استمتع اللبنانيون اخيراً بمسرحية "قطع وصل" لرفيق علي احمد الذي قام بتمثيلها مع زكي محفوض في الفترة ما بين 24 شباط فبراير و15 نيسان ابريل 2000. وقد اطلعني على نصه الاصلي فاستندت اليه في كتابة هذه الدراسة، وتصرفت قليلاً بالكلمات العامية اللبنانية الواردة فيه حتى تصبح في متناول القارئ غير اللبناني. كتب رفيق علي احمد نصه بلغة القلب، لأنه كتب سيرة حياته، حياة الريفي الطيب القادم من قرية جنوبية على حدود اسرائىل الى بيروت، وهي الرحلة التي اوصلته الى حافة الجنون. روى حكايته لأن وظيفة الفنان الاصيل، برأيه، تجعل منه شاهداً مؤتمناً على ذاكرة الفقراء والفلاحين وكل شهداء الجنوباللبناني الصامد في وجه اسرائىل. يكتب لأنه الراوي والممثل. لذا حمل نص المسرحية بصمات رفيق علي احمد بدقة متناهية فجاء اشبه ما يكون بمانيفستو انتقادي يلقى من على خشبة المسرح حاملاً شحنة ألم كبيرة تختزنها ذاكرة المؤلف - الممثل منذ ايام الطفولة حتى الآن. والدة الطفل الجنوبي الشهيد احمد الذي قتلته قنبلة اسرائىلية في يوم ميلاده تطلب منه ان يتحدث عنه في مسرحيته لكي يخبر كل الناس ان اولاد الجنوبيين يموتون بالهدايا، وأن على المسؤولين ان يعملوا على وقف مسلسل الدم لانقاذ الاطفال الآخرين بدل اخذ صورة تذكارية مع عائلة كل طفل شهيد يسقط كل يوم على ارض الجنوب. آنئذ، يستذكر الراوي صورة اطفال الجنوب مقرونة بصورة اطفال العراق لأنهما وجهان للطفولة العربية المهددة بالموت اليومي: "الطفل في العراق يحلم بكوب من حليب لا يحصل عليه، فيموت. والطفل في جنوبلبنان يحلم بلعبة، يحصل عليها فيموت". ليست ثنائية الموت - الحياة نتاج الاعتداءات الاسرائىلية المتكررة على الجنوب والجنوبيين لأن العادات والتقاليد الموروثة، ومنها الطائفية، وجرائم الشرف، والقتل، والزعامات السياسية وغيرها لا تزال تفتك بأجيال متعاقبة من اللبنانيين. هكذا يتداخل الموروث السلبي مع الحاضر المأزوم لينتجا مأساة لم تتوقف حتى الآن مخلفة آلاف الضحايا. لقد عاش الاب حزيناً على ما اقترفت يداه بحق ابنته بعد ان قتلها بالسم دفاعاً عن عادات وتقاليد بالية. فماتت الام حزناً عليها، وعاش الاخ طوال حياته يبحث عن سر موت اخته "أميرة" مستنجداً بكل الاولياء والصالحين لمعرفة سبب عقلاني واحد يدفع اباً الى قتل ابنة لم تقترف اي ذنب سوى انها تزوجت ممن احبته من طائفة اخرى. لا يريد رضوان ان يصدق اذنيه بعد ان اخبر طيف اخته ان اباه دس لها السم وهو الذي ارسلها الى المدينة مع اخيها طلباً للعلم فتزوجت من دون موافقة اهلها، شاباً احبته. ولما عادت الى القرية على امل التصالح مع العائلة انتهت جثة هامدة دفنت على عجل في ترابها بعد ان رفض رجل الدين في القرية الصلاة عن روحها. رضوان، الفنان المبدع، بقي وحيداً من افراد العائلة، شاهداً على فجيعة موت الاخت وندم الاب. واجه قدره على طريقة مسرحيات شكسبير متماهياً مع هاملت، ومدعياً ان شكسبير كان يكتب عنه حين كتب مسرحيته. هنا يتداخل العقل مع الجنون، فيتفلت الراوي من قيود الزمان والمكان ليكتب، مأساة المعذبين في الارض. يقول مخاطباً والدة احمد: "نعم سأخبر قصة احمد، انا قدري ان اروي القصص، قدري ان اكون الحكاية وأنا الراوي. قدري ان اتقلب من حياة لأخرى وأكرر مأساتي. انا احببت ان اكون ممثلاً حتى ألعب قصص غيري، حتى