لعبدالرحمن الكواكبي مكانة خاصة في عقول الناس وقلوبهم. في مختلف اهتماماتهم ومعارفهم، فهو لم يزل متداولاً على رغم مرور قرن تقريباً على وفاته. والتطرق سينمائياً الى هذا التنويري يحسب من الفرص الضائعة اذا لم يتناسب مع عمق هذا الرجل ورفعة فكره وحياته. خصوصاً في السينما السورية ذات الإنتاج النادر والمتراجع كماً. فكم من الخيبة سيحصد العمل اذا لم يكن في المستوى المأمول. في حديث السينما تبدو الضرورة والراهنية اساساً للعمل الفني، تبنى عليها مشروعية الالقاء والتلقي، خصوصاً في المشاريع التي تستحضر الأقوال والأفعال التنويرية التي مضى عليها زمن، والحاجة لا تزال ملحة اليها وإن كان ذلك من باب فعل الندامة او حتى من باب الإعجاب الشخصي بالمبدعين وإنتاجهم. فيبقى للفعل الفني واجب توليد الجديد من الاسئلة وإعادة فتح سيرة الصراع المتجدد بين النقائض. وفي استحضار سيرة عبدالرحمن الكواكبي في فيلم سمير ذكرى الأخير تراب الغرباء الذي انتجته المؤسسة العامة للسينما في دمشق، نرى استعارة للماضي في ثيابه الخارجية فقط وملامحه المتعارف عليها شعبياً وتعليمياً، لتبدو مداخلة المثقف في فعله الفني كأنها وسيلة إيضاح تعيد شرح ما القي على أسماعنا مرات كثيرة وطويلة ومملة. فالكواكبي ذاك الشخص الآدمي الذي اكتشف ظلم الاتراك من جهة، وتميز الهوية من جهة، ثانية، ناذراً حياته لتقويم الاعوجاج بالتعليم والتظلم والقدوة الحسنة، لا يخشى في قوله الحق لومة لائم. فلا هو طامع بمنصب ولا طامح بجاه... الخ، سيرةً باهرة لقديس على ابواب القرن العشرين، تقدم الينا بريئة ومعقّمة، مكرورة وتقليدية، صورة ساذجة عن مكان وزمان ورجل كانت تحتاج الى طاقةٍ لمّاحة، واكثر مرحاً كي تقررها سينمائياً. على رغم التقدم الملحوظ الذي حققه ذكرى في هذا الفيلم خصوصاً على صعيد الصورة، اعتباراً من آخر أعماله سحبان السرحان التلفزيوني، ما زالت نكهة الاعلام التلقيني واضحة في إدائه الكتابي والاخراجي. فالحاجة الى السرد المطول التي بدأ بها فيلمه مشهد الاحتفال بذكرى عيد الجلوس السلطاني العثماني والتي تشكل كتلة فلمية زمنية ضخمة، تخل بتوازن الفصول بالتقاطع مع الزمن السينمائي والدرامي، ما يقودنا الى ضجة تلفزيونية لا تمل الإطناب وتكرار استعراض المعطيات بغض النظر عن صحتها وثائقياً، لتتحول نقد مجريات، بمسارات منفصلة ومتوازية عوضاً عن كونها متداخلة ومتراكبة ومتفاعلة في ما بينها، ومع المثقف الثوري. وقد نجح ذكرى في إسباغ صفة العزلة المعنوية المعاصرة عليه المثقف ناقلاً عبره مشاعره المعاصرة حيال الاداء السياجتماعي العام، وربما الاداري، حيث تختلط المواقف والمشاعر حيال الوطن وقضاياه بالمشاعر والمواقف حيال السياسي الاداري وربما الخدمي. خلطاً لا تبدو فيه حدود الازمة واضحة، نازعاً الى كرازة تطويبية للفرد في رؤاه المهزومة سبقاً على طريقة الدونكيشوتيين الثوريين الذين يعج بهم أدب الستينات المنصرمة. من هنا تبدو الراهنية التي نشدها ذكرى تنتمي الى السطح الاعلاني للظواهر الاجتماعية مع لحظ بعدها السياسي مواربةً، فاستطاع اعادة صياغة الكواكبي بصرياً، ولكن في شكل وظيفي تعليمي من دون الولوج الى اعماق تفكيكية يمكنها التماس الراهن والمستقبلي بالانتباه الى ما يكتنزه عصرنا من أدوات وظروف جديدة. تحتاج الى مواجهات فكرية واجتماعية حادة، لا تكفي معها إعادة التذكير بما طفى من مواقف كواكبية تعزى الى الجانب الخيري من شخصية الكواكبي الحياتية والتي بادر بها كي يعطي المثل الصالح، من دون دخول مسارات إصطراعية تقود الافكار الى الفعل، الفيلم الى الدراما والشخصية الى الحضور. فينتظر المشاهد احتكاكاً تفاعلياً مع المادة المقدمة اليه، لكن المقدمات الفردانية المؤسسة للفيلم ذهبت به الى مفاعيلها المنفردة حيث لم ينجح ذكرى في إنتاج نسيج متشابك كوحدة فنية كاملة، فالتصوير والإضاءة مثلاً وعلى رغم جمالهما سارا باستقلالية عن الديكور والتمثيل بسام كوسا قدم أداءً مدروساً ولافتاً في