ليس جيمس جويس هو الوحيد من الكتّاب الذين أكدوا ان المرأة تخلد الشر في الحياة، إذ اعتبرها كالديرون الخطيئة العظمى، ورأى فيها شكسبير ثمرة الظلمات، وبودلير كان يحلم بالطهارة، وارتو كان يلعن الجنس وخطاياه. إلا أن الروائية الايطالية باتريتسيا كارانو وهي تبحر بعيداً في عالم جمهورية فينسيا البندقية في القرن السابع عشر لتستعيد من خلال عمل روائي السيرة التاريخية لشخصية من أهل الفلسفة الأوروبية، تقول إن الثقافة البشرية في كل فروعها واشتقاقاتها هي بحر هائل بلا حدود، يستحيل حصره بالرجل. كارانو في كتابها الجديد تحاول التأكيد أن المثقف الموسوعي في كل العصور الملم بكل ما كان متوافراً من معرفة لدى البشرية آنذاك وخصوصاً في العلوم الفلسفية والاجتماعية لم يقتصر على جنس دون آخر. رواية "مضيئة" هي مدخل لإعادة القاء الضوء على حياة هذه الفيلسوفة الايطالية ايلينا كورنارو وعلى فكرها ونتاجها وهي تعتبر الأوروبية الأولى التي حصلت على شهادة البكالوريوس في الفلسفة سنة 1678 بدرجة التفوق الأقصى من جامعة بادافا العريقة وكان عمرها آنذاك 32 عاماً، إذ تحتفظ الجامعة والى يومنا هذا بتمثال للفيلسوفة ايلينا لوكريتسيا كورنارو التي ولدت في أحد القصور "الفينيسية" التي تطل على القناة الكبرى في هذه المدينة الساحرة الجمال لأسرة عريقة تنتمي الى طبقة النبلاء الذين كانوا يحكمون هذه الجمهورية المستقلة وكانت طباعة الكتب فيها تفوق كلاً من جمهورية فلورنسا عاصمة عصر النهضة ومدينة باريس. الرواية تستعرض أيضاً الجوانب المتعلقة بالمشاعر والأحاسيس التي كانت تحملها ايلينا من خلال علاقة الحب الخالد الذي ربط الفيلسوفة الرائعة الجمال برومانطيقية الشرق الساحرة التي تمثلت في رجل عربي مسلم كان يحمل علماً وثقافة كبيرين يدعى عمر ابن الفريد، كان يتردد على البندقية أيام كانت العلاقات التجارية والثقافية العربية مع الجمهورية الصغيرة أوجها. وبعد أربع سنوات على تخرجها ودخولها عالم الفلسفة، تفارق الحياة بعد إصابتها بمرض خبيث. لعلّ الكتاب الجديد للكاتبة الايطالية باتريتسيا المشغولة على الدوام بقضايا الفن والكتابة والمرأة تتوجه به الى قلوب القراء لجعلهم قادرين على التنقل والرحيل معها في عملها أو قطعتها التاريخية الأدبية التي تغوص في القديم البعيد باحثة عن قصة حياة امرأة وعن شعريتها وفكرها وعشقها وتقص حكاية عصر بكامله فاتحة صفحة ظلت مغلقة دائماً في الواقع الايطالي. ذلك أن التاريخ الايطالي كما هو الحال عند العرب غالباً ما يبدأ بالرجل وينتهي بالرجل، وتظهر النساء في هذا التاريخ كرموز عرضية يمر عليها المؤرخ والقاص مرور الكرام على رغم مشاركتهن الحيوية والمهمة. الكاتبة باتريتسيا كارانو في جميع كتاباتها السابقة تدرك أن النماذج النسائية التي تصفها ليست دائماً نماذج سعيدة أو نسوة استطعن تحقيق حياة كريمة بسهولة. فهناك اللواتي قضين الجزء الأعظم من حياتهن في توفير لقمة الخبز أو بناء السكن. الا أنها في جميع كتبها تحاول القول أن المرأة تفعم كل شيء بالحيوية فهي قادرة على فرض الحياة والحيوية أينما وجدت، فالحب يدب الحياة في أشد النفوس خمولاً ويجعلها أكثر صفاء وجمالاً. والبحث عن حياة الكثيرات من النسوة هو خروج من عذاب الحب أو التخلص من عباءة الجسد وشهواته للعبور نحو الفكر.