"عقلاء المجانين" عنوان كتاب ألفه أبو القاسم الحسن محمد بن حبيب النيسابوري المتوفى سنة 406 للهجرة. والكتاب من المراجع التراثية المعروفة في المجال، إذ صدرت منه عشرات الطبعات المحققة. كما كان مرجعاً رئيسياً لابن الجوزي في كتابه الشهير "أخبار الحمقى والمغفلين". الكتاب غني بالملاحظات السيكولوجية الوصفية الى درجة تخاله معها معاصراً لولا غياب المصطلحات العلمية الحديثة من متنه. ونظراً لعمق الملاحظات الوصفية، التي يسجلها النيسابوري، لا يمكننا اعتباره مجرد كتاب سيكولوجي فولكلوري، خصوصاً وأن دقة ملاحظاته وصدقها تعيد الاعتبار الى أسباب التمارض إدعاء الجنون بينما تميل التصنيفات الغربية لإهمالها وتجاهلها... ويساعد الكتاب على القراءة النقدية لهذه التصنيفات وإكمال البنود الناقصة فيها. الا أن العيب الرئيسي في الكتاب هو إيراده للحالات والملاحظات على شكل مرويات إذ نلاحظ في بعض المقاطع تدخلاً من قبل الرواة، بما يوجه الرواية نحو تحقيق هدف الراوي وغاياته، خصوصاً وإن الكتاب يتناول شخصيات بعينها عبر روايات متعددة يأتي بعضها متناقضاً. بناءً عليه لا بد من اعادة قراءة الكتاب قراءة معاصرة في ضوء المعطيات العلمية الراهنة محاولين تبيان وجهات النظر المختلفة بالنسبة لكل موضوع من مواضيع الكتاب، ووضع تشخيص معاصر للحالات والشخصيات التي يعرض لها. 1- مقدمة الكتاب: يقدم النيسابوري كتابه بمقدمة يمكن اعتبارها مدخلاً لمناقشة الخطاب الاجتماعي للجنون. وهي مناقشة تلامس في العديد من جوانبها آراء الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه "تاريخ الجنون"، مثال ذلك قول النيسابوري: "المجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون. ولذلك دعت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه". يوورد المؤلف عدداً من الآيات القرآنية الكريمة التي تشير لاتهام الأنبياء بالجنون بمن فيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. 2- أصل الجنون في اللغة: وهو الفصل الأول وفيه يتطرق الكتاب الى دراسة لسانية - تاريخية عن أصل الجنون في اللغة العربية. فيرده الى أصله "جُنَّ" بمعنى استتر ثم يورد مشتقاته جن وجنة وجنين... والخ. ثم يكمل المؤلف باستعراضه لأسماء المجنون المرادفات اللغوية للكلمة. ان للمرادفات العربية معاني متقاربة لكنها ليست متطابقة، فيذكر التسميات ويشرحها راداً إياهاً الى أصولها اللغوية ومنها يعدد: الأحمق والمعتوه والأخرق والمائق والرقيع والممسوس والمختل والمخبول والأنوك والأولق والمهووس والهلباجة والخذب والبرشاع واللكع والملغ والمألوس والأهوج والهائم والأبله والهبنقع... الخ. ويعطي المؤلف أمثلة على هذه التسميات عبر أبيات شعرية تشرحها. ولعل القراءة المعاصرة لهذا الفصل لا تكتمل إلا عبر توضيح دلالات هذه المصطلحات التي يشكل اختلافها تصنيفاً تراثياً - لغوياً لحالات الاضطراب العقلي. 3- التصنيف التراثي اللغوي للاضطرابات العقلية: نذكر هنا أن الكتاب صادر في القرن الرابع الهجري وبأن اللغة تقدم هذه التسميات - المصطلحات من خلال وظيفتها كنظام رمزي، من وظائفه تسجيل الظواهر المتكررة وإيجاد تعبيرات رمزية لها مصطلحات. ومن هنا فإن التصنيف الذي يقدمه هو تسجيل عفوي وصادق لصنوف الاضطراب العقلي. وبالتالي لا يستبعد فئة من فئاته ولا يحاول إدماج فئة بأخرى على غرار ما تفعله التصنيفات الحديثة. وجاء تصنيف النيسابوري كالآتي: أ- الاضطرابات العقلية الولادية. ويصفها بقوله: "المعتوه هو من ولد مجنوناً" والفعل منه عته فهو معتوه. وهذا الشرح يبين الاستعمال المعاصر الخاطئ لهذا المصطلح. اذ نقول اليوم بعته الشيخوخة ومنه العته