} تحدثت الحلقة الثانية عن بدايات الاهتمام بالمسألة اليهودية والحركة الصهونية وتتناول الحلقة الثالثة البدايات الاولى لكتابة الموسوعة. حينما كنت في الولاياتالمتحدة، تعرَّفت على الدكتور أسامة الباز الذي قرأ بعض ما كتبته فاقترح عليّ أن أتخصص في الصهيونية وأن أتفرغ تماماً لدراستها وكان هو أول من فعل ذلك فهو بمعنى من المعاني "مسؤول" عن تخصصي في الموضوع. وحين عدت إلى مصر عام 1969، أخبرني أنه يجب أن يُستفاد من خبرتي بالصهيونية بشكل أو بآخر. فقدمني للأستاذ محمد حسنين هيكل الذي عينني مستشاراً في مكتبه باعتباره وزيراً للإرشاد. وحين ترك الوزارة بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، انتقلت إلى كلية البنات. وكان طموحي الأصلي هو أن أصبح ناقداً أدبياً فحبي للشعر أمر طاغ تماماً، وما زلت أنوي كتابة دراسة في تفسير الشعر الرومنطيقي، فكتبت تلخيصاً لأطروحتي عن الإدراك الصهيوني وحدوده وتركته للأستاذ هيكل على أمل أن يقوم أحد الباحثين بمتابعة الموضوع، ويتركني وشأني. وكان رد هيكل أنه لا يمكن أن يكتب عن مثل هذا الموضوع غيري. وزاد الدكتور الباز من تشجيعه لي، فبدأت في كتابة دراسة عن فلسفة التاريخ عند الصهاينة. وحين انتهيت منها عرضتها على الباز الذي اقترح أن أعرضها على هيكل، فقمنا بزيارته في مكتبه، وتركت له الدراسة ثم عكفت على كتابتها مرة أخرى كما أفعل دائماً مع معظم دراساتي. وبعد شهرين أو ثلاثة فوجئت بالأستاذ هيكل يتصل بي ويستقبلني في مكتبه في مؤسسة الأهرام، ويخبرني أن دراستي مهمة جداً، وأنه لهذا السبب يعرض عليَّ أن أعمل في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام مسؤولاً عن الفكر الصهيوني. فأخبرته أن مكاني ليس في صحيفة يومية، إذ أنني إن طُلب مني أن أكتب عن الأحداث اليومية قد أُصاب بانهيار عصبي. فأخبرني أنه أسس المركز وعيَّن بعض كبار الكُتَّاب في مؤسسة الأهرام ليعفيهم من مهمة الانشغال بالأحداث اليومية، حتى يمكنهم التركيز على دراسة الظواهر والأبعاد الإستراتيجية، وأكد أنه لن يُطلب مني أن أكتب عن الأحداث اليومية، فقبلت العرض. وأرسلني إلى الولاياتالمتحدة بعد أن وضع تحت تصرفي عدة آلاف من الدولارات مبلغ رهيب آنذاك وطلب مني شراء ما إريد من كتب عن الصهيونية وإسرائيل لمكتبة المركز. فقضيت ثلاثة أسابيع في الولاياتالمتحدة أتنقل بين المكتبات أشتري الكتب وأصور المقالات. وهكذا بدأت رحلتي العلمية مع اليهود واليهودية والصهيونية. نهاية التاريخ كانت دراستي في الصهيونية ذات طابع معرفي يتجاوز السياسي. ولأن التناول المعرفي للقضايا السياسية كان أمراً جديداً كل الجدة عليّ وعلى الكثيرين تناولت موضوعي بحذر شديد، وحاولت قدر استطاعتي أن أخبئ الأطروحة المعرفية الأساسية في النسخة الأولى من دراستي علاقة الحلولية ]وحدة الوجود[ بنهاية التاريخ وفلسفة التاريخ الصهيونية. وقام الدكتور الباز بتحرير الكتاب وكتب الغلاف بخط يده فهو يحب فن الخط العربي ويمارسه حينما تتاح له الفرصة. وطلب مني أن ألقي سلسلة محاضرات في المعهد الديبلوماسي تدور حول هذه الدراسة. وقد فعلت. وكانت فرصة فريدة بالنسبة لي أن أحتك ببعض الدارسين المهتمين بالسياسة والفلسفة وهو ما كنت أفتقده في كلية البنات. وأذكر مرة أنني كنت في المعهد الديبلوماسي للقاء الدكتور الباز في مكتبه. وفي غرفة الانتظار، قابلت أستاذاً مشهوراً في العلاقات الدولية اسمه الدكتور جورج أبو صعب، كان هو الآخر على وشك مقابلة الباز