يتجه الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة الاميركية نحو مواجهة تجارية جديدة، قد تكون أشد من سابقاتها، وذات أبعاد مختلفة، ففي هذه المرة أيّدت منظمة التجارة العالمية الاتحاد الأوروبي في شكواه المقدمة ضد نظام ضرائب اميركي يقدم دعمه للصادرات، كما وصلت المفاوضات حول طلب الصين الانضمام لمنظمة التجارة العالمية الى طريق مسدود. والجديد في الخلاف هذه المرة - على عكس المرات السابقة - أن أوروبا هي التي بادرت لتقديم الشكوى الى المنظمة العالمية" باعتبار أن نظام ضرائب اميركي يديره "مجلس المبيعات الخارجية" FSC يقدم مميزات ضريبية يستفيد منها عدد من الشركات الاميركية مثل مايكروسوفت، وبويينغ، وفورد، وموتورولا وغيرها من الشركات التي تمثّل صادراتها نحو نصف الصادرات الاميركية. وبحسب المصادر الأوروبية فإن هذا النظام يقدم الحماية أو الدعم التجاري بما يقارب 4 بليون دولار سنوياً للشركات الاميركية. وتعتبر أوروبا أن هذا النظام يضرُّ بالفرص التنافسية لشركاتها، وهو السبب ذاته الذي دعا المفوضية التجارية الأوروبية للاستمرار في رفض الطلب الصيني المشفوع بدعم اميركي للانضمام الى منظمة التجارة العالمية، ما لم يتم ضمان تسهيل دخول الشركات الأوروبية الى السوق الصينية. المحطة الجديدة في الخلافات الاميركية - الأوروبية من المتوقع أن تمتد على مدى ا لأشهر المقبلة، كون قرار منظمة التجارة سالف الذكر أعطى مهلة للإدارة الأميركية لتعديل النظام المذكور حتى شهر تشرين أول أكتوبر المقبل، فيما ترفض الأوساط الحكومية الاميركية الإقرار بأن النظام يحتاج الى تعديل، مؤكدين انتقاداتهم للأنظمة التجارية الأوروبية. وهذا الخلاف يضاف الى الخلاف المسمى "حرب الموز" الذي وقع بين الجانبين العام الماضي، الذي لحقه الخلاف حول تجارة الأبقار الأميركية المعالجة بالهرمونات، عدا عن الخلاف الأوروبي - الأوروبي حول اللحوم البريطانية. وعملياً، فإن تكرار الخلافات إما أن يثبت خللاً في النظام التجاري الذي أقرّته المنظمة التي تأسست على أنقاض الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة الغات في العام 1994، وإما أن يكشف عدم التزام الدول، ولا سيما القوى الاقتصادية الكبرى مما يهدد بالتالي مصداقية منظمة التجارة العالمية وعملها، والنظام التجاري الدولي. ويُلاحظ أن الدول النامية والدول الأفقر - وهي المتضرر الأكبر من النظام التجاري الدولي - لم تبادر لانتهاز الفرصة هذه أو ما سبقها للدعوة الى اعادة النظر في النظام بشكل عام، ولمراعاة الجوانب الصحية والاجتماعية التي ينتجها تحرير التجارة على النحو الذي أقرّته المنظمة. يبدو، من خلال تحليل تفاصيل الخلاف الأوروبي الأميركي، جانب اجتماعي وصحي خطير في الموضوع، ففي حرب الموز مثلاً في العام الماضي اشتكت الولاياتالمتحدة أن نظام الكوتا الذي تطبقه أوروبا في استيرادها الفواكه عموماً والموز خصوصاً - يضرّ بالشركات الاميركية، وبالتدقيق في الشكوى الاميركية تتكشَّف لنا تفاصيل أقل ما يُقال عنها إنها "مخيفة"" فالشكوى الاميركية تتمحور حول قيام أوروبا بإعطاء معاملة تفضيلية لبعض الدول الكاريبية من المستعمرات الأوروبية السابقة، على حساب شركات اميركية تعمل في دول أميركا اللاتينية، من مثل شركة "شيكيتا" وحسب نظام التجارة العالمي حصل الجانب الأميركي على تأييد لشكواه تضمن السماح بفرض عقوبات جمركية بقيمة 161 مليون دولار ضد واردات أوروبية الى الولاياتالمتحدة. وهذا القرار لم يراع اعتبارات اجتماعية يتضمنها نظام الكوتا الأوروبي، التي أوضحها المسؤولون الأوروبيون ومسؤولو الدول الكاريبية المتضررة، التي يمكن الإشارة الى أمثلة منها: - فأحد مسؤولي الدول الكاريبية قال: "اذهبْ لِتَرَ مستوى الحياة للناس في مزارع شيكتا" حيث يعيش الناس في أكواخ بأسقف معدنية مثبتة بأحجار، وأرضٍ ترابية، وبراتب يومي قدره 20 سنتاً أميركياً!". - في الوقت الذي تشكل مجمل الواردات الأوروبية التي احتجت عليها الإدارة الأميركية في الدول الكاريبية ما لا يزيد عن 8 ثمانية في المئة من حجم الواردات الأوروبية من الموز، وفي حين تسيطر الشركات الأميركية في أميركا اللاتينية على 60 في المئة من سوق الفواكه الأوروبي - فإن هذه ال8 في المئة مهمة جداً لاقتصاديات الدول الكاريبية" إذ إنها تشكل في بعض الحالات ما يتجاوز نصف مجمل صادرات هذه الدول! والاحتجاج الذي أطلقه مسؤولون كاريبيون والذي لا بد من التوقف عنده - أن نظام التجارة الحالي لا يأخذ بالاعتبار قضايا مثل الظروف المعيشية للعمال المنتجين، ففي حين تساعد ظروف الحياة المتدنية - في حال اميركا اللاتينية - على خفض كلفة الانتاج، فإن ذلك غير ممكن في حال المزارعين الكاريبيين، والتوقف عن نظام الكوتا هذا من شأنه خفض مستوى الحياة لهؤلاء المزارعين من دون أن يستفيد نظراؤهم اللاتينيون بشيء. وقبل الخروج من موضوع "حرب الموز" فلا بد من ذكر أن المعلومات التي نُشرت في أثناء هذه الحرب قالت إن تحرُّك الإدارة الأميركية جاء بضغط من الكونغرس، والسبب أن شركة شيكيتا يقف على رأسها "كارل لندر" أحد أهم مموّلي حملات حزبَيْ الديموقراطيين والجمهوريين على حدٍ سواء. مما يضيف بُعداً سياسياً اقتصادياً جديداً للقضية. أما في حال حرب لحوم الأبقار فقد سمحت منظمة التجارة العالمية بموجبها للإدارة الأميركية في العام الماضي بفرض 116 مليون دولار رسوماً جمركية عقابية ضد الواردات الأوروبية، والقضية تتمحور حول أن الاتحاد الأوروبي فرض في عام 1989 - بعد ضغوط حادة من المستهلكين الأوروبيين - حظراً على واردات اللحوم الاميركية المنتجة باستعمال الهرمونات" لما في ذلك من عواقب صحية. وقد اتهمت الإدارة الأميركية في توجهها للمنظمة العالمية - الأوروبيين بمحاولة توفير حماية تجارية لمنتجات اللحوم الأوروبية عبر هذا الحظر، وفي الحقيقة فإن القرار اتُخِذَ من دون النظر لاعتراضات المستهلك الأوروبي ومخاوفه الصحية. بعيداً عن تطور الخلافات بين الجانبين الأوروبي والأميركي وعن تفاصيل هذه الخلافات. فلا بد من القول إن اعتراضات كثيرة جداً انطلقت في الكثير من الدول عندما أُقر النظام العالمي الجديد للتجارة، ومنها أن النظام لا يراعي ظروف الدول النامية، ومنها أن الولاياتالمتحدة الأميركية كانت قد راعت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الظروف الخاصة بالدول الأوروبية وباليابان، وسمحت لها بإجراءات اقتصادية معينة وأن من حق الدول النامية المستعمرات السابقة الحصول على المعاملة ذاتها الآن. ومن الاحتجاجات أيضاً أن النظام الجديد يسمح للدول الكبرى والتكتلات الدولية بتطبيق سياسات مزدوجة من شأنها أن تسمح بممارسة التجارة المدارة بينها فيما تمنعها مع باقي الدول. وعلى رغم أن الكثير من الصناعات والأسواق التجارية في عدد من الدول يتوقع أن يتم تدميرها في حال التطبيق الكامل لنظام التجارة الحرة المفترض خلال الأعوام الخمسة المقبلة، ومن ذلك على سبيل المثال صناعات في الدول العربية مثل صناعات النسيج في المغرب والأردن ودبي، وصناعات الأدوية في دول مثل الأردن وتونس وغيرها، وصناعات غذائية مختلفة أخرى - فإنه لم تبرز للآن أية محاولات جادة لتنسيق جهود هذه الدول الأكثر تضرُّراً، ولانتهاز الفرصة التي تطرحها مثل هذه الخلافات لإعادة فتح ملفات النظام التجاري الدولي، ويبدو أن الجهود منصبّة لتحقيق الشروط اللازمة للحصول على عضوية المنظمة. هذا على رغم أن دخول بعض الدول الأوروبية لم يتم إلا بعد مفاوضات طويلة من طرفها وشروط معينة، فمثلاً فرنسا - التي كانت تقدم دعماً مهماً لمزارعي القمح - لم توافق على الانضمام للمنظمة إلا بعد أن تم تقديم تعويض لها عن الخسائر التي يتسبّب بها رفع هذا الدعم. وبلجيكا أيضاً تحفظت على تغيير نظام الكوتا أو الحصص الخاص بتصدير النسيج واستيراده" لما يسببه من ضرر لها عندما يصل الأمر للتحرير الكامل، إلا أن التسويات التي جرت في كواليس الدول الصناعية ضمنت لبلجيكا تعويضاً قدمته دول المجموعة الأوروبية. ومن الواضح أن هناك سياسات عدة يمكن للدول غير الصناعية، ومنها الدول العربية، أن تتبعها للإستفادة من نظام تحرير التجارة، أو على الأقل لدرء أضراره ومن هذه السياسات: - الدخول في تكتّلات ومنظومات تجارية عربية" حيث لا يعود تنظيم التجارة بين هذه الدول نوعاً من الحماية والتجارة المدارة التي يحظرها نظام منظمة التجارة العالمية، وبمعنى آخر، تطبيق نظام شبيه بالسوق الأوروبية المشتركة وتجمُّع النافتا والإفتا، إذ إن التنافس والتعاون على صعيد الدول العربية والنامية مع بعضها بعضاً ممكن، على عكس تحرير التجارة مع الدول الصناعية" حيث لا يمكن منافسة شركات تلك الدول. - تنسيق الجهود مع الدول الأخرى المتضررة من نظام تحرير التجارة الكامل" من أجل الضغط لإجراء تعديلات تعطي ميزات للدول الأفقر" حتى تستطيع التكيّف مع النظام الجديد. - استغلال فرص الخلاف حول بعض تفاصيل النظام التجاري لتعزيز الدعوات لإجراء مراجعة شاملة للنظام. * جامعة أدنبرة.