المبكر وعته الشباب الفصام... الخ. ب - الاضطرابات العقلية الذهانية. ويذكر المؤلف تسمية "الممسوس" ويشرحها: "وهو الذي تخبطه الجن أو الشيطان، والاسم المس" وهذه التسمية توازي ما يطلق عليه اليوم تسمية المرض الذهاني، حين يظهر الاضطراب العقلي بسرعة وحدة متفاوتتين لدى شخص معروف سابقاً بتوازنه. أما عن أسباب هذا الظهور فهي غير محددة علمياً بصورة كافية لغاية اليوم. مع الإشارة الى ان التصنيفات الأجبنية لا تعترف بالجن ولا باحتمال تسببه في الاضطراب تالياً. كما يورد المؤلف مصطلحات: المهوس والأبله والأهوج في سياق يوحي بالذهان. كما يورد مصطلح مألوس كرديف لمجنون بمعنى فقد العقل واستتاره ويعرج على الممراري أو السوداوي. ج - اضطرابات الإدراك. أما بقية المصطلحات، بما فيها الحمق، فترد في سياق الاضطراب الإدراكي المؤدي الى اضطراب السلوك والتصرف. فالهلباجة هو المصاب في سلوكه الغذائي بالشراهة. والأخرق على أنواع فهنالك: العياب الذي يعيب في غيره وذي النيقة المتأنق والبلغ الذي يسعى لبلوغ غاياته... الخ. د - الجنون الاجتماعي. وهو لا يجد تصنيفه في الفصول الأولى من الكتاب، إلا أننا نصادفه في الروايات التي ينقلها المؤلف عن الشخصيات التي يورد عنها الأحاديث والروايات، وتنتمي الى فئة العقلاء على رغم بعض المبالغة التي تعود على الأرجح الى الرواة. لكن هؤلاء هم عقلاء من نوع خاص. فهم رافضون للمجتمع ومستقيلون منه ومن التنافس على مغانمه. وحاول النيسابوري أن يصنف أسباب هذه الاستقالة أو ما يدعوه بجنون العلقاء وذلك في فصل "ضروب المجانين". لكن التصنيفات الحديثة تطبق على جنون العقلاء تسمية التمارض أو اداعاءات الجنون. 4- يصنّف النيسايوري ادعاءات الجنون كالآتي: أ - العشق ومكسب التمارض التقرب من المحبوب. ب - الاعتقاد ببدعة والبدعة معادية للمجتمع. ت - اضطرابات السلوك الاجتماعي التصابي والسكر وطيش الشباب. ث - الخوف من الله عز وجل. ج - التمارض لتورية قضية ما وسترها عن الناس. ح - ادعاء الحمق من أجل التكسب به. خ - المتحامق لإزجاء الوقت وطيب العيش. د - ادعاء الحمق للنجاة من بلاء أو آفة. ويرى المؤلف في الأصناف الأربعة الأولى ردود فعل عفوية تقلل من قصدية التمارض. وهي أقرب في اللغة المعاصرة الى اضطرابات الوجدان، التي تتراوح بين الخفيفة المنطوية على القصد والإرادي وبين المتطورة التي تصل الى حدود الذهان. لذلك فإن تصنيفات ادعاء الجنون القصدي الإداري ينحصر في الأنواع الأربعة الأخيرة، وحولها تدور أمثلة الكتاب. تكاد جهود النيسابوري أن تقتصر على نقل وتسجيل روايات الرواة عن شخصيات تناقلت ذكرها الألسن وكثرت الروايات حولها. وغالبيتها من الزهاد أو من المنسوبين الى الزهد. ومما يؤخذ على المؤلف عدم تمحيصه للروايات وعدم تحققه منها. حتى يمكن قصر جهوده على المقاطع الفصول التي قدم بها لهذه المرويات، وحتى في هذه المقاطع فإنه لا يذكر كل التسميات المعروفة للحمق والجنون، على رغم تطرقه الى الأصل اللغوي للجنون. ومع ذلك له فضل تدوين هذه الروايات والمساعدة على التأريخ لابطالها ورواتها. وكان المرجع المعتمد لابن الجوزي في كتابه "أخبار الحمقى والمغفلين" الذي كان أكثر دقة وأوسع حيلة وأرسخ مرجعية. إلا أننا يجب أن لا نهمل أن الكتاب الذي نقرأه كان سابقاً بأكثر من 150 عاماً على كتاب ابن الجوزي. كما نرى بأن اختيار موضوع "عقلاء المجانين" هو مقدمة للتشخيص التفريقي بين المريض الفعلي وبين المتمارض لأسباب مختلفة أوردنا ذكرها. ولا نعدو الواقع أن قلنا بأن هذه الكتاب يشكل أولى محاولات التشخيص التفريقي للمرض العقلي وللاضطرابات السلوكية. * رئيس تحرير مجلة "الثقافة النفسية" - لبنان.