القومية العربية هي إحدى الظواهر "الأفكار" الكبرى التي انعكست على مرآتها تحولات التاريخ - العربي على الاقل - في القرن العشرين. ذلك أنها اشتبكت وتفاعلت مع كثير من أبنيته وأفكاره فأثرت فيها وتأثرت بها. فمثلاً، اشتبكت في لحظة تشكلها، بالتناقض مع البناء التاريخي "الفكري والسياسي" للسلطنة العثمانية تمرداً على نموذجها في "السلطة الرعوية" الذي كان ينتمي بكل تعبيراته، الى أبنية العصور الوسطى التي كانت نماذجه الاوروبية تداعت قبل نحو القرن او اكثر بينما استمر نموذجها العثماني في العالم الاسلامي حتى كان سقوطه المحتوم أمام التشكيل الاوروبي الحديث بعد أولى حوادث القرن الكبرى الحرب العالمية الاولى". وجوهر الدلالة في هذا الاشتباك ان القومية العربية اسهمت كفكرة، وكإرهاصات حركة، في تفكيك او الشهادة على تفكيك احد أشهر الابنية التاريخية والإعلان من ثم عن الرحيل النهائي للعصور الوسطى. كما اشتبكت في لحظة تطورها بالتناقض ايضاً مع الموجة الاستعمارية الأوروبية التي عبّرت عن روح حقبة مميزة ضمن العصر الحديث هي الحقبة الكولونيالية بكل ملامحها السياسية والاقتصادية التي تطورت في قلب نظم الانتاج الرأسمالي وهي المواجهة التي استمرت حتى ستينات القرن العشرين على معظم الخريطة العربية في أشكال مختلفة من النضال ضمن موجة تحرر قومي سادت العالم غير الاوروبي في الشرق والجنوب ومثلت الطابع العام لهذه الحقبة التي لم تنتهِ إلا بزوال الاستعمار التقليدي الذي كشف عن نزعة المركزية الأوروبية "الغربية" في أكثر صورها عنفاً وتطرفاً في مواجهة الآخر الذي كان عالمنا العربي في القلب منه. ومن ثم كانت القومية العربية شريكاً في الكفاح ضد أسوأ نزوعات المركزية الغربية في العصر الحديث. وهي ايضاً اشتبكت بالارتباط هذه المرة بالفلسفة الاشتراكية في كثير من تجلياتها، سواء على مستوى الممارسة أو عند الصياغة الايديولوجية وبخاصة في النهج الناصري، والخطاب البعثي، وعلى رغم أن ذلك الارتباط بدى نقيضاً للخبرة الأوروبية في تشكيل الدولة القومية "البورجوازية" كما بدا متناقضاً مع منطق الاشتراكية ونزوعها "الأممي" المتجاوز للقومية، إلا أن ذلك الارتباط كان قابلاً للتفسير في ضوء الرغبة العارمة لحركات التحرر القومي في التخلص رمزياً ومعنوياً، من أشباح وطقوس ومن ثم ايديولوجيا المستعمر وذلك بالاقتراب من معادلة الموضوعي "الفلسفي والسياسي" الصاعد آنذاك وبقوة والطامح الى اقتسام القيادة العالمية مع الغرب الرأسمالي في الربع الثالث من القرن العشرين مما بدا وكأنه حساسية فائقة للقومية العربية إزاء إحدى الموجات التاريخية الكبرى في القرن. اما الاشتباك الأهم والذي نتوقف عنده في حديث اليوم لأنه مستمر وبقوة في القرن الجديد فقد تمثل في الجدل بالصراع مع واقع الدولة القطرية في العالم العربي، تلك الدولة التي نتجت في بعض الأحيان والأقطار عن المرحلة الاستعمارية مباشرة، بينما كانت في بعضها الآخر استئنافاً لمرحلة وتاريخ ما قبل الاستعمار. غير أنها وفي كل الاحوال اكتسبت حضوراً "واقعياً" ورسوخاً "وطنياً" كان محبطاً في كثير من الاحوال، وبمرور الوقت للتيار القومي العربي الذي تكاد تجمع أدبياته على أن خطابه الوحدوي مرّ بمراحل ثلاث أساسية في القرن العشرين. أولاها، هي المرحلة الرومانسية التي طُرحت فيها قضية الوحدة العربية طرحاً عاطفياً، إذ لم يكن الاهتمام بالبحث عن الأسس الموضوعية للوحدة، ولا المراحل المطلوب قطعها وصولاً اليها، بل طرحت الوحدة كبديل شامل لواقع التخلف والتجزئة والاستعمار في العالم العربي، في النصف الاول من القرن العشرين. وهي رومانسية اكتست بملامح أفلاطونية في كثير من الأدبيات التي رأت في القومية العربية "وجوداً قائماً" يجب الوعي به أكثر منه مبدأ يجب الدعوة اليه. وثانيتها، هي المرحلة الثورية التي امتدت في الربع الثالث من القرن تقريباً وإبان المد القومي الناصري تحديداً والذي تخللته بعض المحاولات الوحدوية وعلى رأسها الوحدة المصرية - السورية التي مثلت "المثال" الملهم