في السابع عشر من نيسان ابريل الجاري، مضت على صدور قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1284 في شأن شروط تعليق العقوبات المفروضة على العراق، اربعة أشهر. وهو القرار التاسع والأربعون الذي يتخذه المجلس في شأن العراق من آب اغسطس 1990 الى الآن. وكان اعداد القرار والمداولات في شأنه بين أعضاء مجلس الأمن الدولي استغرق ثمانية أشهر، ولا يعرف أحد، حتى الآن، متى يأخذ طريقه الى التنفيذ، ولا الوقت الذي يتطلبه، إذا لم ينفذ، لاعتباره قراراً ميتاً شأن الكثير من قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة. وعلى رغم هذا، ما زال القرار موضع أخذ ورد، ومثار تعليقات وتوقعات من جهات عدة، سواء كانت الجهات التي سعت الى اصداره وبذلت جهوداً كثيرة لذلك، وفي مقدمها الولاياتالمتحدة الاميركية وبريطانيا وهولندا، أو الجهات التي تحفظت عنه وامتنعت عن التصويت عليه، وهي فرنسا وروسيا الاتحادية والصين، أو الجهة المطالَبة بقبوله والتعامل مع الأممالمتحدة في شأنه، وهي حكومة بغداد التي رفضته حتى قبل صدوره، وعارضته في شدة بعد صدوره، ونظمت التظاهرات المفتعلة والحملات الصحافية المعروفة ضده، على رغم انها لم ترفضه رسمياً، حتى الآن، تاركة الباب موارباً من الناحية العملية. وظل مسؤولون كبار يصرحون، قبل صدور القرار وبعد صدوره، أن حكومتهم ترفض أي قرار يصدر عن مجلس الأمن لا يقضي برفع العقوبات كلياً، زاعمين أنهم نفذوا كل ما التزموه وفقاً للقرارات التي اتخذها جلس الأمن والاتفاقات التي وقعوها. ولم تكن هذه الممارسة بغريبة عن تفاعل حكومة بغداد مع قرارات مجلس الأمن. فقد ظلت تماطل في الاعتراف بدولة الكويت وحدودها سنوات عدة بعد طرد جيشها من الامارة عام 1991. ولم يصدر اعترافها الا في تشرين الثاني نوفمبر 1994. والمثال الأوضح على ذلك تعاملها مع القرار الرقم 986 قرار النفط في مقابل الغذاء الذي صدر في نيسان 1995، ولم توافق عليه الا في 20 أيار مايو 1996. ولم يأخذ طريقه الى بدء التنفيذ إلا في 25 تشرين الثاني نوفمبر 1996، بسبب تحفظات حكومة بغداد ومماطلاتها. اتخذ القرار الرقم 1284 بدفع من الولاياتالمتحدة الاميركية وبريطانيا، وهو يعكس توازن قوى معيناً، جراء التجاذب والمناقشات الطويلة التي استمرت ثمانية أشهر، في مجلس الأمن، بين الدولتين المذكورتين، وهما من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، والدول الدائمة العضوية الأخرى وهي فرنسا وروسيا الاتحادية والصين. إذ أن مصالح كل طرف تختلف عن مصالح الآخر الى هذا الحد أو ذاك. والقرار، من جهة أخرى، ليس فقط حصيلة هذا التوازن في القوى في مجلس الأمن، وإنما هو، أيضاً، انعكاس لتصاعد حملة الضغط على المستوى الدولي من أجل رفع الحصار الاقتصادي عن الشعب العراقي. هذه الحملة التي تعبّر عن موقف انساني عام من الشعب العراقي المنكوب بالحصار والديكتاتورية. وليس كما تريد أن تصوره أجهزة اعلام النظام. ولا بد من ملاحظة ان التحرك الضاغط لرفع الحصار عن الشعب العراقي استمر حتى بعد صدور القرار. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى بيان "اتحاد الكنائس العالمي" والبيان الصادر عن 70 عضواً من الكونغرس الاميركي وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان عن الآثار المؤذية للحصار والعقوبات الدولية على الشعب العراقي، واستقالة سيونيك منسّق الشؤون الانسانية وبوغهارت وغير ذلك. وفي معرض تقويم القرار، يمكن اعتباره خطوة على طريق تخفيف معاناة الشعب العراقي الناجمة عن الحصار الدولي الجائر والخلاص من العقوبات القاسية التي لم يسبق لها مثيل والتي أثقلت