وتجاذبنا أطراف الحديث. وسألني ماذا أفعل. وحيث تحققت من أنني لن أقابل هذا الأستاذ بعد ذلك، تشجعت وأخبرته أنني أكتب عن الفلسفة الصهيونية للتاريخ باعتبارها تعبيراً عن رؤية حلولية تؤدي إلى نهاية التاريخ، وشرحت له النظرية. وفوجئت به يدوِّن بعض الملاحظات. فسألته عما يفعل، فقال إن هناك بعض القضايا في القانون الدولي كانت تحيره دائماً ولا يمكن تفسيرها إلا من خلال هذا النموذج التفسيري، فتشجعت إلى أقصى حد وغيَّرت من بناء الدراسة. وبعد أن كان الحديث عن الحلول في التاريخ ووحدة الوجود وما شابه من مصطلحات في آخر الكتاب أو في الهوامش، أبرزت هذه المواضيع باعتبارها جوهر النموذج التحليلي. وفي نهاية الأمر اتخذت الدراسة شكلها النهائي وأصبح عنوانها "نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني" ونشرها مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام عام 1972. الموسوعة التي أمسكت بي استغرقني تماماً الكتابة عن الصهيونية ونشرت عنها كتباً عدة: "اليهودية والصهيونية وإسرائيل - الأقليات اليهودية بين التجارة والادعاء القومي". كما صدرت عام 1975 "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" جزء واحد - ثم أخيراً "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" عام 1999 8 مجلدات. وفي الفترة ما بين 1975 - 1999 صدرت لي كتب عدة، بالإنكليزية "أرض الوعد - إسرائيل وجنوب أفريقيا: تطور العلاقة بينهما"، وبالعربية "الأيديولوجية الصهيونية" جزآن - الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية، الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، هجرة اليهود السوفيات، الجمعيات السرية، اليد الخفية، أسرار العقل الصهيوني. وكل هذه الكتب كانت إما تنبع من الموسوعة أو تصب فيها، بل إن كتاب إشكالية التحيز من سبعة مجلدات يشكل جزءاً من الإطار النظري للموسوعة. فكتابة الموسوعة متداخل في شكل كامل مع كتابة مؤلفاتي الأخرى، ولذلك يُطرح عليَّ دائماً هذان السؤالان: كم من الوقت استغرق تأليف الموسوعة؟ ولم استغرقت كل هذا الوقت؟ موسوعة عام 1975 متى انتهيت من كتابة الموسوعة؟ أمر واضح لا لبس فيه، فقد سلَّمت الديسكات إلى دار الشروق في كانون الاول ديسمبر 1997 واستغرقت عملية التنسيق والإخراج وتصحيح البروفات والطباعة ما يزيد عن عام. ولكن متى بدأت كتابة الموسوعة؟ فهو أمر خلافي: هل في عام 1975 حين بدأت في تحديث موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية، أم في عام 1970 حين بدأت في كتابتها، أم في عام 1965 حين نشرت أولى دراساتي عن الصهيونية فكل كتاب لا يجبُّ ما قبله وإنما يستوعبه ويطوره؟ وحسماً لهذه القضية فلا فارق هنا بين مرحلة التكوين أي مرحلة بداية دراستي للصهيونية ومرحلة العمل الموسوعي ومرحلة كتابة الموسوعة ذاتها. فقد بدأت دراستي الجادة للصهيونية عام 1964، ثم كتبت أول كتيب بالإنكليزية عام 1965. ثم بدأ عملي الموسوعي عام1970 حين بدأت في كتابة نهاية التاريخ. ففي هذه المرحلة بدأت فكرة كتابة موسوعة متكاملة عن اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل تختمر في ذهني، فحين بدأت في كتابة نهاية التاريخ وجدت أنه كان عليَّ، شأني شأن معظم المؤلفين العرب، أن أتوقف عند كل صفحة لتعريف بعض المصطلحات والشخصيات التي أشير إليها "الكيبوتس" - "بن غوريون" - "الماباي" وكانت كثيرة نظراً لانخفاض مستوى المعرفة بالعدو الصهيوني آنذاك بين المتخصصين