قبل حوالي 16 شهراً، في 24 كانون الاول ديسمبر 1998، اقلعت طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني من سفن راسية في عرض المحيط الاطلسي، باتجاه فريتاون عاصمة المستعمرة البريطانية السابقة: سييراليون، الواقعة في غرب افريقيا. واستطاعت تلك الطائرات إجلاء مئات الرعايا البريطانيين والاجانب الى العاصمة السنغالية دكار ومنها الى لندن. ونجحت حكومة توني بلير العمالية في تجنب توريط قواتها في حرب مع الثوار الذين احتلوا اجزاء كبيرة من فريتاون في الشهر الاول من 1999. وقبل ايام تجدد المشهد نفسه في فريتاون، واقلعت الطائرات نفسها من الاطلسي وبدأت عملية إجلاء الرعايا التي قال عنها بلير انها قد تستمر حتى الاسبوع المقبل. لكن الجديد في هذه الجولة الاخيرة ان ميليشيات "الجبهة الثورية المتحدة" بزعامة فوداي سانكو و"المجلس الثوري للقوات المسلحة" بقيادة جون بول كوروما ما زالت خارج العاصمة، تحتجز حوالي 500 جندي من قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة في شرق البلاد وغربها. وهذا وضع بريطانياوالاممالمتحدة في مأزق حرج. فحزب المحافطين المعارض يضغط على حكومة بلير كي تقتصر عمليات القوات البريطانية على إجلاء الرعايا والخروج سريعاً من سييراليون، في حين تجد الحكومة البريطانية نفسها مُلزمة اخلاقياً وسياسياً بانقاذ قوات الاممالمتحدة المحتجزين في الغابات، خصوصاً انها احد الاعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الامن الذين تبنوا قرار ارسال 11100 جندي لتنفيذ اتفاق لومي لانهاء الحرب ومساعدة الرئيس السييراليوني احمد تيجان كباح. في الوقت نفسه، تخشى الحكومة كما يخشى المحافظون، دخول قواتهم الى الغابات السييراليونية وتعرضها لخسائر بشرية، ولخسائر سياسية في لندن. اما مأزق الاممالمتحدة فربما كان اكبر بكثير. فحكومات الدول حتى الكبرى منها، تتغير ويأتي غيرها. لكن سمعة المنظمة الدولية في الحفاظ على السلم العالمي قد تنهار نهائياً بعدما تردت كثيراً منذ فشلها في احلال السلام في الصومال حيث خسرت نحو 135 جندياً في 1993 بينهم 18 عسكرياً اميركياً، كما فشلت في رواندا في منع ذبح اكثر من 800 الف من الهوتو على ايدي التوتسي كما قُتل من قواتها عشرة جنود من الوحدة البلجيكية. والازمة السسييراليونية تعود الى مرحلة الاستقلال عن بريطانيا في 27 نيسان ابريل 1961. إذ نشأت بعيد الاستقلال الاحزاب السياسية على خطوط عرقية واثنية واقليمية، الامر الذي مهد السبيل للانقلابات العسكرية وحكم الحزب الواحد وسوء الادارة والفساد المالي، مع ما يحمله ذلك من إضعاف للقيم الاجتماعية التي كانت سائدة قبل الاستقلال. وخضعت البلاد بين 1978 و1992 لحكم الحزب الواحد برئاسة جوزف موماه الذي كان يتزعم حزب "مجلس عموم الشعب". وعندما اجتاحت حمى الديموقراطية في مطلع التسعينات بعد الحرب الباردة، اضطر موماه الى الرضوخ لاستفتاء شعبي جرى في 1991 وقرر اجراء انتخابات في 1992 استناداً الى نظام التعددية الحزبية. لكن قبل حلولها باشهر قليلة، اطاحه الكابتن فالنتاين ستراسر 26 سنة آنذاك الذي اعاد البلاد الى نظام الحزب الواحد. وتعرض الشعب السييراليوني خلال فترة حكمه الى ممارسات كانت اشد إيلاماً مما في عهد سلفه. وكان الثوار وعلى رأسهم "الجبهة الثورية المتحدة" بقيادة سانكو، يشنون حملاتهم العسكرية شرق البلاد ويحتجزون السكان بمن فيهم ثلاثة آلاف طفل. فاضطر ستراسر، تحت ضعط ثوار الغابات وتردي الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية، الى إجراء انتخابات تعددية في شباط فبراير 1996. وكانت الانتخابات التعددية الاولى، ففاز فيها المحامي المناصر لحقوق الانسان ورئيس "حزب الشعب السييراليوني" احمد تيجان كباح. لكن الاخير لم يستمر طويلاً في القصر الرئاسي، إذ استأنف سانكو عملياته العسكرية التي بدأها في 1991 وواكبت ثلاث حكومات متعاقبة. وبدوره اضطر كباح بعد سبعة اشهر الى التوقيع على اتفاق سلام معه في تشرين الثاني نوفمبر 1996. وبعد ستة اشهر اخرى، اي في 25 ايار مايو 1997، تعاون عسكريون كانوا معتقلين بتهمة محاولة انقلاب، مع جبهة سانكو واستطاعوا الفرار من السجن واطاحة كباح. وكان من اطاحه الكولونيل كوروما الذي تولى السلطة، فيما لجأ كباح الى ابوجا وغانا. ولم يعد الى مكتبه رئيساً الا بعد تسعة اشهر بعدما تدخلت قوات