مرت في 2 شباط فبراير 2000 الذكرى الخامسة عشرة لوفاة الكاتب العراقي جعفر الخليلي. وهو لغنى نشاطه الثقافي على مدى ستين عاماً أو يزيد، يصعب على التصنيف. فهو كاتب وصحافي ومؤرخ وقصاص وناظم للشعر أيضاً. ولد سنة 1322 هجرية 1904 ميلادية لأسرة معروفة أنجبت أعلاماً في الفقه والأدب والطب. فأبوه الشيخ أسد الخليلي كان من المعنيين بالطب القديم واشتغل بعلم المنطق ودرّسه. وأخوه عباس كان شاعراً معروفاً يجيد العربية والفارسية ومناضلاً مناهضاً للمحتلين الانكليز، شارك في ثورة النجف سنة 1918، ولاحقته سلطات الاحتلال فاضطر للهرب الى ايران فحكم عليه غيابياً بالاعدام. وظل يحن الى العراق وشعبه، وهجا الانكليز وحيا ابناء شعبه بقصائد نشرها في مجلة "العرفان" اللبنانية. شبّ جعفر الخليلي في هذا الوسط. وكان بيته يحوي مكتبة عامرة، فقرأ الكثير من كتب التراث والتاريخ والأدب. ومن الطريف أن أول كتاب قرأه كان "زهر الربيع" للسيد نعمة الله الجزائري فزجره أبوه. فكان هذا الزجر حافزاً للتعلق بقراءته. كما قرأ "أنوار الربيع" للسيد مير علي خان. ولم تقتصر قراءته على ذلك، إذ قرأ الى جانب القرآن الكريم كثيراً من الكتب التي توسع مداركه وتمكنه من ممارسة الكتابة الأدبية مثل "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" و"الأغاني" وأعجب ببشار بن برد والمعري وأبي نواس وغيرهم من كبار الشعراء العرب. ونظراً لاتقانه اللغة الفارسية قرأ دواوين حافظ وسعدي وعمر الخيام وأعجب بها وترجم بعضاً منها. كما قرأ ديكاميرون لبيو كاشيو الايطالي من طريق الفارسية أيضاً. ولاعجابه بقصص الأنبياء في القرآن الكريم اهتم بقراءة "الكتاب المقدس" للتعرف بشكل مفصل الى قصص الأنبياء. وكانت هذه القراءة الحافز الأهم الذي دفعه لولوج عالم القصة. كان الخليلي منذ صغره متعدد المواهب. فقد نظم الشعر وهو تلميذ في السنوات الأولى في المدرسة الابتدائية يوم لم يكن عمره يزيد على تسع سنوات. غير أنه لم يواصل الانتاج الشعري، بل شُغف بالقصص. وقبل أن يكمل الثامنة عشرة من عمره كتب قصة "التعساء" التي يشي عنوانها باهتمامات الخليلي ليس في عالم الأدب فحسب، بل في الجانب الاجتماعي والوطني أيضاً. فقد ذكر مترجمو حياته أنه كان يكتب منشورات بخط اليد ضد المحتلين الانكليز ويضعها في الصحن الحيدري وأماكن أخرى في مدينة النجف. اشتغل في التعليم منذ سنة 1924. فعمل معلماً في الحلة والنجف وسوق الشيوخ والرميثة والكوفة، الأمر الذي مكّنه من الاطلاع على مظاهر الحياة في انحاء عدة من العراق. ولم يستمر في التعليم إذ جذبته الصحافة. فقد كان من قراء مجلات "المقتطف" و"الهلال" و"العرفان" وغيرها من المجلات الشهيرة في العقود الأولى من القرن العشرين. وكان يطمح الى أن يحاكيها. لذا بادر وهو لا يزال في سلك التعليم الى اصدار جريدة "الفجر الصادق" في النجف سنة 1930. وكانت أسبوعية عاشت سنة واحدة فقط. وأغلقت بذريعة أن ليس من حق الموظف أن يصدر صحيفة، على رغم أنه كان أصدرها باجازة من السلطات المعنية. وفي سنة 1934 أصدر جريدة "الراعي". وعاشت سنة واحدة أيضاً وتعرضت للاغلاق بقرار من حكومة ياسين الهاشمي لأنها كانت صحيفة معارضة. وتعرض جعفر الخليلي للملاحقة بسبب مشاركته في نشاطات المعارضة. وبعد ذلك أصدر صحيفة "الهاتف" سنة 1935. وهي الصحيفة الأنضج، والأطول عمراً، والأكثر تأثيراً في الميدان الأدبي. فقد عاشت "الهاتف" عشرين سنة، اذ استمرت في الصدور في النجف حتى سنة 1948 وانتقل بها الخليلي الى بغداد، وتحولت منذ سنة 1952 الى صحيفة يومية سياسية. وأغلقت مع مئات الصحف والمجلات والجمعيات والنقابات والمنظمات سنة 1954 أيام وزارة نوري السعيد التي حلت مجلس النواب بعدما استطاعت الجبهة الوطنية الانتخابية التي ضمت احزاب المعارضة الوطنية يومذاك الفوز ب 11 مقعداً. وكانت حملة الحكومة ضد الحركة الوطنية والصحافة غير الخاضعة لتوجهات الفئة الحاكمة تمهيداً لعقد حلف بغداد سنة 1955. اهتم الخليلي في أثناء اصداره "الهاتف" برعاية المواهب العراقية الشابة وتعريفها للرأي العام العراقي والعربي، وبعقد أواصر التعارف والصلات الثقافية مع الأدباء العرب الذين كانوا ينشرون في "الهاتف". وشجع المرأة على الكتابة في صفحاتها. وكان من بين من كتبن في "الهاتف" دلال صفدي ونعمت القربي. ونظراً لاقتحامه ميدان الصحافة والنشر بمفرده ومن دون دعم مادي من أية جهة، ولعدم وجود عائد مناسب من بيع "الهاتف" اضطر الخليلي الى بيع مكتبته سنة 1937 ليواصل اصدارها. وكاد يتوقف هذا الاصدار في احدى المرات بسبب تضييق السلطات عليه ومنع تزويده الورق - إذ كانت تحتكره أيام الحرب العالمية الثانية - لولا العون الذي جاءه من المرجع الديني الكبير آية الله السيد أبو الحسن الاصفهاني، إذ زوده الورق من الحصة التي كان يأخذها لطبع الكتب الدينية. ان موسوعية جعفر الخليلي تظهر بوضوح اذا ما القينا نظرة سريعة على القائمة الطويلة من الكتب التي أصدرها. وهي تعد بالعشرات. إذ سنجد فيها القصص المنتزعة من واقع الحياة، كما في "أولاد الخليلي" مثلاً، والخواطر الأدبية كما في "اليوميات" و"حديث القوة"، والبحث في تاريخ "القصة العراقية قديماً وحديثاً" و"مقدمة للقصة العراقية"، والتاريخ كما في "على هامش الثورة العراقية" الذي حوى "مستدركات مما لم يتطرق اليه مؤرخو الثورة العراقية الكبرى". كما كتب عن "التمور العراقية قديماً وحديثاً" والكتاب دراسة قيّمة عن التمور وزراعتها وتجارتها وقيمتها الغذائية. واهتم الخليلي بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق ووقف وميراث في كتاب سماه "عندما كنت قاضياً". وأقدم على ما لم يقدم عليه أديب غيره للتعرف الى مشاكل المجتمع العراقي من خلال معاشرة السجناء. فكان أن طلب سجنه، ولبّي طلبه. فدخل السجن وكتب "كنت معهم في السجن" وهو كتاب عرض لأهم الأسباب والعلل التي تؤدي الى ارتكاب الجرائم وقدم صوراً لحياة السجن والسجناء في العراق. واستفاد الخليلي من معرفته الأدب الفارسي فقدم للمكتبة العربية "نفحات من خمائل الأدب الفارسي" وبحثاً مهماً مثل فيه العراق مع الدكتور مصطفى جواد قدمه كمحاضرة