وغير المتخصصين. ولهذا، قررت أن أستمر في كتابة دراستي من دون توقف لتعريف كل مصطلح، لأن مثل هذا التوقف يُشتت القارئ ويُضعف من تماسك النص، على أن أُلحق بالدراسة مسرداً أُوضِّح فيه ما غَمُض من مصطلحات وأُعرِّف فيه بالأعلام. هذا ما قررته حينذاك، ولكن مشروع المسرد تحوَّل تدريجاً إلى كتيب معجمي مستقل ترد فيه معاني المصطلحات وتُعرَّف فيه الشخصيات بطريقة معجمية. ثم تحوَّل مشروع الكتيب إلى معجم صغير، والمعجم الصغير إلى معجم كبير، والمعجم الكبير إلى موسوعة صغيرة من جزء واحد تهدف إلى توفير المعلومات العربية والغربية المتاحة انذاك، للقارئ والباحث العربي حتى لا يُضيِّعان وقتهما وجهدهما في البحث عن المعلومات وحتى يتفرغا للعملية البحثية الحقيقية، أي عملية التفسير والتقييم والتركيب. ولكنني اكتشفت بعد قليل من البحث والتعمق أن حقل الدراسات المعني باليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل ومصطلحاته مُشبَّع بالمفاهيم الأولية القَبْلية، وأن عدداً هائلاً من المفردات يكتسب دلالات خاصة تُخرجها عن معناها المعجمي المألوف وتصبح مصطلحات ذات دلالات خاصة مثل "الشعب" و"الأرض"، وأننا نترجم، ليس فقط حين نترجم، ولكننا نترجم حتى حين نؤلف وذلك بسبب غياب الرؤية النقدية. كما اكتشفت أن المعلومات، مهما بلغت من كثافة وذكاء وحذق، هي عملية لا نهاية لها، ولا جدوى من ورائها، فهي تشبه الرمال المتحركة، وهي لا تأتي بالمعرفة لأنها محكومة بمقولات قَبْلية محدَّدة تتم مراكمة المعلومات في إطارها. حينما أدركت ذلك تحول مشروع الموسوعة من مشروع لكتابة موسوعة معلوماتية صغيرة عادية تُعرِّف بالمصطلحات والأعلام على الطريقة الشائعة والمعروفة إلى مشروع موسوعة تفكيكية شاملة، أي موسوعة تحاول تفكيك المصطلحات وتهدف إلى توضيح المفاهيم والتحيزات الكامنة وراءها بدلاً من تلخيصها والعرض لها. وكتبت اقتراحاً بالمشروع وتقدمت به إلى مجلس الخبراء في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام، فرُفض الاقتراح بحجة أنه لا توجد كوادر كافية لكتابة مثل هذه الموسوعة، فاقترحت أن تكون الموسوعة هي الوسيلة لتوليد مثل هذه الكوادر وتدريبها، ولكن المجلس لم يقتنع بوجهة نظري. فاستخدم الأستاذ حاتم صادق صلاحياته كمدير للمركز، وقرر أن يسمح لي بالاستمرار في كتابتها من خلال الامكانات المتاحة للمركز المكتبة - بعض المساعدين من دون اعتماد موازنة خاصة. وكانت هذه هي أولى المشكلات وإن لم تكن آخرها، إذ تطلب الأمر بطبيعة الحال أن أنفق من جيبي الخاص على هذا العمل ذي الأهمية القومية، خصوصاً بعد خروج الأستاذ هيكل من الأهرام، واستقالة الأستاذ حاتم من مركز الدراسات. إذ قامت إدارة المركز الجديدة بتضييق الخناق عليّ، وتقليص حجم الخدمات المتاحة، وكانت محدودة من البداية. ولذلك كنت أقول إن الحاج صافي المسيري، أي والدي، هو الذي موَّل هذه الموسوعة. ولكن مع هذا لا بد أن أذكر العمل التطوعي الذي قامت به الكثيرات من طالباتي. أذكر أنني ذهبت مرة إلى إحدى محاضراتي في كلية الأداب جامعة عين شمس حين كنت منتدباً وعرضت على الطلبة والطالبات مشكلتي، وأنني في حاجة إلى مساعدات تطوعية. وفوجئت بترحيب عدد كبير منهم. بل جاءت إحدى الطالبات بوالدها وكان موظفاً بالمعاش. وساعدني هذا العمل التطوعي على إنجاز الكثير من أعمال السكرتارية، وهي كثيرة في العمل الموسوعي، مثل كتابة المداخل بخط واضح إلى إعداد الفهارس إلى ترتيب الصور، وهكذا. ولولاه لتعذر