لم أنته من الموسوعة لا في عام 1984 كما كنت أنوي ولا عام 1994 كما كنت أتمنى، وإنما بعد ما يقرب من ربع قرن، ما جعل الموسوعة جزءاً من حياتي وحياة اسرتي. أعرف شباباً في الأسرة كانوا يسألونني عن الموسوعة، وأعرف أن ليس لهم اهتمامات سياسية أو فكرية، كنت أدهش لسؤالهم، لأعرف منهم أنهم منذ ولدوا وهم يسمعون عن هذه الموسوعة. كثيراً ما يُطرح عليّ سؤال: لِمَ استغرقت كتابة الموسوعة كل هذا الوقت؟ ولِمَ لم أنشرها بالتدريج عبر سنوات عدة؟ أشير ابتداء الى أن عملية التأسيس تستغرق وقتاً طويلاً للغاية، إذ أن المرء الذي يريد أن يؤسس نسقاً فكرياً تحليلياً لا ينقل معلومات وحسب، ولا يحاول أن يربط بينها ويجرد منها، وإنما عليه أن يقوم بتطوير نماذج تفسيرية يعيد قراءة التاريخ والواقع في ضوئها، ولأنها قراءة جديدة عليه أن ينحت مصطلحات جديدة. والموسوعة لأنها تستخدم النماذج التحليلية، تتسم بالترابط الشديد، وخصوصاً أن النماذج التحليلية الأساسية تداخلت، فنموذج الحلولية تداخل مع نموذج العلمانية الشاملة... اللذان تداخلا بدورهما مع نموذج الجماعة الوظيفية. وكثيراً ما كنت أعيد صوغ النموذج التحليلي في ضوء بعض المعطيات الجديدة. فالعلاقة بين النموذج والمعلومات حلزونية، يعيد النموذج ترتيب المعلومات وتنسيقها، وتعيد المعلومات ترتيب النماذج وتنسيقها. فأجد نفسي مضطراً لإعادة كتابة الموسوعة بأسرها. أذكر أنني كنت على وشك إرسال المداخل الخاصة بالجماعة الوظيفية لتُكتب على الآلة الكاتبة قبل أن يكون عندنا كومبيوتر وكان ابني في طريقه الى الكلية، فطلبت منه الانتظار بضع دقائق لإضافة سطرين. فانتظر، وإذا بي أجد أن الأمور تستغرق وقتاً أطول، فطلبت منه أن يذهب الى كليته ثم جلست مدة شهرين أعيد كتابة المداخل. ثم أعدت كتابة الموسوعة وصوغ مصطلحاتها في ضوء التعديل الجديد واستغرق هذا بدوره بضعة شهور. ولا بد من الاشار الى أن طبيعة العمل الموسوعي مختلفة عن العمل التأليفي العادي. فحينما يكتب المؤلف كتاباً فإنه يحدد لنفسه الموضوع الذي سيكتب عنه وحدوده، وماذا يقع داخل نطاق الكتاب وماذا يمكن استبعاده. أما الموسوعة فلها منطق مختلف فهي تشبه الأحجية إذ أن مدخلاً ما يولد إشكالية لا يمكن تجاهلها. كما أن الموسوعة تشبه معماراً ضخماً وقرب الانتهاء منه يكتشف الباني أن هناك نوافذ ناقصة وأخرى يجب تعديلها وأنه لا بد أن يُضاف شيء هنا وشيء هناك. فمثلاً إن كتبت عن كلمة "يهودي" وآخر عن "إسرائيلي" وثالث عن "صهيوني" فهذا يتطلب أن تكتب عن "عبري" أيضاً. وكلمة "يهودي" تتطلب أن تكتب عن "يهودي ارثوذكسي" و"يهودي علماني"، وهكذا. وأفرِّق هنا بين الاكتمال، فما كنت أحاول أن أصل اليه هو الاكتمال، أما الكمال فهو لله وحده، والموسوعة هي التي تقرر هل اكتملت أم لا. واجهت مشكلة حقيقية وهي أنني أنكر وجود ثقافة يهودية أو شعب يهودي، كما أنكر أن تكون "يهودية" مفكر يهودي ما هي العنصر الأساسي والمحدد لفكره. ومع هذا في موسوعة عن اليهود كان لا بد أن اكتب عن "أعلام اليهود" للتعريف بهم ولتوضيح وجهة نظرهم، فكيف يكون مبدأ الاختيار، والابقاء والاستبعاد؟ وحلاً لهذه المشكلة قررت أن أكتفي بالكتابة عن مشاهير الاعلام من اعضاء الجماعات اليهودية فرويد - كافكا - ماركس - كيسنجر - تروتسكي على أن أختار بعض الشخصيات ممن هم أقل شهرة باعتبارهم حالات مماثلة لإشكاليات توضح وجهة نظري. لكل هذه الأسباب كان لا بد من الانتظار ربع قرن لتصدر الموسوعة كاملة. النظام الحديد لإنجاز الموسوعة التي زادت كلماتها عن مليونين كان عليّ أن أتبع نظاماً حديدياً في حياتي. فأهملت كثيراً من التفاصيل وضمرت حياتي الاجتماعية الى حدٍّ كبيرٍ، مما سبب لي الحزن أحياناً. وكنت أستيقظ في الصباح قبل السادسة وأبدأ في الكتابة حتى الثانية عشرة مساء لا أتوقف إلا لتناول وجبات الطعام أو النوم حوالى ساعة في الظهيرة. وتستمر هذه العملية ما يزيد أحياناً عن عشرة أيام. وحينما كنت أذهب للاصطياف كنت أملأ حقيبتين بالمراجع، لأن ساعات العمل في المصيف كانت أكثر لعدم وجود هاتف فضلاً عن اختفاء الحياة الاجتماعية تماماً. ولم أكن أقرأ إلا ما له علاقة بموضوع بحثي: اليهود واليهودية والصهيونية. ولذلك كان إذا ما أعطاني أحد الأصدقاء كتاباً أو أوصى بقراءة كتاب، كنت أقول مازحاً: "هل له علاقة باليهود؟". وزادت وتيرة العمل منذ عام 1990 حين عدت من الكويت، واستقلت من الجامعة، إذ أن وقتي أصبح ملكاً خالصاً لي، مكرساً كله للموسوعة. وكنت أحياناً أشعر أنني في دوامة وأنني لم أعد أتحكم في الموسوعة وإنما هي التي تتحكم فيّ ومن حولي. وفي حديث بيني وبين الأستاذ هيكل الذي رعى الموسوعة منذ بدايتها اتفقنا على انني كنت مصاباً بنوع من الهوس، وأضفت قائلاً: "إنني لم أكن مدركاً لهذا الهوس" فضحك وقال: "هذه هي طبيعة الهوس". كنت أعددت مكتبة كاملة من الكتب المصورة حتى يمكنني استخدامها في الموسوعة. ففي تصوري أن وجود صور، يقلل من خوف القارئ العربي من الظواهر الصهيونية كما فعلت في موسوعة 1975. ولكن أحد الأصدقاء نبهني إلى حقوق نشر الصور، وأن الصهاينة قد يوقفون نشر الموسوعة من هذا المدخل، خصوصاً بعد توقيع اتفاق الغات واتفاقات الملكية الفكرية. وبدأت رحلة طويلة للسؤال عن هذه القضية، فذهبت الى الهيئة العامة للكتب، وبالطبع كانوا لا يعرفون شيئاً. فذهبت الى مدير مطبعة الجامعة الاميركية، فأكد لي أن حقوق نشر الصور لا تختلف عن حقوق نشر الكتب وأن عليّ أن أكتب لكل المتاحف والأرشيفات التي تحتفظ بهذه الصور. وأخبرني ثالث أن نشر الصور أمر لا يخضع للقوانين الخاصة بحقوق النشر، خصوصاً إن قصصت قطعة من الصورة، فهي تعامل حينذاك معاملة الاقتباس الذي يرد في إحدى الكتب، فهو ليس بسرقة طالما ذكرت المصدر. وأخبرني رابع أن نشر الصور النمطية غير خاضع لقوانين حقوق النشر كأن تنشر صورة لدار الآثار المصرية ولكن الصور الفريدة الدار نفسها ساعة الغروب خاضعة لها. فوجدت أن الاجابات متضاربة، ولأنني كنت أخشى مصادرة الموسوعة عدلت عن نشر الصور، على أن أنشر بعضها في كتب مصورة مشتقة من الموسوعة فمصادرة مثل هذه الكتب، إن حدثت، لن تكون خسارة فادحة. وكانت مسألة الحصول على المراجع مسألة شاقة ومكلفة، ولكنها حتمية بطبيعة الحال. وتكفل بهذا مساعدي الباحث العامل في الموسوعة في الولاياتالمتحدة، فكنت أتصل هاتفياً، فيقوم بالبحث عن الكتب والمقالات التي أريدها ثم يرسلها، من طريق إحدى الحقائب الديبلوماسية خلال يوم أو يومين إذ صادقت الملحق الثقافي لإحدى السفارات العربية في الرياض وكان متفهماً لطبيعة عملي وظروفه. وكانت كمية الكتب التي تُرسل لي في بعض الأحيان كبيرة، فكان لي صديق في إحدى خطوط الطيران، كان يشحنها مجاناً على طائرات الشركة، وكانت تصلني الى الرياض ثم القاهرة بعد ذلك مما كان يوفر لي الكثير من الوقت والمال والعناء. مفهوم الجماعة الوظيفية بعد ان انتقلت من التفكيك الى التأسيس أصبحت النماذج المعرفية كأدوات تحليلية وإدراكية، فكرة أساسية في منهج الموسوعة. ونحن حين ندرك الواقع لا ندركه بشكل مباشر وإنما من خلال خريطة معرفية مسبقة. وعادة ما أضرب مثلاً بلوحة فنية إن رأيتها للمرة الأولى فرؤيتك لها محدودة، ولكن إن جاء ناقد فني وبدأ يشرح لك الصورة وتداخل العلاقات والظلال والألوان فأنت سترى فيها أبعاداً لم ترها من قبل، أي أن خريطتك المعرفية ستتغيرت وتتسع. والنموذج المعرفي هو بنية تصورية يجردها عقل الانسان من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع والبيانات، فهو يستبعد بعضها باعتبارها غير دالة، ويستبقي البعض الآخر، ثم يربط بينها وينسقها تنسيقاً خاصاً بحيث تصبح بحسب تصوره مماثلة في تناسقها وترابطها للعلاقات الموجودة بين عناصر الواقع. ويصبح النموذج هو الخريطة التي يدرك المرء الواقع من خلالها. ولذلك تصبح مهمة الباحث هي أن يصوغ نماذج تحليلية تمكِّنه من التوصل الى النماذج المعرفية الكامنة في النصوص والظواهر التي يعرض لها بالدراسة. وهو إن فعل ذلك سيكون نجح في إدراكها في ترابطها وتركيبتها وتناقضاتها الظاهرة والباطنة. وطورت ثلاثة نماذج أساسية في الموسوعة مترابطة منفصلة: الأول نموذج الحلولية الكمونية، وهي أن يحل الخالق في مخلوقاته بحيث يصبح كل ما في الكون الإله والإنسان والطبيعة مكوَّناً من جوهر واحد، مما يعني أن ثمة قانوناً واحداً يسري على كل الظواهر الانسانية والمادية، ومن ثم تتم تسوية الانسان بالكائنات الطبيعية فتنزع القداسة عن الانسان وتصبح كل الأمور نسبية! ويرتبط به نموذج العلمانية الجزئية والشاملة. والعلمانية الجزئية هي فصل الدين عن الدولة بمعنى الاجراءات اليساسية والاقتصادية في المعنى الفني. وتلزم العلمانية الجزئية الصمت بخصوص المرجعية النهائية للمجتمع ورقعة كبيرة من حياة الانسان الخاصة والعامة. أما العلمانية الشاملة فهي ليست فصل الدين عن الدولة وإنما هي فصل القيم الانسانية والأخلاقية والدينية عن العالم وعن الحياة في جانبيها العام والخاص، بحيث تنزع القداسة عن العالم بأسره ويتحول الى مادة استعمالية. والعلمانية الشاملة تتوجه لمسألة المرجعية النهائية، فتنكر وجود أي مطلقات أو مثاليات أو ثوابت. ولعل المنظومة الداروينية الصراعية هي أكثر المنظومات