انسى قصصي، انسى ذاكرتي. لماذا كتب لي دائماً ان ألعب قصصي، دائماً أكتب ذاكرتي، مأسة تلو مأساة، مرة تكون مأساتي الاب بهاملت ومرة اعيد الحوار نفسه بمأساة الاخت. يا رب! لو اني ارتكبت خطايا البشرية كلها آن لهذا الجسد ان يستريح، آن لهذه الروح ان تتطهر. انا خمبابا حارس ارزك المقدس، قتلت بالسيف. انا سقراط رافض الآلهة ومبشر بإله واحد هو انت، قتلت بالسم. انا ابو ذر الغفاري مهجر في بقاع الارض. انا غاندي السلام معمد بدماء الرصاص. أنا الحلاج...". ويقول في مكان آخر، متهكماً على مأساة بلد لا يحترم فيه الفن والفنانون: "وكأنه فخر لي ان اكون هاملت! ليتني كنت مخلوقاً عادياً يعيش حياة واحدة تنتهي بموته! لماذا قدري انني كلما انتهيت من حياة اخلق من جديد وأعيش حياة ثانية تتكرر فيها المأساة عينها! في هاملت كانت مأساتي الاب، وفي هذه الحياة مأساتي الاخت!" تروي المسرحية مأساة الجنوب - مأساة لبنان. فبالاضافة الى العدوان الاسرائيلي اليومي على الجنوبيين، هناك مآس اخرى ما زالت تتكرر منذ قرون بسبب العادات والتقاليد السيئة التي تتمسك بها كل الطوائف، فتنمي النعرات الطائفية على حساب الروح الوطنية، ويجبر اللبناني على ان "يولد ويعيش ويتزوج ويموت طائفياً" على حد تعبير الدكتور ادمون رباط. ومأساة الفرد هي مأساة الامة التي نبه منها جبران خليل جبران بقوله: "ويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقل فيها الدين". فعبرت المسرحية بصدق عن واقع هذا الوطن الممزق بالقول: "مشكلتي وطن بجناحين. جناحان فيهما اكثر من ثماني عشرة ريشة. وعند اول نسمة تنسم كل ريشة على موال...". وما هو سائد الآن في لبنان لا يستند الى مبادئ ثابتة لكنها قابلة للتطور. انه مجرد نزعات واتجاهات ومذاهب طائفية تنتهي دوماً بقتال دموي يروي ارض لبنان. ويقول في مكان آخر: "العائلة شيء جيد لكن العصبية العائلية شيء بشع لأنها تفكك الوطن وتنتهي بتفكيك العائلة نفسها". جاء النص المكتوب في مسرحية "قطع وصل" مثقلاً بكل الافكار التي تضج في رأس المؤلف - الممثل رفيق علي احمد. وهو يعتقد جازماً بأن نصه ليس محايداً بحيث يتناوله اي ممثل آخر بل هو نص خاص به لأنه نص يشبهه، يعبر عن مأساته التي هي حكاية كل جنوبي لا بل كل لبناني جاء من القرية الى بيروت. وهنا مشاهد من مسرحيته الجديدة ذات النكهة الثقافية المتميزة. 1- مشهد التصادم ما بين اخلاق الريف وأخلاق المدينة مشكلة التعليم في الريف اللبناني تركت بصماتها على عدد كبير من اطفال لبنان لا بل كل اطفال العرب في عصر العربدة الاسرائىلية والتخاذل العربي. الجنوب هو الجرح الدامي ضمن وطن ممزق بالنعرات الطائفية، ولن يتعافى لبنان ما لم يتعاف جرح الجنوب. تبدأ المأساة مع ولادة كل طفل جنوبي في قرية منسية يدرس طلابها على نور شحيح لسراج على الكاز، وتبهره ليلاً انوار الكهرباء المشعشعة في مستعمرة "مسكاف عام" او في اي مستعمرة اسرائىلية. لا يعي الطفل مخاطر المستقبل فينصرف الى الطيش واللهو بدل الدراسة. لكن الاب الجنوبي يدرك تماماً حجم المأساة التي هي بحجم الوطن. فما حل بفلسطين من قتل وتهجير وتشريد قابل للتكرار في لبنان بأكمله طالما ان المشروع الصهيوني قادر على التوسع ما بين الفرات والنيل. لذا يوصي الاب ابنه بالدرس والتعلم لأن الاسرائىليين عازمون على تهجير اهل