كاهل العراق وطناً وشعباً، وانتقصت من سيادته وأرجعته عقوداً عدة الى الوراء، جراء السياسات العدوانية التي ارتكبها النظام الحالي. ثم إن القرار محاولة من جانب الولاياتالمتحدة الاميركية وبريطانيا للرد على الحملة المتسعة عالمياً لرفع الحصار عن الشعب العراقي و"ابراء ذمتهما" من قسط من المسؤولية عما سببه هذا الحصار الجائر، ما يقرب من عشر سنوات، من كارثة حقيقية ما زالت تتفاقم، وتحميل النظام العراقي المسؤولية الكاملة عنها. والقرار، من جانب آخر، يعكس حرص الولاياتالمتحدة الاميركية على تأمين مصالحها، وإبقاء جوهر سياستها باحتواء النظام العراقي، سواء عبر مواصلة التحكم بإقرار العقود المبرمة وفق القرار الرقم 986، أو عبر التمهيد لدخول شركاتها حقل الاستثمار النفطي في العراق. واتخذ القرار وفقاً للفصل السابع، الأمر الذي يتيح استخدام القوة لتنفيذه. الا ان واشنطن استبعدت استخدام القوة، على لسان مساعد وزيرة الخارجية لشؤون المنظمات الدولية ديفيد ولش، بعد صدور القرار بأيام قليلة. إذ أعلن في مؤتمر صحافي يوم 21/12/1999 ان "الولاياتالمتحدة الاميركية لا تسعى، سواء بإقرار هذا القرار، أو بالحكم على رد الفعل العراقي، الى أي ذريعة للقيام بعمل عسكري". ولكن هل يمكن حقاً اعتماد ما يصرح به المسؤولون الأميركيون في شكل مطلق؟ ومن جهة أخرى أعلنت فرنسا، وهي من الدول التي امتنعت عن التصويت الى جانب القرار، بلسان الناطقة باسم الخارجية الفرنسية آن غازو سوكريه يوم 21/12/99، تعقيباً على تصريح نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي طارق عزيز من القرار والانتقادات التي ضمنها تصريحه، ان الخارجية الفرنسية أخذت علماً بهذا التصريح. وأضافت "ان القرار الرقم 1284، مثل كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، جزء من الشرعية الدولية. وهو بالتالي قانون مفروض على كل الدول الأعضاء بما فيها العراق". وتابعت قائلة "اننا ندعو العراق الى المشاركة في تطبيق هذا القرار الذي نتمنى أن يكون مناسبة لاستعادة تعاونه مع الأممالمتحدة". ولا يبدو - حتى الآن - ان المسؤولين في حكومة بغداد اخذوا بالنصيحة الفرنسية. وهم يواصلون رفض القرار في تصريحاتهم، من دون اصدار قرار رسمي بذلك أي أن رفضهم ليس قاطعاً. وإنما هم يتكتكون ويناورون للحصول على مكاسب سياسية لنظامهم. ومن الواضع انهم، بموقفهم هذا، يضيعون فرصة الاستفادة من النواحي الايجابية في القرار، ويفتحون الأبواب أمام تعريض البلاد لضربة عسكرية جديدة. اذ لا يمكن الجزم بأن الاميركيين والبريطانيين سيمتنعون عن استخدام القوة الى ما لا نهاية. وفي كل الأحوال، وكما دلت التجارب السابقة، فإن حكام بغداد لا يبالون حتى اذا ادى رفضهم القرار الى ضربة عسكرية جديدة لا تطيح نظامهم، وتشكل "نصراً جديداً" لهم لأنهم باقون في دست الحكم، الأمر الذي يتطلب من كل المعنيين بالعراق وبمصالح شعبه تشديد الضغط من أجل الرفع الكامل والفوري وغير المشروط للعقوبات الاقتصادية عن الشعب العراقي. وما هو جوهري في هذا ان لا توضع موارد النفط، في أي حال، تحت تصرف الحكام الذين تسببوا في فرض الحصار والعقوبات، والذين لا يهدفون إلا الى تعزيز نظامهم المعزول عن الشعب. بل ينبغي ان تكرس تأمين حاجات الشعب العراقي الغذائية والصحية والانسانية الأخرى كاملة، وإعادة الوضع الطبيعي للاقتصاد الوطني العراقي عبر اطلاق دورة الانتاج السلمي من جديد. ولكي يتم هذا لا بد من الفصل بين مسألة رفع العقوبات الاقتصادية عن الشعب العراقي ومسألة التفتيش عن الأسلحة المحرّمة وتدميرها. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.