قبل مئة عام غدت روسيا تحت رحمة غريغوري راسبوتين، النصاب الذي ادعى النبوة وزعم أن أصابعه يمكن أن تشفي الأمراض إذا ما تحركت على جسد العليل، وكان بين المرضى زوجة القيصر التي راق لها أن تسترخي تحت أنامل المشعوذ. إلا أن الرجل مد أصابعه الى الدولة وصار يحرك رجالها كالبيادق ويمد يده الى الخزائن ليأخذ منها ما يشاء. وانتهى راسبوتين جثة القيت في نهر النيفا بعد مؤامرة دبرها نبلاء مستاؤون. وفي عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن ابتليت روسيا مجدداً ب"راسبوتين" جمعي كان ينهب ممتلكات الدولة باسم الخصخصة ويقرر مصائر البلد من دون الرجوع الى البرلمان أو سائر المؤسسات الدستورية القائمة شكلياً بلا صلاحيات فعلياً. ولقب هذا الحاكم الحقيقي ب"العائلة"، ومن أبرز رموزها البليونير بوريس بيريزوفسكي الذي بدا ان نجمه أفل حينما توارى يلتسن. ولكن التطورات الأخيرة أظهرت مدى صعوبة فصل "راس" عن "بوتين". فالحكومة الجديدة شكلت برئاسة ميخائيل كاسيانوف الذي يعتبره الإعلام الروسي من رجال "العائلة" التي تمكنت من الاحتفاظ بعدد من أهم الحقائب الوزارية ومن ضمنها الداخلية. وكان من نصيب الكتلة المناوئة ل"راسبوتين الجمعي" والمتمثلة في المجموعة اليمينية الراديكالية حصة أقل من الوزارات، على رغم ان زعيم هذه المجموعة أناتولي تشوبايس تبجح بأن "ثلثي الحكومة من جماعتنا" علماً بأن "جماعتهم" اياها، أي كتلة "اتحاد قوى اليمين"، لم تحصل على أكثر من ثمانية في المئة خلال الانتخابات البرلمانية. وتشوبايس الذي يعرف ب"الديموقراطي" لم يجد غضاضة في أن يكون الثلثان لمن حصل على أقل من عشرة في المئة، بل انه دعا الى أن تكون الحكومة المقبلة كلها من... "الجماعة". ولا شك في أن رئيس الدولة يدرك خطورة البقاء في المسار الماضي ورجاله إلا أنه لا يبدو قادراً على الفكاك منه، وفي الوقت ذاته ثمة مؤشرات الى انه لا يثق ب"أحصنة طروادة" التي تركت في الديوان الرئاسي والحكومة. ولذا فالأرجح أنه قرر انشاء هياكل جديدة "موازية" للقديمة التي لا تزال تحت سيطرة مراكز القوى السابقة. وفي هذا السياق استأثر بالاهتمام المرسوم الرئاسي القاضي بتقسيم روسيا الى سبع مناطق كبرى على رأس كل منها ممثل شخصي لبوتين. والملفت ان هذه المناطق تتطابق تماماً مع التقسيم العسكري للقوات المسلحة الى حاميات، وما أثار الانتباه ان خمسة من سبعة "قوميسارين" هم من جنرالات الجيش والأمن والداخلية. والأغلب ان الرئيس يريد من جهة تحجيم دور القادة الاقليميين الذين صار كل منهم قيصراً صغيراً في مقاطعته أو جمهوريته، وفي الوقت ذاته فإنه يرغب في انشاء هيكلية ادارية - سلطوية تحد من نفوذ "الرأس" ليصبح بوتين حاكماً