اقتراباً من نموذج العلمانية الشاملة. والنموذج الثالث هو نموذج الجماعات الوظيفية. وهي جماعة يستجلبها المجتمع من خارجه أو يجندها من داخله من بين الأقليات الإثنية والدينية أو حتى من بعض القرى أو العائلات، ويوكل اليها وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته. فقد تكون هذه الوظائف مشينة البغاء - الربا - الرقص - التمثيل أحياناً أو متميزة وتتطلب خبرة خاصة الطب والترجمة أو أمنية وعسكرية الخصيان - المماليك أو لأنها تتطلب الحياد الكامل التجارة وجمع الضرائب. ويلجأ المجتمع الى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة أو ثغرة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية، ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى الحاجة لمستوطنين جدد لتوطينهم في المناطق النائية - الحاجة الى فتيات يقمن بوظائف جديدة في المجتمع لا يعتبرها المجتمع في بداية الأمر "محترمة" مثل العمل في السينما والملاهي الليلية. كما أن المهاجرين عادة ما يتحولون الى جماعات وظيفية في المراحل الأولى من استقرارهم في وطنهم الجديد، ذلك لأن الوظائف الأساسية في الزراعة والصناعة في وطنهم الجديد عادة ما يتم شغلها من قِبَل أعضاء الغالبية. ويتسم أعضاء الجماعة الوظيفية بأن علاقتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، إذ يُنظر لهم باعتبارهم وسيلة لا غاية، دوراً يُلعب أو وظيفة تُؤدى. وهم يُعرَّفون في ضوء الوظيفة التي يضطلعون بها لا في ضوء انسانيتهم المتكاملة. وأعضاء الجماعة الوظيفية عادة ما يكونون عناصر حركية لا ارتباط لها ولا انتماء، تعيش على هامش المجتمع. ويقوم المجتمع في الوقت نفسه بعزلهم عنه ليحتفظ بمتانة نسيجه المجتمعي، ولذلك هم يعيشون في غيتو خاص بهم في حال اغتراب. وهم بسبب عزلتهم وعدم انتمائهم وعدم وجود جذور لهم بين الجماهير أو المجتمع عادة ما يشعرون بعدم الأمن. لهذا نجد في كثير من الأحيان أنهم يكونون على مقربة من النخبة الحاكمة يقومون على خدمتها والنخبة الحاكمة، على أية حال، هي التي استوردتهم في غالب الأمر. وتعبيراً عن عدم الاحساس بالأمن يقوم أعضاء الجماعة الوظيفية بالادخار ومراكمة الثروة التي تدخل على قلوبهم شيئاً من الطمأنينة. كما أنهم عادة ما يحلمون بوطنهم الأصلي، الذي يتحول الى بقعة مثالية صهيون يحلمون بالعودة إليها، ولكنهم في واقع الأمر لا يفعلون. وهم عادة ما يقولون إنهم سينفقون مدخراتهم في بلدهم الأصلي، حيث سيحيون حياة حقيقية، وحيث يمكنهم تحقيق ذواتهم التي ينكرونها. ولهذا تصبح علاقتهم بالزمان والمكان واهية للغاية. وأعضاء الجماعة الوظيفية عادة من حملة الفكر الحلولي والعلماني الشامل. فهم يتحولون الى "شعب مختار" لا علاقة له بالآخر، فالآخر هو مصدر الربح والنفع لعضو الجماعة الوظيفية. لذلك نجد أن عضو الجماعة الوظيفية يتسم بازدواجية المعايير: فهو يحكم على جماعته بمعيار وعلى الآخر بمعيار آخر. كما ان علاقته بأعضاء جماعته قوية للغاية، فهو يعتمد على الجماعة لبقائه واستمراره، بينما تتسم علاقته