "ارابيسك"، "زيزينيا"، "الحب وأشياء اخرى" و"عابر سبيل" وغيرها. بين الحكاية والرواية اما في الانتاج التلفزيوني السوري فرأينا الرواية التلفزيونية تتحقق في اعمال المخرج هيثم حقي في العقد الاخير، "هجرة القلوب الى القلوب" الذي كتبه الروائي عبدالنبي حجازي، "خان الحرير"، بجزءيه، والذي كتبه نهاد سيرليس، وأيضاً عمل نهاد سيرليس الثاني "الثريا"، ثم في عمليه الاحدث "رماد وملح" الذي كتبه الشاعر اللبناني جوزيف حرب، و"سيرة آل الجلالي" الذي كتبه الروائي الشاب خالد خليفة. هذه الاعمال على اختلافها انطلقت من فهم عميق لموضوعة الدراما التلفزيونية، اذ هي عثرت على الفارق المهم والمفصلي بين الحكاية والرواية، فإذ تفترض الحكاية تزجية وقت المتفرج من خلال سرد لوقائع وأحداث جرت لفلان من الشخصيات، تقوم الرواية التلفزيونية في اساسها على الصراع، ليس في جانبه المتعلق بالبنية وقصدية التشويق، ولكن - وهذا هو الاهم - في جانبه المتعلق بالاحداث المروية نفسها، والتي هي بمعنى ما وقائع صراعية بالضرورة، وتترتب عليها حقائق جديدة. من هنا نشأت الحاجة، في استمرار، الى كتابة درامية تلفزيونية تتجاوز النظر الى الاحداث في مظهرها الخارجي، وتعمد الى الغوص عميقاً في حقائق الاحداث من جهة، وفي داخل الشخصيات وما تحمله من وعي وتطلعات من جهة اخرى، اي ان الكتابة الدرامية التلفزيونية المرتفعة السوية هي بالضرورة التي تتجنب التبسيط في شقيه، المتعلق بالاحداث، والمتعلق بالشخصيات. ففي الجانبين يبحث المشاهد عن الحقيقة التي يعرف بوعيه وبتجربته انها ليست حقيقة "إخبارية" يمكن إلقاؤها في صورة تبسيطية، مباشرة وساذجة، بل هي بالضرورة تحليل لا بد له من تقليب الامور لرؤيتها من وجوهها المتعددة بل المتناقضة احياناً، فلا حقيقة مطلقة في الواقع والحياة. الصراع في "هجرة القلوب الى القلوب" صراع متشابك، ضد الظلم في احد وجوهه وضد قسوة الطبيعة وما تولِّده من صراع على الماء الذي يصبح في هذه الحال، مصدر الثروة والقوة، ورمزهما ايضاً. اما صورة الصراع فنياً فتقوم على رصد وعي وأفعال لمجموعات كبيرة من الناس ترتبط بوشائج المكان والزمان، وكذلك تشابكات الحدث وما يحمله ويقرره من ادوار على ساحتي الخير او الشر. اما في "خان الحرير" فإن الحدث التاريخي المعروف بعناوينه الكبرى يمتزج بمواقف الناس، افراداً وفئات اجتاعية، على خلفية الوعي السياسي والاجتماعي لكل فرد او فئة في سباقات سردية تفتح الباب لاجتهاد يقول خلاله صانعو العمل رؤيتهم لقضية الوحدة العربية، ولكن من دون خطابية تثقل، وهو ما نرى شبيهاً له في "رماد وملح" حيث الرؤية العميقة لخلفيات الحرب اللبنانية وما وراء احداثها الدموية خلال عقدين من الزمان. اما في "الثريا" فإن الكاتب والمخرج يقدمان حكاية حب حارة في سياق احداث تاريخية تتواصل من الحرب العالمية الاولى حيث الاحتلال العثماني، وحتى سيطرة الانتداب الفرنسي وبدايات المقاومة الشعبية ضده. وفي "سيرة آل الجلالي" يرصد المؤلف خالد خليفة والمخرج هيثم حقي هزيمة الطبقة الوسطى واندحارها امام زحف الفئات الطفيلية، وما يعكسه من دمار للقيم الاخلاقية والثقافية وحتى للتقاليد التي نرى، في وضوح، غيابها عند السوق التجارية وما تكتسبه من عادات جديدة، شاذة ومستهجنة ونراه ايضاً في اندحار القيم الفنية الراقية امام زحف التهريج وفنون التسلية الرخيصة. اقل حظوة "الرواية التلفزيونية" بهذا المعنى وبسببه اصعب كتابة واخراجاً، وهي ايضاً اقل حظوة في اوساط الجهات الانتاجية والمحطات التلفزيونية، او لنقل بدقة اكثر، إن الحال كانت هكذا خلال السنوات القليلة الماضية، حيث صعدت في سرعة، وهوت في سرعة اكبر، موجة الدراما التلفزيونية الشكلانية التي وجدت ضالتها في ما اصطلح على تسميته ب"الفانتازيا التاريخية"، وأهم مفرداتها تغييب الزمان والمكان، واعتماد احداث تقوم على المصادفات. فإذا قلنا إن "الرواية التلفزيونية" اتكأت على مفهوم الرواية وشروطها الفنية، فإن "الفانتازيا" لم تعبأ إلا بالحكاية وفي اكثر اشكالها بدائية وتبسيطاً، حيث شخصيات مسطّحة وذات بعد واحد خيِّر او شرير، من بداية العمل الى نهايته، وحيث العرب نبلاء والعجم ماكرون وأشرار... فضلاً عن اعتمادها في صورة شديدة المبالغة على تقديس وهم القوة في ذهن مشاهد عربي يرى بأم عينه ضآلة الايجابي وحجم المساحة السوداء في حياته العامة والخاصة سواء بسواء. هذا اللون من الدراما التلفزيونية لا يقدر ان يتعامل في صورة موضوعية مع البطل الدرامي، فنراه يقدم ابطالاً مقطوعي الجذور عن اي وشائج اجتماعية، الى الحد الذي تبدو فيه صفاتهم الشخصية "موروثة"، ساقطة من فراغ لتقع في فراغ، في حين تذهب "الرواية التلفزيونية" الى إكساب الحكاية وما يتجول فيها من ابطال، اللحم والدم. فنراهم في سياقاتهم الاجتماعية لا يمتلكون مواصفات ثابتة ونهائية، بل هم بشرٌ تؤثر فيهم الاحداث، بل تستطيع ان تعيد تشكيل سلوكهم وأخلاقهم ووعيهم. العامان الماضيان شهدا إنحسار هذه الموجة وبداية انفضاض المشاهدين من حولها، ليعود الأمر الدرامي التلفزيوني الى حقيقته بصفته فناً يحاور هموم الحياة وأوجاع الناس بشروط فنية وجمالية عالية، وهو ما يجعل الحاجة الى كتابة "الرواية التلفزيونية" اكثر اهمية من اجل الارتقاء بهذا الفن الجماهيري وتمكينه من جذب المشاهد، ليحقق معادلة الوعي من خلال الحوار ومن خلال تقديم رؤى فكرية وجمالية نظيفة.