استطاعت صنعاء أن تصمد أمام عوامل التغيير المختلفة لتحافظ على رونقها وجمالها المعماري. هذه المدينة الفريدة خرجت الى العالم من أعماق التاريخ بعد زمان من العزلة لتؤكد أن القديم ليس رمزاً للتخلف، وأن خبرة الأجداد تناسب متطلبات العصر. تنظر من صنعاء الى عظمة ماضي الشرق كأنك أمام لوحة استطاع الفنان أن يبدعها وذلك للتناغم بين مادة البناء وأسلوب التصميم والتخطيط. لذلك أدرجتها اليونسكو ضمن المدن التاريخية التي يجب المحافظة عليها. نشأة المدينة القديمة صنعاء مدينة سبأية أمر باختطاطها الملك هلك أمر بن كرب آل وتر يهنعم ملك سبأ وذي ريدان في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي باسم "هجران صنعوا" كما ورد في النقوش السبأية القديم وتعني = مدينة. وبعض المؤرخين يذكر أن أول من اختطها هو سام بن نوح عليه السلام وذلك بعد الطوفان باسم مدينة سام. ثم سميت آزال نسبة الى آزال بن يقطن بن العبير بن عامر. والقلعة التي بنيت في الطرف الشرقي من المدينة ربما تمثل نواتها الأولى. ثم تطورت لتصبح مدينة ذات سور دائري يتوسطها "القليس" الذي بناه إبرهة قبل الاسلام ثم توسطها الجامع الكبير بعد الاسلام. تقع صنعاء في المنطقة الوسطى الشمالية في اليمن يحدها شرقاً جبل نقم وجبل عيبان غرباً، حزيز جنوباً ومدينة الروضة شمالاً. وتقع على ارتفاع 2400 متر فوق مستوى سطح البحر تقريباً. تبلغ مساحة المدينة القديمة حوالى 157 - 168 هكتاراً يسكنها حالياً 52000 نسمة تقريباً بكثافة سكانية 30م2/ فرد. ولا أحد يعرف عدد سكانها عند بنائها. وتشير التقديرات الى أن عدد سكانها في الماضي بلغ حوالى 20000 نسمة عام 1905 م أي أن كثافتها السكانية كانت 5،78 م2/ فرد. وكانت المباني في الماضي تشكل 30 في المئة من اجمالي المساحة و70 في المئة من اجمالي المساحة كانت فراغات ومساحات خضراء. أما حالياً فقد انعكست هذه النسبة تماماً، إذ أصبحت المباني تشكل 70 في المئة من اجمالي المساحة، و30 في المئة من اجمالي المساحة تشكل مساحات خضراء وفراغات. العامل الديني سنتحدث هنا عن الاسلام كعامل ديني مؤثر على عمارة مدينة صنعاء القديمة ويلاحظ تأثرها بهذا العامل بجلاء من خلال الجامع الكبير الذي يتوسط المدينة ويمثل نواتها، والجوامع الصغيرة المنتشرة في كل أحياء المدينة فلكل حي أو حارة جامعها الخاص. فالجامع هو مكان العبادة ومكان لتلقي العلوم المختلفة فكان الجامع بالاضافة الى دوره كدار للعبادة يؤدي دور المدرسة أيضاً. وكانت تتوقف لكل جامع مساحة من الأرض تجاوره تسمى المقشامة تستفيد من ماء الوضوء في الجامع لتزرع بعض أنواع الخضار وتنفق عليه من دخلها. وبسبب تحريم الإسلام استخدام الاشخاص أو الصور الحيوانية في الموضوعات الفنية عمد المعماريون الى استخدام الأشكال الهندسية والنباتية والكتابة في زخارفهم وبرعوا في زخرفة الحوائط والأسقف الداخلية والواجهات الخارجية لمساجدهم ومبانيهم. ولجأ المعماريون الى نحت القمريات وتثبيت الزجاج الملون فيها وزينوا واجهاتها. الى العامل الديني لعب العامل الجغرافي دوره أيضاً، إذ كان لتحول قوافل التجارة القديمة من مدن الأودية الواقعة في الأجزاء الشرقية