بأعضاء المجتمع المضيف بالبرود والتعاقدية. وكما بينت في الموسوعة، فإن الجماعات الوظيفية تظل قائمة، تضطلع بوظيفتها، الى أن تظهر جماعات محلية قادرة على الاضطلاع بهذه الوظائف، فيتم الاستغناء عن الجماعة الوظيفية وتصفيتها، وتصبح وظائفها وظائف عادية يقوم بها أي عضو في المجتمع. وهذا ما حدث للجماعات اليهودية في الغرب إذ أصبحت جماعات وظيفية من دون وظيفة، وهذا هو جوهر المسألة اليهودية في تصوري. الدولة الصهيونية الوظيفية ولّدت من نموذج الجماعة الوظيفية نموذج الدولة الصهيونية الوظيفية التي أسسها الغرب لتضطلع بوظيفة محددة. فحينما نشأت المسألة اليهودية لجأ الغرب الى حلها من خلال الإطار المعرفي والحضاري المألوف لديه، ومن خلال النموذج الإدراكي المهيمن عليه، أي نموذج الجماعة الوظيفية. ويمكن القول بأن المسألة اليهودية هي مسألة الجماعة الوظيفية اليهودية التي أصبحت بلا وظيفة، ومن ثم تحولت الى مجرد فائض بشري لا نفع له من منظور المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه. فتقرر توظيف هذا الوضع السلبي في خدمة الغرب وذلك لتصدير هذا الفائض الى الشرق ومن ثم يتم التخلص منه وهذا هو الحل الامبريالي لمشكلات أوروبا، تصديرها للشرق. وبعد تصديره يوكل لهذا الفائض وظيفة جديدة هي القتال والدفاع عن المصالح الغربية في الشرق من خلال دولة تقع في منطقة استراتيجية تخدم هذه المصالح، فهي على سبيل المثال تقسم العالم العربي الى قسمين فتمنع اتحاده وتعمق وضع التجزئة بعد سقوط الكتلة الاسلامية الموحدة متمثلة في الدولة العثمانية، وهذه هي الاستراتيجية الغربية. كل هذا يعني أن تصدير اليهود الى فلسطين هو توظيف حل المسألة اليهودية في حل المسألة الشرقية أي تركة الدولة العثمانية، من خلال قيام الدولة الصهيونية الوظيفية. وتتسم هذه الدولة الوظيفية بمعظم إن لم يكن كل سمات الجماعة الوظيفية ومن هنا التسمية، إذ استورد الاستعمار الغربي سكانها من خارج المنطقة وغرسهم في العالم العربي ثم عرّفها في ضوء وظيفتها الاستيطانية والقتالية. وهي تدين بالولاء لراعيها الامبريالي، تدافع عن مصالحه نظير أن يدافع هو عن بقائها وأمنها ويضمن لمستوطنيها مستوى معيشياً مرتفعاً. وعلاقة الدولة الوظيفية بالامبريالية علاقة نفعية، فالراعي الامبريالي يدعمها طالما لعبت دورها الاستيطاني وأدت وظيفتها القتالية. وهي دولة منعزلة عن وسطها العربي، غير متجذرة في المنطقة، فهي في الشرق العربي وليست منه، منعزلة عن الزمان والمكان. وحيث إن السكان الأصليين يقاومون وجودها - كما هو متوقع منهم - تحولت الى غيتو مسلح يتسم بكثير من الحركية والدينامية. وتستخدم هذه الدولة الوظيفية معايير مزدوجة: واحد لليهود والآخر للعرب. وهي ذات نزعة حلولية واضحة. فاليهود وحدهم على علاقة أزلية بأرض فلسطين، أما الفلسطينيون فعلاقتهم هامشية، واسرائيل ترى نفسها باعتبارها موضعاً للحلول وواحدة للديموقراطية ونوراً للأمم. لكل هذا يمكن القول بأن الدولة الصهيونية هي إعادة انتاج لمفهوم الجماعة الوظيفية في العصر الحديث وفي