عليّ إنهاء العمل، فإمكاناتي المالية لم تكن تسمح باستئجار مثل هذا العدد الضخم من المساعدين. وكما أسلفت، ترك الأستاذ هيكل مؤسسة الأهرام أثناء إعدادي ل موسوعة 1975. فأصبحت هذه الموسوعة مصدر مخاوف لكبار الإداريين فيها، خصوصاً أن رياح التطبيع بدأت تهب. فشُكلت لجنة لفحص الموسوعة، فأفتت بصلاحيتها للنشر واضطررت اللجوء إلى حيل لا حد لها إلى أن وصلت بها إلى المطبعة حتى تصبح أمراً واقعاً لا يمكن للإداريين إيقافه. ومع هذا أوقف الطبع مرة أخرى، وعُرضت الموسوعة على الدكتور إلياس شوفاني، على أمل أن ينصح بعدم نشرها، ولكنه لحسن الحظ أفتى هو الآخر بضرورة نشرها. ومرة نصحني أحد كبار المسؤولين في مركز الدراسات أن أترك له الأمر برمته وأذهب إلى الولاياتالمتحدة وأنا مطمئن البال لألحق بأسرتي قررت زوجتي أن الوقت حان لتحصل على الدكتوراه. وبسذاجة غير عادية كدت أن أفعل، إلى أن نصحني من هم أكثر مني خبرة بألا أترك مصر إلا بعد صدور الموسوعة، فصاحب النصائح الخالصة كان يود أن أختفي من على المسرح حتى لا يضطر مركز الدراسات لنشرها. وبالفعل مكثت في مصر حتى آذار مارس 1975 موعد صدور الموسوعة. فحزمت حقائبي وذهبت لألحق بأسرتي. كنت أكتب موسوعة 1975 أثناء عملي في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام، وكنت محاطاً بمجموعة من الباحثين لم يدركوا أهمية البعد المعرفي، فخطابهم التحليلي كان سياسياً في شكل سطحي، فكانوا دائمي السخرية مني، ما جعلني أشعر بالوحدة الشديدة. وفي محاولة للدفاع عن نفسي زادت نرجسيتي في شكل واضح، إذ كنت لا أكف عن الحديث عن نفسي وعن إنجازي وعن أهميته. ولعل هذا تعويض عن أنني لم يكن لدى جمهور من القراء، فكنت أتوجه لنفسي ولا أكف عن التنويه بها. وتعلمت من هذا أن النرجسية - وهي صفة ولا شك ممجوجة - قد تكون ضرورة نفسية في حال غياب المتلقي. فكل مؤلف يحتاج إلى درجة من الثقة بالنفس ولجمهور يستجيب لما يكتب ويعطيه قدراً من الشرعية. ولا يمكن لأي كاتب أن يضع مؤلفاته في شكل مجرد وفي المطلق. ولم تلقَ موسوعة 1975 ما تستحق في تصوري من ذيوع، ربما، لأنها صدرت مع الاتفاق الثاني للفصل بين القوات. وأخبرني أحد الأصدقاء من أعضاء النخبة الحاكمة أن أحد البنود السرية للاتفاق كان ينص على عدم توزيع الموسوعة. فأودعت في مخازن الأهرام. وكادت أن تتحوّل إلى ورق مفروم لولا أن اشتراها بائع كتب سعودي، وقام بتوزيعها هناك ولذلك فوجئت بأنها معروفة في السعودية أكثر منها في أي مكان آخر. وحين صدرت الموسوعة عام 1975 كان عنوانها الرئيسي "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" أما عنوانها الفرعي فهو "رؤية نقدية" حتي أُنِّبه القارئ إلى أنه يتعامل مع موسوعة من نوع جديد، فهي ليست مجرد تجميع للبيانات والاحصاءات والمعلومات وإنما رؤية نقدية تفكيكية لها. ويُلاحَظ أن كثيراً من المواضيع والقضايا المنهجية والنماذج التحليلية التي أصبحت أساسية في كل كتاباتي وفي نسقي المعرفي تمت بلورتها في هذه الموسوعة. البدايات الأولى لموسوعة 1999 كتبت في مقدمة "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" أن هذه طبعة أولية أو ورقة عمل يمكن أن يتبناها أحد مراكز البحوث العربية كأساس لمشروع بحثي ضخم يهدف إلى إصدار الموسوعة العربية الشاملة عن هذا الموضوع، وأرسلت بالاقتراح إلى مراكز البحوث العربية المختلفة فلم يرد أي منهما لا بالنفي ولا بالإيجاب. كما تقدمت باقتراح إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام أن يُعيِّن أحد الباحثين تكون مهمته تحديث موسوعة 1975 أولاً بأول وفتح ملفات لكل مدخل من مداخلها، فرُفض الطلب أيضاً. فقررت أن أبدأ عملية التحديث بنفسي وبدأت في فتح الملفات حتى أستفيد من وجودي فيها استفدت من هذه الملفات في كتابيَّ أرض الوعد والأيديولوجية الصهيونية. وعند عودتي من الولاياتالمتحدة عام 1979، وجدت أن مراكز البحوث لا تزال محجمة عن إصدار موسوعة متخصصة عن الصهيونية، وبدأ الحديث عن التطبيع يتزايد في بعض الجهات. وبدأ بعض الكتَّاب يتحدثون عن حرب 73 باعتبارها "الحرب الأخيرة" و"الحرب التي ليست بعدها حروب". وكان هناك دائماً بعض "العقلاء" "العالمين ببواطن الأمور" الذين كانوا يخبرونني أن موضوع اهتمامي وتخصصي أي الصهيونية أصبح "موضة قديمة" عفا الزمن عليها، وأن عملية السلام ستكتسح الجميع. هذا ما أخبرني إيه بعض زملائي في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام أثناء كتابة موسوعة 1975. وهذا ما تطوع الكثيرون بأخباري به بعد كامب ديفيد ثم بعد مدريد وأوسلو واتفاق واي ريفر... والبقية تأتي. لكل هذا أو على رغم هذا واصلت جهودي الخاصة وسارعت بعملية "تحديث" موسوعة 1975 على رغم مؤشرات "السلام الدائم" الكاذبة. وتصورت ساعتها أن مسألة التحديث هذه ستستغرق عاماً أو عامين على الأكثر وستكلفني عشرة آلاف جنيه فقط لا غير. ولاختصار المدة قررت التعاون مع مجموعة من الباحثين، فعقدت اجتماعاً في منزلي عام 1982 حضره عشرات من المتخصصين وكان تظاهرة أكاديمية ضد التطبيع. وعُيِّن الأستاذ محمد هشام مديراً لتحرير الموسوعة وكلفنا هؤلاء السادة المتخصصين أن يكتب كل واحد منهم مدخلاً أو أكثر في حقل تخصصه، على أن أنتهي من تحديث الموسوعة في غضون عام أو عامين. وفي الرياض، تفرغت تماماً للموسوعة التي بدأت تتحول إلى مؤسسة، إذ أصبح هناك مكتب للترجمة العبرية لتزويدي بأهم المقالات في الصحف الإسرائيلية. وكانت هيئة الموسوعة تضم عدداً من العاملين بالسكرتارية واحد في القاهرة وآخر معي في أي بلد أكون فيه، وبعض المساعدين البحثيين، بعضهم في الولاياتالمتحدة، ومحررين، وكاتب على الكومبيوتر، وماكينات تصوير، وجهاز كومبيوتر وليزر. وكنت أحرر باباً أسبوعياً بعنوان "إسرائيليات معاصرة" في صحيفة "الرياض" ولكني لاحظت أن انشغالي بالحدث اليومي بدأ يقوِّض من رؤيتي الموسوعية، التي تركز على الثوابت، التي تتطلب إيقاعاً بطيئاً واهتماماً بمواضيع تاريخية وفلسفية وجوانب إستراتيجية قد لا يكون لها علاقة مباشرة بالحدث اليومي. وتوقفت عن تحرير هذا الباب. وبعد قليل بدأت تصلني المداخل التي كتبها الباحثون الذين حضروا اجتماع عام 1982 ووجدت أن كثيراً منها مادة علمية رصينة لكنها تنحو منحى معلوماتياً وموضوعياً متلقياً يكتفي بالرصد داخل إطار النماذج التفسيرية القائمة كتب أحد الأساتذة المتخصصين المداخل الخاصة بالاقتصاد الإسرائيلي، تناوله من خلال المقولات التحليلية المألوفة في علم الاقتصاد، كأن إسرائيل لا تختلف عن فرنسا أو بوليفيا، وكأنها ليست جيباً استيطانياً ممولاً من الخارج لا يخضع لمعايير الجدوي الاقتصادية. كما أن المتميز منها كان ينحو منحى تفكيكياً يُظهر نقط الضعف في النموذج التفسيري المهيمن من دون أن يطرح أي بديل. ومع هذا لم يكن إدراكي لهذه النقطة متبلوراً تماماً، ومضيت في كتابة الموسوعة، بل وبدأت طباعة النسخة الأخيرة على الآلة الكاتبة. وقررت الانتهاء منها عام 1985 - 1986.