نشرت استقالة ياسر عبدربه جواً واسعاً من القلق والخوف، في اوساط فلسطينية عدة، حتى المعارضين لاتفاق اوسلو، وحتى المعارضين لاستمرار المفاوضات والداعين الى وقفها، بعد ان سارت من تنازل الى تنازل، شعروا بالقلق والخوف. لقد جاءت استقالة عبدربه احتجاجاً على تشكيل قناة تفاوضية سرية في السويد، وجاءت رغبة منه في ان يكون هناك مسار تفاوضي واحد لا مساران، ولكن هذا هو العنوان فقط، اما ما يمكن قراءته بين السطور فهو اخطر من ذلك، ويتعلق بثوابت الموقف التفاوضي الفلسطيني. لقد بدأت مفاوضات الحل النهائي من خلال الاعلان الفلسطيني الرسمي بأن هذه المفاوضات لن تدخل في التفاصيل، وستركز على الأسس والمبادئ، لان التفاصيل تخص اتفاق اوسلو باعتباره اتفاقاً يتعلق بحل انتقالي، اما الحل النهائي فلا مجال فيه الا للأسس والمبادئ، حيث يستحيل التفاوض على اساس البحث بالتفاصيل. فعودة الارض المحتلة عام 1967 هي عودة الارض من دون تفاصيل، وحق اللاجئين في العودة والتعويض هو واحد موحد لا مجال فيه للتفاصيل، والتمتع بالسيادة فوق ارض الدولة الفلسطينية هو كلمة واحدة لا ثاني لها سوى نقص السيادة او المسّ بها، وقد رحّب الكثيرون، ومن ضمن ذلك المعارضون لاتفاق اوسلو، بهذا النهج التفاوضي الجديد، رحبوا بتمسك الوفد المفاوض بالقرار 242 كأساس لانسحاب اسرائيل الكامل من الارض، ورحبوا بالتمسك بالقرار 194 كأساس لإقرار حق اللاجئين في العودة، ورحبوا بالموقف من قضية القدس الشريف عاصمة لدولة فلسطين، وان كان قد بقي في قلوبهم شيء من الخوف من تراجع وتقدم عليه القيادة، عملاً بتجربة طويلة مليئة بمواقف التراجع. كان الخوف كامناً، انما من دون دلائل مادية تشير اليه. الآن تأتي استقالة عبدربه لتطرح سؤالاً جوهرياً: اذا كان الموقف التفاوضي الفلسطيني هو موقف واحد، سيبلغه رئيس الوفد المفاوض الى الاسرائيليين مهما كان اسمه، فلماذا اذاً تكون هناك قناة ثانية، وسرية، وفي السويد؟ الوجه الآخر لهذا التساؤل الخطر، ان قناة السويد ضرورية لأن هناك موقفاً فلسطينياً آخر سيتم تبليغه للاسرائيليين، اي لأن هناك تراجعاً فلسطينياً سيُقدّم. والخطير في هذا الامر، ان التراجع هذه المرة اذا حدث، فهو تراجع يمسّ القضايا الفلسطينية المصيرية، يمسّ قضية الوطن، ونتائجه خطيرة على الجميع، فلسطينيين وعرباً، ولا يدرك خطورته الا من يملك حسّاً بالتاريخ، او يعرف ان اللعب مع التاريخ قضية خاسرة دوماً. اما اذا كان المفاوضون جهلة، او اطفالاً سياسيين، او ينعدم لديهم الحسّ التاريخي، فسيكونون جاهزين لتقديم التنازل عبر جملة مثلاً، ولسان حالهم يقول: انها جملة فقط فلماذا انتم غاضبون! نقول هذا وامامنا تجربة اوسلو، وتجربة الاتفاق الاقتصادي الفلسطيني، حيث شاهدنا مفاوضين يتنازلون عن المرجعية القانونية او الدولية لإنجاح المفاوضات، ويتنازلون عن التحكيم وهم يتنزهون في الحديقة مع خصمهم، ويرهنون الاقتصاد لاسرائيل، لأنهم حفظوا جملة تقول ان لا وجود للاقتصاد الفلسطيني، وهو اقتصاد في بطن اسرائيل، وهؤلاء الذين فاوضوا في اوسلو، بتلك الطريقة المهينة، هم انفسهم الذين يفاوضون اليوم في السويد، فهل سيتغيرون؟ لو سألنا ياسر عبدربه عن الجواب سيقول: لقد قدّمت استقالتي.