يعد الدكتور عبدالوهاب المسيري، من أبرز المتخصصين في الظواهر اليهودية والصهيونية. وهو عكف منذ العام 1975 على إعداد موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية نموذج تفسيري جديد"، التي صدرت أخيراً عن دار الشروق في ثمانية مجلدات. تتناول هذه الموسوعة جوانب عديدة من تاريخ العبرانيين في العالم القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية على امتداد بلدان العالم، وتعدداتها وتوزيعها، وسماتها الأساسية وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفرادها بالمجتمعات التي يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية. وتغطي الموسوعة كذلك أشهر الأعلام من اليهود مثل موسى بن ميمون، وغير اليهود ممن ارتبطت اسماؤهم بتواريخ الجماعات اليهودية مثل نابليون بونابرت وأدولف هتلر. كما تتناول الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهودية وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها. وتغطي ايضاً الحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها وبعض الجوانب الأساسية للدولة الصهيونية. ترجع أهمية هذه الموسوعة إلى أنها تعد أولى المحاولات الجادة لفك ألغاز الخطاب الصهيوني و فهم آليات السياسة الإسرائيلية، ومحاولة التعرف على المجتمع الاسرائيلي من الداخل، ليتيسر التعامل معه، في ضوء أن اغفال محاولة فهم اسرائيل كان كما يرى البعض أحد أسباب الهزائم العربية المتتالية، فضلاً عن إضاعة الكثير من الفرص السانحة للتعامل مع الدولة العبرية بالطرق المناسبة لهذه الفرص. ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في مادة هذه الموسوعة هو النظرة الحقيقية لعملية السلام من قبل اليهود، إذ عبر عنها شيمون بيريز بقوله: "يجب ربط الدولة الديموقراطية بآليات السوق، أي يجب العودة الى عالم المنافسة الحرة في كل المجالات ولنتغاضى عن التاريخ، فهذا الماضي للعلاقات العربية-الاسرائيلية، هو عقبة في وجه الفرص المتاحة أمامنا الآن، بل ينبغي تركيز الاهتمام على المستقبل والسوق المشتركة". ولأجل هذا أعاد بيريز تعريف الإنسان اليهودي ليصبح الإنسان الاقتصادي إذ يقول: "إن الشعب اليهودي لم يكن هدفه في أي يوم السيطرة. إنه فقط يريد أن يشتري وأن يستهلك وأن ينتج، فعظمة إسرائيل تكمن في عظمة أسواقها، وأسواق اسرائيل هي الدول العربية". ولذا تنحصر اهتمامات اسرائيل في عملية السلام في قضايا المياه والسياحة ورأس المال، فلا مجال في هذه العملية للحديث عن الارض والفلسطينيين المهجرين. وتهدف الموسوعة من خلال ما سبق إلى توفير الحقائق التاريخية والمعاصرة عن الظواهر اليهودية والصهيونية والاسرائيلية، والى تقديم رؤية جديدة للمواضيع التي تغطيها، وهي تحاول إنجاز ذلك من خلال طرق عدة هي: 1 - تقديم رؤية تاريخية جديدة لكل من العقيدة والجماعات اليهودية والحركة الصهيونية أكثر عملية وحياداً وتفسيرية من تلك الرؤية الغربية التقليدية التي تبناها المؤلفون اليهود وغير اليهود في الشرق والغرب، والمتأثرة بما يسمى،"التاريخ المقدس"، أي التاريخ الذي ورد في العهد القديم. والرؤية الجديدة تضع تواريخ الجماعات اليهودية في أنحاء العالم في إطار التاريخ الإنساني العام. وقامت الموسوعة بربط تاريخ الصهيونية، عقيدة وحركة وتنظيماً، بتاريخ الفكر الغربي والإمبريالية الغربية. 2 - التعريف الدقيق للمفاهيم والمصطلحات السائدة، والتأريخ لها من منظور جديد، وإبراز جوانبها الإشكالية. فعلى سبيل المثال حين تتعرض الموسوعة لظاهرة مثل يهود الاتحاد السوفياتي سابقاً، فإنها تفعل ذلك من خلال مداخل عدة عن تاريخ اليهود وتوزيعهم الوظيفي وأعدادهم وأسباب هجراتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية في كل من روسيا القيصرية وروسيا السوفياتية. وتوجد مداخل عدة أخرى عن طوائف يهود الاتحاد السوفياتي، مثل القرائين، الكرمشاك، الجورجيين، يهود اليديشية، يهود الجبال، يهود بخارى. وتضم الموسوعة أيضاً مداخل عن موقف ماركس وانغلز والبلاشفة من المسألة اليهودية، وعلاقة اليهود بالفكر الاشتراكي وتطور الرأسمالية الغربية. - اسقاط المصطلحات المتحيزة وإحلال مصطلحات أكثر حياداً وتفسيرية محلها، إذ تتسم المصطلحات المستخدمة لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية بأنها متحيزة لأقصى حد، وتجسد التحيزات الصهيونية والغربية. ولتجاوز هذا الوضع تم استبعاد مصطلح مثل "الشعب اليهودي" الذي يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية و دينية وحضارية متكاملة، الأمر الذي يتنافى مع الواقع، وحل محل هذا المصطلح في الموسوعة مصطلح "الجماعات اليهودية". وبدلاً من كلمة "الشتات" استخدمت العبارة المحايدة "أنحاء العالم"، وبدلاً من التاريخ اليهودي تشير الموسوعة إلى تواريخ الجماعات اليهودية. والمصطلحات البديلة ليست أكثر حياداً وحسب، وإنما هي أكثر دقة وتفسيرية. وبهذا فإن الموسوعة تحاول تطوير خطاب تحليلي من خلال مصطلحات ومفاهيم تساعد على وصف الظاهرة اليهودية والصهيونية، وهو خطاب يسترجع البُعد التاريخي لهذه الظاهرة، من كونها ظاهرة تاريخية اجتماعية يمكن فهمها والتعامل معها. وغنيّ عن القول إن صدور موسوعة غربية في هذا الموضوع هو أمر له أهمية بالغة بالنسبة إلى المتخصصين وغير المتخصصين في هذا الحقل فهي تحاول أن تضع إطاراً شاملاً وجديداً يمكن من خلاله دراسة اليهود واليهودية والصهيونية واسرائيل. كما أنها ستزود صانع القرار العربي، مهما كانت اتجاهاته السياسية، بقدر كبير من المعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات ذات الصلة.