الجنوب الذين قد يضطروا الى مغادرة قراهم دون ان يحملوا معهم شيئاً. فصورة الفلسطيني المشرد الذي حمل معه فقط مفتاح بيته ما زالت ماثلة في ذهن الاب ولا يريد مصيراً مشابهاً لأبنائه. وفي حال وقعت الكارثة المحتملة وتم التهجير فمن الافضل ان يكون ابناء الجنوب متعلمين وقادرين على اعالة انفسهم. ينجح الفتى الجنوبي في تحصيل العلوم المتوافرة في مدرسة القرية فينتقل مع اخته الى بيروت لإكمال الدراسة. وهنا تبدأ مأساة اخرى من نوع جديد. فبيروت الحلم ليست بيروت الواقع المعاش. فيصطدم الفتى الجنوبي وشقيقته بتقاليد وعادات المدينة مظهراً تبرمه منها وعدم قدرته على التكيف معها. وهنا تبدأ سلسلة من تداعيات الذاكرة التي ترسّمها الفتى الجنوبي. مقارنة ذكية ما بين جيل الاب الذي بقي اسير العادات والتقاليد، وجيل الابن الذي بات اكثر انفتاحاً على ابناء الطوائف الأخرى بسبب اختلاط الأجيال الشابة على مقاعد الدراسة خاصة في العاصمة بيروت، لقد بات الجيل الجديد على استعداد للتزاوج من الطوائف الاخرى كما فعلت اميرة. لكن الجيل القديم غير مستعد لتقبل العادات الجديدة في التزاوج المشترك، فكانت الفاجعة بموت اميرة ضحية الصراع بين القديم والجديد. 2- مشهد جريمة الشرف "اميرة لم ترتكب معصية، اميرة احبت شاباً خلقه الله ليكون زوجاً ممتازاً لها فتزوجته". لذا ينكر الابن على ابيه حقه في التحكم بحياة ابنته تحت ستار الحرج العائلي الذي سببه له زواجها من طائفة اخرى وانتهى به الامر الى دس السم القاتل لها كتعبير عن خضوعه الاعمى للتقاليد المتوارثة. يقول صوت اميرة - الضحية مخاطباً رضوان: "في بلدنا تسطع الخناجر تحت البسمات. هنا اقرب الناس إلينا بصلة الرحم هم اشد الناس خطراً علينا. هنا يستسلم الناس لقدرهم... اما الفنان فهو الوحيد الذي يواجه قدره، وأنت فنان، واجه قدرك. لا تترك دمي يذهب هدراً. اجعل من موتي عبرة علّك تنقذ اناساً آخرين، لكن اياك ان تؤذي ابي وأباك. أبوك ليس بقاتل، انه ضحية مثلي، ادخلوا الشك الى نفسه وضللوه فقتلني رغماً عنه فقط ليحمي نفسه من كلام الناس والجيران". هكذا توصي الضحية بالرأفة بجلادها لأنه بدوره ضحية، فيستمر مسلسل الموت. الا ان رضوان ينفجر بكلمات مثقلة بالحكمة واللعنة على وطن يضحي بأبنائه من دون سبب: "ليست هذه اول مرة سفك فيها دم في هذا الوطن. انزف دمك حتى الموت يا وطني المسكين، وأنت ايها التعصب توطد في هذه الارض غير منازع بعد اليوم. الدم يتقاضى الدم! ايه رائحة الدم! هذه يد، على صغرها، لا تتطهر حتى وان غسلت بماء البحور وتعطرت بكل العطور العربية...". 3- مشهد المدينة البشعة كان الابن نفسه عرضة لاختبار اقسى مما حل بوالده. فعند نزوحه من القرية الى المدينة واجه مشكلات لا حصر لها. لكنه صمم على الصمود وتحدي الجديد بهدف التأقلم معه. فقال معاتباً والده على تصرفه البشع: "انا مثلك اقتلعت من جذوري عندما نزلت الى المدينة، الا انني كنت اقوى منك لأن عودي كان اكثر ليونة. تعبت كثيراً حتى استطعت دخول اجواء المدينة. انت كنت سجين بيتك فقط، اما انا فكانت المدينة كلها حبساً لي: الشوارع، البنايات، المقاهي، الناس المثقفون". كان يعيش رومانسية ابن القرية وسط صخب المدينة وعاداتها الجديدة. تعرض لانتقادات قاسية من صديقته مي، الطالبة في الجامعة الاميركية، التي انفجرت اخيراً في وجهه بغضب شديد: "قرفت من رومانسيتك وذكرياتك وطفولتك وقريتك، وأنك لا تطيق بيروت، وليس من احد يفهمك فيها! تريد ان تكون ممثلاِ وأنت لا تطيق المدينة، وتنتظر بفارغ الصبر الى ان تتحرر القرية حتى ترجع اليها! تقول دوماً: "هذه ليست المدينة التي كنت تحلم بها". هذه هي المدينة على حقيقتها. 