حدود عمق السيناريو من دون تفاعلات تذكر، ليأتي المونتاج الذي كان في وادٍ آخر جاعلاً من الفيلم مجموعة من الفصول بلا تناسق في الايقاع او الحجم... إما على صعيد التلقي فلم يستطع الفيلم توليد حال جماعية من الاختلاف أو الاتفاق، ما يعطي مؤشرات واضحة عن حاله التأثيرية في جمهوره الاول... الجمهور المحلي الذي بدا حائراً في تصنيف الفيلم. في الدراما، يقف الفيلم بعيداً على مسافة كافية، فيطل على أسبابها ولا يلج اليها، ربما لكثرة المنطوقة الحكمي الذي يحتاج الى اثبات بالصورة للممارسات الاستعمارية السيئة التي كان الكواكبي يناهضها. فها هو في مشهد مثال يعيد علينا ما قرأناه في الكتب المدرسية عن وقوف الكواكبي ضد الظلم عبر مكتب المحاماة وانتصاره للمظلومين الأميين... اي هو ضد الامية ايضاً!! وهو في مشهد آخر يشهد ان علاقته بالمرأة علاقة عطف واحترام. وفي مشهد ثالث يقاوم الاحتلال الشعوذة بالتعليم، والى ما هناك من الافعال الخيرية، تتراكم بها المشاهد الاعلانية عن جودة الكواكبي في مقابل مشاهد سوء الادارة العثمانية التي قدمها في صورة كاريكاتورية، خصوصاً في مشهد "عيد الجلوس"، ومشاهد الشعوذة والسحر المكشوفة مسبقاً. والتي يقوم بها اتباع ابو الهدى الصيادي احد اعوان السلطة اللئيمين... هذه السلطة المهلهلة التي لا تحتاج الى تنويري من قياس الكواكبي لتقويضها نظرياً. فهي واضحة ومنهارة لذاتها، لذلكك بقي الصراع في البنية الفيلمية صراعاً مستلفاً على المتلقي إفتراضه، كي يستطيع تبرير هذا التشخيص للكتب المدرسية التي تختصر المراحل التاريخية بموقف وجداني لضرورات التعليم الاخلاقية لكن الوثائق، ومؤلفات الكواكبي منها، تشير الى واقع سياسي واجتماعي مختلف، خصوصاً في حلب وقتئذٍ. اصطرعت فيها التيارات الفكرية والاجتماعية كمدينة ذات مواصفات خاصة ومنفتحة على العالم خصوصاً قبل افتتاح قناة السويس. فالى النزعات الفكرية العثمانية التي تداخلت مع الاتاتوركية في ما بعد، وهي ما اضفت على السلطة السياسية العثمانية ابعاداً مخالفة تماماً لتلك الصورة التي قدمها الفيلم، كانت حلب تعج بالمفكرين التنويريين والتقليديين، وكان الصراع بينهم على أشده، ولعل ما يهمنا سينمائياً ذاك الحضور القوي للكواكبي بينهم، وهو ما يفسر وصوله الينا، اكثر من غيره، بسبب طزاجته الجدلية التي احتوتها مؤلفاته وسيرته، والتي اظهرت عمق الافكار التنويرية لديه وقدرتها على الجدل بالمواجهة مع الواقع، فضلاً عن قوة شخصية الكواكبي نفسها والكاريزما التي يتحلى بها كي يجمع حوله اقرانه متقدماً عليها بالجرأة والمواجهة خصوصاً في صراعه مع ابو الهدى الصيادي الذي يوازيه في قوة الشخصية والتماسك المعرفي التقليدي وربما كان يفوقه في قدرته على التعامل السياسي مع السلطة العثمانية. ومع إهمال ابراز قوة شخصية الكواكبي في الفيلم، عبر الميل الى تأكيد عقلانيته اللطيفة، يكون الفيلم خسر النقطة الثانية بعد الدراما، وهي تقديم شخصية الكواكبي شخصية "كاريزمية" ذات مشروع نهضوي تنويري. وهذا ما حاول الممثل بسام كوسا، عبر فهمه الشخصية واختياره وسائل التعبير الجسدية، لكنه بقي كعامل مفرد، من مقومات الفيلم المتوازية باستقلال، والتي حولت الفيلم خلطة عجيبة من النيات السينمائية الحسنة. ثلاث سنوات مضت على انجاز الفيلم، والى الآن لم يتوصل ذكرى الى صيغة نهائية له كي يقدمها الى الجمهور. ومع هذا يصول الفيلم ويجول في المهرجانات والمناسبات السينمائية والعروض الخاصة. من دون الاستقرار على نسخة نهائية، وكأن التدخلات المونتاجية المتلاحقة لا تؤثر ولن في الفيلم كبنية نهائية، على رغم عرضه المتلاحق امام لجان رسمية وحصده عدداً من التنويهات... لكن السؤال الملح الآن: هل استطاع فيلم ذكرى أن يرتقي الى مستوى فكر الكواكبي ويقدم الينا ما نتفاعل معه جمالياً وفنياً وفكرياً؟ أعتقد أن الكواكبي ونحن نستحق أحسن من هذا بكثير... وكم من الوقت سيمضي كي تتاح الفرصة مرة أخرى ينصف فيها سينمائياً هو... ونحن.