احياناً، و"المحبط" احياناً للوجدان القومي. اما ثالثتها، فهي المرحلة الراهنة "الواقعية" التي يمكن وصفها بأنها أقل ثورية، وأكثر عقلانية على صعيد التيار القومي نفسه، ولكنها مرحلة القنوط من الفكرة والنقد العنيف لها في دوائر التفكير الاخرى والذي قد يصل في بعض الاحيان الى درجة السخرية منها والحديث عنها ضمن موجة ال "ما بعديات" في التاريخ والفلسفة والحداثة وغيرها، وال"ما بعد" هنا هي التعبير المهذب عن "النهاية". وظني ان القومية العربية تبقى ونحن في مطلع ألفية جديدة، مما لا يجوز فيه ولا معه منطق ال "ما بعد" وذلك لكونها تعبيراً عن وعي ملهم، وتشكيل ثقافي - تاريخي عميق يجعل منها، وتصير معه، انتماءً، ووجوداً وليس مجرد توجه او أيديولوجيا قابلة للتبدل او الزوال، واما التجسيد السياسي لهذه القومية فهو قضية قابلة للاجتهاد المستمر بقصد التجديد لا النفي. وظني، مرة أخرى، ان هذا الاجتهاد يجب ان يتأسس على الاعتراف بحقيقة "الدولة الوطنية" ليس كشرٍ لا بد منه، في مواجهة دولة الوحدة، ولكن كمرحلة في إطارها غير محدودة بزمن، بل مفتوحة على التاريخ. ولذا فنحن بحاجة الى تأصيل نظري لواقع الدولة "الوطنية" ليس فقط "القطرية" لا يجعل من وجودها محض هزيمة ثقافية وتاريخية للقومية العربية، وهو الأمر الذي يتطلب إسقاط ثنائية الثقافة - السياسية في تفسير الوجود العربي، والذي سنحاوله من جانبنا في السطور المقبلة. والمنطق المقترح هنا يقوم على تفكيك ما هو ثقافي الى ثنائية الخصوصية والتجانس والتي تصبح العلاقة بين طرفيها هي الأساس النظري للعلاقة بين طرفي ثنائية القطرية والقومية. هذا المنطق التفكيكي لظاهرة الثقافة يستند الى الادراكات المتمايزة للظاهرة وبخاصة الإدراكين الرئيسيين لها. الأول، وهو الإدراك السيسيولوجي الذي يراها كنمط عيش وأسلوب حياة تسقط فيه الرموز على الوقائع مباشرة، وتندمج فيه حركة الصور والشخوص وتنتفي فيه الى حد كبير المسألة الفاصلة بين الرؤى والسلوك حيث لا تصدر حركة الجماعة عن رؤية سابقة بالضرورة وإن أمكن استخلاص هذه الرؤية من حركة الجماعة الانسانية نفسها، ومن ثم فهو يعترف بخصوصية المجتمعات المحلية العربية التي صاغتها أوضاع جغرافية معينة، وأنظمة سياسية متباينة، وتكوينات اجتماعية متمايزة، وأبنية طبقية ودرجات من الثراء والفقر جد مختلفة. أما الثاني: فهو الإدراك الذي يمكن تسميته ب"السيكولوجي" والذي يستند في مرتكزاته إلى الأديان سواء السماوية أو غيرها، والفلسفات والمذاهب والايديولوجيات الكبرى، ويرى الثقافة بالأساس بناءً عقلياً ومزاجاً نفسياً عاماً لجماعة إنسانية يسمها بالتجانس، وهو بالتأكيد تجانس الروح والشخصية وليس تجانس الخبرة بالضروروة، وذلك على منوال الأمة العربية مثلاً. ومن هنا فإن الاعتراف بتعدد جوانب الظاهرة الثقافية مع تكامل وائتلاف هذه الجوانب المتعددة في صوغ تلك الظاهرة الكبيرة والخطيرة في أن "الثقافة" يصبح تطبيقاً مثالياً لقاعدة الوحدة من خلال التنوع والتي يمكن تطبيقها على الوضع العربي ايضاً تفسيراً وأساساً لعلاقة القومية بالقطرية على أسلاس ثقافي نظري له مشروعيته الفكرية والتاريخية وليس على أساس الفصل بين الثقافي المثالي النظري وبين السياسي الواقعي العملي. وحسب هذا المنطق لا تصبح الدولة الوطنية خطيئة سياسية في حق الدولة القومية ومشروعيتها الثقافية ولكنها تصبح إفرازاً ثقافياً مجتمعياً محلياً داخل التشكيل الحضاري - الثقافي العربي العام، لديه القدرة والأساس للتكامل معه بقوة جذب الاطار العام والمرتكزات الكبرى لهذا التشكيل. ومن ثم فإن تفاعلاً ايجابياً من الممكن ان يقوم بين "خبرة" المجتمعات المحلية في العالم العربي، وبين "حكمة" التشكيل القومي الثقافي العربي العام يجاوز منطق هزيمة الثقافة - الأمة امام السياسة - الدولة في الوقت الراهن بينما يبقى خيار الدولة - الأمة في طور الإنضاج الذي يحميه جدل عوامل الوحدة مع عوامل التنوع من دون شعور بالإحباط ومن دون افتئات على التاريخ، او التطاول على العروبة في آن. * كاتب مصري.