في جامعة طهران سماه "ما الذي أخذه الشعر الفارسي من العربية والشعر العربي من الفارسية". على أن أهم ما كتبه الخليلي - في نظره - هو موسوعة "العتبات المقدسة" التي صدرت في 13 جزءاً وكان يطمح لأن تصل الى ثلاثين. لكن كتابه الأشهر، والأكثر قراءة هو "هكذا عرفتهم" وهو كما عرّفه في العنوان "خواطر عن أناس أفذاذ عاشوا بعض الأحيان لغيرهم أكثر مما عاشوا لأنفسهم". وقد صدر في ستة أجزاء، وتحدث فيه الخليلي عن 63 شخصية تشمل علماء دين وشعراء وشخصيات اجتماعية وسياسية وثقافية وفنية، عراقيين ولبنانيين وسوريين، مسلمين من شتى الطوائف ومسيحيين وغيرهم. يكفي أن نذكر بعضهم للتعرف إلى سعة علاقات الخليلي. فمن النجف يكفي أن نذكر السيد آية الله السيد أبو الحسن الاصفهاني وسعد صالح وأحمد الصافي النجفي والشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. ومن العراقيين عموماً الدكتور مصطفى جواد ويوسف يعقوب مسكوني وجعفر حمندي وعبدالحسين الأزري وصبيحة الشيخ داود. ومن السوريين واللبنانيين السيد محسن الأمين العاملي والأخطل الصغير بشارة الخوري ونظير زيتون ومحمد علي الطاهر ونسيب مكارم. واتبع الخليلي في كتابه هذا نهجاً لم يسبقه اليه أحد في كتابة السير. فحديثه عن هؤلاء الذين عرفهم لا يقتصر على التعريف بهم، بل فيه استطرادات ومعلومات ومِلَح وطرائف عن الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية التي عاشوها تجعل الكتاب شيقاً غاية التشويق، ويأسر القارئ، ويمتعه برشاقة العبارة وغنى المعلومة والسرد الشيق. وفاجأ الاستقبال الحار لكتابه "هكذا عرفتهم" الخليلي نفسه. فقد كتب يقول انه كان يطمح لأن يكون هذا الاستقبال لكتابه "العتبات المقدسة". ولكن يبدو أن للقراء رأياً آخر. وللخليلي كتب أخرى غير مطبوعة منها كتاب "نصيب بغداد من قصة كليلة ودمنة" و"صفحات من الجيل الماضي" ومجموعة قصص بعنوان "ايام مضت" وكتاب "نظرات في الكتب". واهتم بالخليلي أديباً وقاصاً وباحثاً صحافياً عدد من الأدباء والنقاد العرب من بينهم هارون عبود ونظير زيتون ومصطفى عبداللطيف السحرتي وجورج صيدح ووديع فلسطين والياس فرحات وروكس بن زائد العزيزي. وقال عنه الأديب ميخائيل نعيمة "ان الاستاذ الخليلي حري بأن توضع عنه أوسع الدراسات كأديب وصحافي". وكان أحد الباحثين في جامعة ميتشيغان وضع رسالة دكتوراه عن الخليلي ودوره الرائد في الأدب الروائي العراقي قام بترجمتها الى العربية الدكتور صفاء خلوصي والاستاذ وديع فلسطين. ومما يحز في النفس ويؤلمها أشد الألم ما عاناه جعفر الخليلي وعائلة الخليلي كلها على يد النظام العراقي الحالي الذي اسقط عنهم الجنسية العراقية وشردهم ونهب ممتلكاتهم بحجة أنهم من "التبعية الايرانية" متناسياً أنهم عراقيون اباً عن جد وقدموا للعراق وطناً وشعباً خدمات جلّى. ولو لم يكن في العائلة غير جعفر الخليلي، علماً بأن فيها الكثير، لكفاها فخراً. وهكذا غادر جعفر الخليلي هذه الدنيا بعيداً عن الوطن الذي أحب والشعب الذي خدم طوال حياته المضنية. * كاتب عراقي مقيم في لندن.