الصحراوية من اليمن طريق اللبان الى مدن الأحواض الجبلية أثراً في تطور عمارة صنعاء القديمة حين صارت بموقعها محوراً يدور حوله النشاط الاقتصادي، ونقطة عبور مهمة لقوافل التجارة والحجيج. ونتج هذا التحول عن قيام دولة قوية في المناطق الجبلية سبأ وانهيار دولتي الأجزاء الشرقية قتبان وحضر موت. العامل الطبيعي تتأثر العمارة الى حد كبير بما يوجد من ثروات طبيعية الأخشاب - الحجارة - الطين هذه المواد كانت متوافرة في المدينة القديمة، لذلك نجد مبانيها شيدت بالأحجار، مع استخدام الطين كمادة لاحمة أو بالطين الموضوع في قوالب والمجفف بأشعة الشمس والمعروف باللبن. ولان الطين المجفف والمحروق الآجر أخف وزناً يستخدم عادة في الأدوار العليا من المباني. كما رصفت شوارعها وأزقتها بالأحجار وبني سورها البالغ طوله حوالى 2،6 كلم باللبن والأحجار والحصى واستخدمت الأخشاب في الأسقف والأبواب والشبابيك، والأحجار الطويلة أو الأخشاب في تعتيب الفتحات. واستخدم الحديد كأدوات قطع للأحجار. وعرف اليمنيون أهمية المياه فابتكروا أساليب تساهم في الحفاظ على موارده منها العلاقة بين البئر والبيارة فإذا البئر يغذي منشآت صنعاء بالمياه فإن البيارة كانت تغذي حوض مياه صنعاء الجوفي بالماء العائد إليها من منشآت المدينة بعد استخدامه في الأغراض المختلفة. وكان لكل منشأة في المدينة بيارة خاصة بها. العامل المناخي أهم ما يميز مدينة صنعاء هو الاختلاف المناخي بين حرارة الليل والنهار إذ تتراوح درجة الحرارة في فصل الصيف من 12!م ليلاً لتصل إلى 30!م نهاراً. وفي فصل الشتاء تتراوح درجة الحرارة بين 22!م نهاراً وتهبط الى 6!م تحت الصفر أحياناً. عكس هذا الاختلاف الكبير في مناخ ليل ونهار صنعاء نفسه بقوة على عمارة المدينة فتأثرت به من خلال تخطيط شوارعها وأزقتها الضيقة لتظليل واجهات المباني للمحافظة على اعتدال الحرارة أثناء النهار. وكذلك اعتماد كاسرات الشمس في أعلى الفتحات. كما أن الجدران الخارجية للمباني سميكة لتسمح بخزن أكبر قدر من الحرارة نهاراً وبثها الى داخل المسكن أثناء الليل. إن تنوع الفتحات في مباني صنعاء القديمة وتوظيفها للحفاظ على توازن المناخ جعل فتحات المرافق الخدمية في المسكن الحمام - المطبخ - السلالم في الواجهة الشمالية للمبنى الباردة نسبياً، وكان حجم هذه الفتحات صغيراً نوعاً ما. في حين اتسعت فتحات الواجهة الجنوبية الأكثر دفئاً واستغلت هذه الواجهة قدر الإمكان. وفي الوقت ذاته كان لهذه الفتحات أكثر من درفة للتحكم في دخول أشعة الشمس بقدر الحاجة اليها صيفاً أو شتاء. والتهوية للغرف تتم عبر الشاقوص شتاء وهو فتحة صغيرة توجد في الجزء الأعلى من النافذة أو أعلاها ويسمح بتهوية الغرف مع الحفاظ على درجة حرارتها من التسرب. أما صيفاً فتتم تهوية الغرف بواسطة ظلفات الشباك الكبيرة. الحمام البخاري تتوزع الحمامات البخارية في الأحياء السكنية من صنعاء القديمة لخدمة هذه الأحياء ويوجد في المدينة القديمة أكثر من 14 حماماً. ومن أشهرها حمام سبأ وحمام ياسر وتشير الدراسات أن هذين الحمامين وجدا في المدينة القديمة قبل الاسلام. وتتأثر عمارة صنعاء القديمة بحياة الناس الاجتماعية، إذ نجد أن الشوارع في الأحياء السكنية ضيقة ومتعرجة ومنكسرة لعزل المساكن عن أعين المارة. كما أن المقشامة، أو البستان التابع لجامع الحي، أحيطا بالمباني السكنية بعناية وذلك لإخفائها عن أعين المارة من أجل إعطائها الخصوصية التامة كمتنفس للسكان المحيطين بها والذين يعتبرون كأسرة واحدة هذا التدرج في الانعزال وإعطاء الخصوصية يبلغ ذروته في عمارة المسكن. فنجد أن الدور الأرضي من المسكن تكون فتحات نوافذه صغيرة ومرتفعة نوعاً ما عن الأرض وعادة ما يخصص للحيوانات. كما نجد أن غرفة استقبال الضيوف انعزلت بحمامها تماماً عن باقي غرف المسكن. كما أن تعدد أنواع الفتحات وأحجامها واستخدام المشربيات لتوفير أكبر قدر من الخصوصية لسكان المنزل. إن تقارب المساكن وتشابكها وكذلك وجود المتنفس المشترك للسكان المقشامة أو البستان وكذلك الجامع الخاص بالحي تؤدي الى تقوية الروابط الاجتماعية بين سكان الحي وتفاعل الجار مع جاره. فالامتداد الشاقولي لمساكن المدينة يبرره وجود متسع لسكن الجد والأب والحفيد في المسكن نفسه وهنا تبلغ ذروة تأثر عمارة المدينة بهذا العامل الاجتماعي. العامل الاقتصادي إن موقع مدينة صنعاء في طريق القوافل سواء التجارية التي تأتي الى أسواق اليمن الموسمية أو تلك المارة الى مدن اخرى وكذلك القوافل الذاهبة الى الحج قبل الاسلام وبعده فهذا الموقع المتميز جعل من أسواق المدينة رائجة اقتصادياً. وعليه فإن العامل وللأسباب السالفة كان له تأثير على نمط العمارة والتخطيط ويتجلى من خلال العناصر الآتية: - الشوارع: في أسواق المدينة أكثر اتساعاً وأيسر وصولاً وذلك من أجل تسهيل وصول البضائع والزبائن. - التخصص: كان لرواج التجارة أثره في وجود أسواق متخصصة فكان لكل سلعة سوقها الخاص. فهناك سوق للحبوب، سوق البز، سوق الأحذية، سوق الجنابي وغيرها من الأسواق المتخصصة. - السماسر: كانت السماسر بمثابة البنك التجاري الذي تخزن فيها البضائع والأموال. كما كانت بمثابة الفنادق لخدمة المسافرين المارين بالمدينة وحفظ أمتعتهم وأمواله. وتوزعت هذه السماسر بالقرب من الأسواق. ومن أشهرها سمسرة النحاس التي تحولت الى مركز حرفي، وسمسرة المنصورة، وسمسرة العمراني التي أصبحت مخزناً لأعلاف الحيوانات في سوق البقر، وسمسرة وردة التي لا تزال تستخدم كسابق عهدها لنوم الغرباء. - المعاصر: عادة ما تكون المعاصر في الدور الأرضي والأدوار العليا تستخدم كسكن لصاحبها وكانت تنتج أنواعاً مختلفة من الزيوت التي تعتبر مادة دوائية مهمة، ولا يوجد أثر للمستشفيات في عمارة صنعاء القديمة. فالمعاصر ودكاكين العطارين والحجامين وبيوت المشعوذين كانت تتكامل مع بعضها لأداء وظيفة المستشفى الى حد ما. - الأسوار: ولما كانت المدينة تؤمها قوافل التجارة والمسافرين الغرباء، كان لا بد من حمايتها من اللصوص فأحيطت بسور شبه دائري يعلوه ممر للحراسة وأبراج المراقبة والحراسة وله عدد من الأبواب أهمها باب اليمن وباب السلام. وكانت تغلق ليلاً ولا يسمح بالدخول أو الخروج منها إلا في ساعات معينة. حسبت كل هذه العوامل في عمارة صنعاء القديمة لتشكل وحدة منسجمة انصهرت فيها لتبرز للعالم مدينة فريدة على مر العصور.