الشرق العربي على هيئة دولة وظيفية. وعندما أدلى الصهاينة بعدد من التصريحات تبين أنهم أدركوا الطبيعة الوظيفية للدولة الصهيونية ولسكانها أي تحويلهم الى وسيلة ليس لها أهمية في حد ذاتها لصالح الغرب. وأهم وظائف الدولة الصهيونية حتى عهد قريب هو الوظيفة القتالية لا التجارية أو المالية فعائد الدولة الوظيفية الأساسي عائد استراتيجي، والسلعة أو الخدمة الأساسية الشاملة التي تنتجها هي القتال: القتال مقابل المال، أي أنها وظيفة مملوكية في الدرجة الأولى. وعدا ذلك، فإنها ديباجات اعتذارية وتفاصيل فرعية. العمالة المهاجرة ازداد نموذج الجماعات الوظيفية تبلوراً حين درست وضع العمالة المهاجرة في إحدى دول جنوب شرقي آسيا. وكان يتم التأكيد دائماً على العلاقة التعاقدية، بين مجتمع الغالبية وبين هؤلاء العمال، فهم موجودون فيه لأنه في حاجة الى خبراتهم. ولكن حينما يكتسب أهل البلد هذه الخبرات، فعلى العمال أن يعودوا الى بلادهم. ويعيش كُثُر من هؤلاء العمال في عزلة لا يشعرون بأية عاطفة نحو البلد المضيف، علاقتهم به تنتهي مع انتهاء الحاجة اليهم ويتحدث كُثُرٌ منهم عن العودة الى بلده الأصلي ولكنها في واقع الأمر تتحول في ذهنهم إلى "أرض الميعاد" التي يتحدث المتعاقد عن العودة اليها ولا يعود قط. فالوطن الأصلي ليس سوى النقطة المرجعية الصامتة التي تقوض العلاقة بين الزمان والمكان ما يجعله شخصية حركية، وكياناً غير متجذر في أي شيء، ويجعله يتحمل وضعه لأنه وضع موقت وحسب. ويتسم العمال الوافدون الالتزام الشديد بالتراكم، فهم يعيشون في ظروف مزرية لا يرضونها في بلدهم، ولكنهم قبلوا ذلك حتى يحققوا التراكم. وينتج عن هذا تقتير شديد على النفس الى درجة متطرفة أحياناً. ان نموذج الجماعة الوظيفية بدأ في الظهور في موسوعة 1975، لكنه تعمق واتسع بعد دراستي هذه، وخرج من عالم التجارة الى عالم النشاط الانساني ككل، ووضع الغريب في المجتمعات الانسانية، بل والطبيعة البشرية ذاتها أو الانسانية المشتركة. ولعل العنصر الحاسم في تطوير نموذج الجماعة الوظيفية هو كتابة الموسوعة ذاتها، فمن خلال عمليات الرصد المستمرة لوظائف اليهود بدأ نمط محدد يظهر ويتكرر، حاولت في بداية الأمر تفسيره من خلال الأطروحات التي استخدمتها في موسوعة 1975. ولكن ضاق نطاق النمط السائد عن التفاصيل المتزايدة، فاضطررت الى توسيع حدوده وإعادة تسميته مرات عدة الى أن انتهى بي الأمر بمصطلح "جماعات وظيفية". وبعد مرور ما يقرب من ربع قرن قمت بتسليم الديسكات التي تحتوي على النص الى دار الشروق، وفي اليوم التالي استيقظت وسمعت خبراً حزيناً، ويبدو أن جهازي العصبي كان في حال إرهاق كامل، ولذلك حدث ما يشبه الانفجار في دماغي، فكنت أقع على الأرض بعد ممارسة أي إحساس بالحزن أو الفرح قبَّلني حفيد عادل حسين مرة، وهو طفل في الثانية من عمره، فشعرت فوراً بدوار وكان عليّ أن أستند إلى حائط. وقضيت هذا العام بين إعداد الموسوعة للنشر وبين استشارة الأطباء في كل أنحاء العالم. فحاروا في أمري الى أن شفاني الله بعد صدور الموسوعة بشهور عدة.