حفظ السلام التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا "ايكوموغ" بقيادة نيجيرية فطردت كوروما وقوات سانكو من فريتاون في شباط فبراير 1998. وبعودته الى الغابات اعاد سانكو تنظيم قوات "الجبهة الثورية المتحدة" بمساعدة تشالرز تايلور رئيس ليبيريا المجاورة. وكانت ورقة الضغط الاساسية للثوار سيطرتهم على المناطق الحدودية الغنية بالماس في الشرق. فكانوا يبيعون الماس المستخرج بمعدات بدائية غير مكلفة، لليبيريين الذين يزودونهم اسلحة ومؤناً تُعتبر ترفيهية في الغابات. وهكذا استأنفت قوات سانكو زحفها في اتجاه فريتاون في تشرين الاول اكتوبر 1998 ووصلت الى مشارفها في الاسبوع الاول من كانون الثاني يناير 1999. وبات كباح مهددا من جديد بالاخراج من قصره، فارسلت بريطانيا قوات لاجلاء رعاياها وزودت الرئيس المهدد اسلحة ومعدات عسكرية، مباشِرةً في الوقت نفسه حملة ديبلوماسية دولية ادت الى اتفاق سلام وقعه كباح وسانكو في لومي عاصمة التوغو في 7 تموز يوليو من السنة نفسها. وبموجب الاتفاق حصل سانكو على اعفاء من حكم بالاعدام صادر عليه، ومُنحت قواته عفواً عاماً. كما نص على نزع اسلحة المقاتلين من كل الجبهات المسلحة عددهم نحو 45 الفاً ودمجهم في المجتمع وفي الجيش تمهيداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية يحصل فيها سانكو على عدد من المناصب، فيما تتحول جبهته الى حزب سياسي. واوصى الاتفاق الاممالمتحدة بالاشراف على التنفيذ عبر ارسال قواتها. واستجابت المنظمة الدولية فبدأت منذ نهاية السنة الماضية بالارسال حتى وصل العدد الى 8700 جندي، ومن المقرر ان يرتفع الى 11100 جندي بحلول تموز المقبل. لقد بدا الاتفاق مثالياً، وافترضت الاممالمتحدة ان الطريق الى سييراليون سالكة لتنفيذ برنامج إعادة تأهيل المقاتلين ودمجهم في المجتمع بعد سحبهم مع اسلحتهم من الغابات. لكن الامر اختلف مع بدايات انتشار اصحاب القبعات الزرق في البلد. ففي كانون الثاني الماضي حاصر الثوار خمسة من جنود الاممالمتحدة قرب مقرهم في مدينة ماكيني ونزعوا اسلحتهم ومعداتهم، واستمرت المفاوضات لاطلاقهم اكثر من شهر. وبعد انتهاء هذه العملية مباشرة، استولوا على ثلاث سيارات عسكرية واكثر من 500 بندقية آلية تابعة للوحدة الغينية العاملة في اطار الاممالمتحدة. ومع وجود هذه القوات كانت ترد تقارير خلال الاشهر الثلاثة الاولى من السنة عن مواصلة الثوار اغتصاب النساء والاعتداء على السكان. وتأزمت مشكلة القوات الدولية عندما احتجزوا 500 من عناصرها مطلع الشهر الجاري اثر خلاف على نزع الاسلحة، فيما هاجم متظاهرون منزل سانكو في العاصمة، ففر بعدما قتل انصاره سبعة من المدنيين الغاضبين. زعماء دول المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا عقدوا قمة في ابوجا ليوم واحد الاربعاء الماضي، واكدوا انهم سيستخدمون "كل الوسائل المتاحة بما في ذلك الخيار العسكري لاحباط اي محاولة للاستيلاء على السلطة بالقوة". وقد دانوا سانكو وحملوه مسؤولية احتجاز القوات الدولية، وحذروه من "انهاء العفو الذي منح لاعضاء جبهته بمقتضى اتفاق لومي، والمثول للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب". وسيجتمع وزراء دفاع ورؤساء اركان دول المجموعة الاربعاء المقبل في ابوجا للبحث في اقتراح إعادة ارسال قوات حفظ السلام التابعة لها بعدما كانت انهت مهمتها في سييراليون في الاول من الشهر الجاري. كذلك كلفت دول المجموعة الرئيس تايلور "إجراء مفاوضات من اجل تحرير الرهائن واستئناف عملية تطبيق اتفاق السلام الموقع في لومي". وقد تُحل مشكلة تحرير الرهائن عاجلاً ام آجلاً، لكن يبدو ان الاممالمتحدة لا تتعلم من تجاربها السابقة،. وربما كان مجلس الامن لا يأخذ ايضاً بعِبَر مثل هذه التجارب. فاعضاؤه الدائمون يريدون حلولاً سريعة وفورية لمشاكل القارة البالغة التعقيد. وكم كانت دالةً صعوبة استدعاء مقاتل واحد من الغابة وتجريده بندقيته وإخضاعه لبرنامج صارم في مركز للتأهيل مقابل 300 دولار، علماً انه حر يتعامل بالماس عندما يحتاج ويقتل او يغتصب حين يحلو له. وربما كانت الاممالمتحدة بحاجة الى إعادة نظر في كل استراتيجيتها للتعامل مع النزاعات والحروب في بلدان معقّدة التركيب. اذ لم يعد جائزاً البقاء في أسر الخطة المعتمدة والجاهزة: ارسال قوات يكون مصيرها... الاحتجاز والقتل. يوسف خازم