المعتقل الذي كان يخفي وراء اسواره مآسي ألوف العائلات اللبنانية، وجعل المحتل من زنازينه مقبرة للأحياء يمارس فيها في حق اللبنانيين شتى ألوان العذاب... تحول من صرح للاجرام ملطخ بدماء الأسرى ودموع عذاباتهم، الى صرح للحرية. صمت مطبق ظل يخيم على الزنازين، عقداً ونصف العقد من الزمن، وكان ينبعث منها أنين الأسرى وصراخهم تحت اصوات الجلادين، فتجاوز "نزلاؤه" من العجائز والأحداث والفتيات والنساء الحوامل، الثلاثة آلاف، حتى بزغ فجر الحرية وانقلبت الصورة ليصبح محجة للوافدين يقيمون فيه حلقات الدبكة والرقص فرحاً بزوال الاحتلال. يعود تاريخ بناء هذا المعتقل الرابض على تلة مطلة على بلدة الخيام الى زمن الانتداب الفرنسي، عندما شيد كثكنة عسكرية نظراً الى موقعه الاستراتيجي، ليصبح بعدها بادارة الجيش اللبناني. وتعاقب على السيطرة عليه، "جيش لبنان العربي" بقيادة الضابط أحمد الخطيب، إثر اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، فمنظمة التحرير الفلسطينية، ليخضع بعدها لسيطرة "جيش لبنان الحر" بقيادة الرائد سعد حداد، في شباط فبراير 1977، ثم كان اجتياح العام 1978، وبعده اجتياح العام 1982، وليتحول عام 1984 مركزاً للتحقيق مع المعتقلين، ومن ثم سجناً للاعتقال الطويل من آخر العام نفسه بالتزامن مع اقفال معتقل انصار. وأصبح المعتقل في عهدة "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة اللواء انطوان لحد، الموالي لاسرائيل. ضباط دوليون من الأممالمتحدة كانوا بين الوافدين اليه في اليومين الماضيين دخلوا اقسامه وزنزاناته ليتحققوا من خلوه من السجناء على ما قال قائدهم. تدخل الزنزانة تلو الأخرى لتكتشف اكثر فأكثر كم عانى المعتقلون من حقد النازيين الجدد وعملائهم. زنازين رطبة تنبعث رائحة العفن منها. لم تدخلها أشعة الشمس قط، وأخرى افرادية مظلمة لا يزيد قطرها عن المتر المربع الواحد. ادوات تعذيب تركها السجانون كبصمات تدل الى اجرامهم وأبقيت اشياء أخرى مبعثرة. وبعض ما صنعته ايدي الأسرى، جمع للمحافظة عليه... ذكرى للزائرين. غرف التحقيق هجرها الجلادون بعدما تركوا بصماتهم فيها. ومن جدران الزنازين تطالعك أبيات شعر دونها بعض من قبع خلف القضبان في زوايا النسيان. وكانت تؤرق رجال شرطة السجن كلما وقع نظرهم عليها. وفي داخلها انتقينا بضع كلمات خطها الأسرى وأوراق مبعثرة تركت للذكرى حين حُرروا على عجل. "التاريخ: 10/3/2000. دخلت أول ذبابة الى الغرفة مما يدل على انه عاد الذباب. فوجدنا ما زلنا هنا". التوقيع: كوزيت ابراهيم وأسمهان الخليل. والى جانبها دفاتر اندحر كتبتها، من بقايا يوميات المعتقل كما دونها السجانون. في الصفحة الأولى للدفتر: "جيش لبنان الجنوبي" الاسم: حبيب الياس شدياق. العنوان: سرية سجن الخيام. المدينة: الخيام. الطوارئ: سليم كسرواني الشرطة العسكرية. الخيام: الطبيب د. شمعون. تتفحص الصفحات تباعاً، التقارير متنوعة، الأربعاء 27 تشرين الأول اكتوبر، خروج الصحية الاسعاف الى المستشفى، وادخال السجينة نجوى سمحات الى المستشفى، العديد 113. دخول سجين جديد: محمد عبدالحسن سرور، الرقم 9827، العديد 115. كانون الأول ديسمبر: خلع صندوق نمر ديبه على سطح البرج مركز مراقبة اجراء مقابلات لبعض المساجين. دخول سجين جديد: محمد نبعة الافراج عن سجين بسبب وضعه الصحي: مريض قلب. كثر لا يصدقون ان المعتقل اقفل، وعذابات الأسرى لا تزال مطبوعة في الأذهان. يمسك فتى في العشرينات بوالدته وهي تتكئ عليه. راحت تمشي بخطى متعثرة وهو يمسح بمنديل دمعاً انساب على خدّيها. عرّف عن نفسه باسم علي. كان مكث في الأسر عشر سنوات. وقالت الوالدة ل"الحياة" وقد استندت الى زاوية احدى الزنزانات مرتجفة جزعاً لما وقعت عليه عيناها "أتيت الى المعتقل وأنا أشدّ فرحاً بالتحرير، توسلت اليه ان يريني أين قضى نصف عمره بين أيدي السجانين، فراح يروي لي بعد تردد دام يومين وظيفة كل غرفة مما حواه المعتقل، الى ان وصلنا الى زنزانة شديدة الظلمة، استعملنا مصباحاً كان مع احد الحراس الأسرى لنتمكن من رؤية جدرانها، فلم نفلح لشدة السواد، مروراً بغرف التحقيق، وصولاً الى زنزانة لا تتجاوز المتر طولاً وعرضاً وارتفاعاً، فأشار بيده نحوها وسكت لينظر نحوي ويبتسم، فعلمت انها سجنه. تملّكني خوف رهيب ورحت أرتجف كأنّ مسّاً كهربائياً اصابني. وراح العرق يتصبب مني، فخارت قواي. وعندها أحسست كما عانى من عذابات مع الأسرى الآخرين. وأعجب كيف ان ولدي صمد وخرج يتمتع بقواه العقلية الكاملة... عشر سنوات في السجن من دون رحمة".