4- مشهد العلة الطائفية او "الكرعوب" تنمي الطائفية لدى اللبناني الشعور بالانتماء الى طائفة بعينها يسميها كرعوب يمنع تفاعله الطبيعي مع ابناء الطوائف الاخرى الذين يتشكل منهم الوطن. واذا ما حاول احد المواطنين تغليب الشعور الوطني على الانتماء الطائفي عوقب بالقتل او السجن، واتهم بالالحاد والتنكر للدين الحنيف. الانتماء الطائفي علة لبنان الاولى. وما حصل من اقتتال دموي في تاريخ لبنان يعود، في الجانب الاساسي منه، الى النزاعات الطائفية والمذهبية والعائلية. لكن ما ينطبق على المواطن العادي في لبنان لا ينطبق على ابناء العائلات المسيطرة الذي يبدلون طوائفهم بسهولة وصولاً الى مقعد نيابي. من التداعيات المرة في المسرحية ان الميليشيات الطائفية كانت تتحكم بالمواطن العادي، مهما علت مرتبته او كثرت شهاداته الجامعية وتنوع ابداعه الفني والادبي. 5- مشهد موت الطفل باللعبة الاسرائيلية بموت الطفل احمد في عيد ميلاده تبلغ المسرحية ذروة المشهد التراجيدي. اعد قالب الحلوى، وأضيئت الشموع. كان احمد يلعب مع رفاقه، لكنه الوحيد الذي لم يحتفل بالعيد ذلك اليوم. فقد انفجرت به لعبة قاتلة من تلك الدمى - القنابل التي ترسلها طائرات اسرائىلية كل يوم لأطفال الجنوب. هكذا تكتمل مشاهد الرواية التراجيدية في "قطع وصل" بموت الطفل الجنوبي باليد الاسرائيلية، بعد موت الاخت بيد العادات والتقاليد الموروثة، وموت الام حزناً عليها، وانكسار الاب تحت وطأة المأساة المرعبة، وجنون الأخ باحثاً عن الحقيقة، حقيقة الموت المزمن في لبنان والذي اصبح تراثاً يجب القطع معه وبناء تراث جديد يصل لبنان بتاريخ الامم المتحضرة. اخيراً، تحت تأثير مخدر قاتل يحلم رضوان بتنفيذ حلم طالما راوده في اليقظة وعجز عن تحقيقه طوال عمره. فيأمر الممرض - الطيار بقصف بيت حبيبته السابقة سعدى، وبيت الشيخ الذي رفض اقامة الصلاة على جسد اميرة، والقمر الذي تجسس عليه طوال المسرحية، ومحول الكهرباء في المستعمرة الاسرائيلية "مسكاف عام" علّ سكانها يذوقون عذاب الظلمة الذي تذيقه الطائرات الاسرائىلية للقرى والمدن اللبنانية. وما ان يأمر بقصف بيتهم في القرية حتى يعلمه الطيار بأن الذخيرة قد نفدت. فيأمر الطيار بحمل عصاً يتوجه بها نحو والده الاعمى، الجالس تحت العريش. يأمر الطيار بتركه للندم وعذاب الضمير حتى يموت ببطء. ينجز هذا الحلم فيشعر بالراحة، ويستعد للموت على امل ان يولد من جديد مع جيل بكامله من اللبنانيين، جيل قادر على العيش بسلام في وطن تفتك به العادات والتقاليد الموروثة بقدر ما تدمر قراه غارات اسرائيل اليومية. لقد ابلغ رضوان الرسالة على طريقة: "اللهم اني قد بلغت". يطالب بقصف محول الكهرباء في مستعمرة "مسكاف عام" مقابل قصف كهرباء لبنان لأن اسرائىل لا تريد السلام. "ما يوقع اليوم ليس سلاماً. نريد السلام لنا ولهم، وهذا سلام لهم وحدهم". وينهي كلامه مخاطباً كل العرب: "اذا وقعتم على هذا السلام فسيكون السلام لهم والسلام عليكم". * مؤرخ لبناني.