1 اكتشفَ كريستوفر كلارك، الباحث في جامعة كورنيل بولاية نيويورك، أَنّ للحوت الأزرق حِسّاً إيقاعيّاً، وأنّ الموسيقى، بالنسبة إليه، عنصرٌ حيويّ. فهذا الحوتُ يُطلق ترنيمةً موسيقيّةً غنائية متتالية يمكن أن تتواصلَ عِدّة أيّام، في كلّ مئةٍ وثمانية وعشرين ثانية، تماماً، أو في كلّ مئتين وثمانية وخمسين دقيقة، عندما يَتّخذ وضع الرّاحة. ويقول الباحث إنّ النّغَمَ الثَابت لهذه الحيتان الزّرق يتأسّس على خمس علامات موسيقية نوطات، بوتيرة منخفضة لا تسمعها أذن الإنسان. هذه "الموهبة" الموسيقية عند هذه الحيتان التي هي أكبر أنواع الحيتان في العالم، اكتُشِفَت مصادفةً بفضل لاقطٍ مكبّرٍ للصوت داخل الماء، كانت تستخدمه البحريّة الأميركية ليترصّد الغوّاصات السّوفياتيّة. هذا "النشيد" المائيّ يُتيح لهذه الحيتان أن تتعرّفَ على مواضعها في المحيط، وأن تعرفَ ما يحيط بها على مسافةٍ قطرها عشرة كيلو مترات مجلة "علوم ومستقبل". 2 لا أعرف لماذا تذكّرني موسيقى الحوت الأزرق بالجدل الذي يدور حول ذلك الإسم التّاعس الحظّ في اللّغة العربيّة: "قصيدة النثر"، وهو جَدلٌ فاض عن حدوده، وأصبح عقيماً، خصوصاً بعد أن اكتسبَ التّعبير بالنّثر شعريّاً مَشْروعيّةً نهائيّة، في تقديري، على الأقلّ، وصار من الضروري الآن التركيزُ على "ماذا" يُقال في هذا النّثر - الشّعر، وعلى "الرّؤية" و"الأفُق" و"المعنى". وينبغي الاعترافُ بدئياً أنّ كثيراً مِمّا يكتب في هذا الإطار يفتقدُ الرؤيةَ والأفقَ والمعنى، وأنّه، إضافةً الى ذلك، يفتقر الى الحِسّ الموسيقيّ، وهو شَرْطٌ أوّل لِلسّباحة، شعريّاً، في ذلك المحيط الآخر، محيطِ الكلمات. والحقّ أنّ هذا الكثير الذي يكتب في هذا الإطار يبدو، بسبب افتقاره الى ذلك الحسّ، كأنّ الكلمات التي تُستخدم فيه ليست أكثر من حَصىً يتبعثر على بياض الورق. 3 أقول: "النّثر - الشعر"، موقّتاً، متجنّباً استخدام عبارة "قصيدة النثر"، موقّتاً كذلك، لأنّ هذه التّسمية كانت "حَلاً"، عندما أُطْلقت، وهي الآن بعد أن شاعت تكاد أن تصبح "مشكلة". ولنعد الى البداية. "قصيدة النثر" في الأساس، أي في أواخر الخمسينات وفي مجلّة "شعر"، تسميةٌ مرتبطةٌ، على نَحْوٍ مباشر، بشكل من الكتابة الشعريّة، فرنسيّ تحديداً. ولهذا الشّكل نموذجٌ أوّلي بدأه الشاعر لويس برتراند الذي كان يكتب بإسم ألوازيوس برتراند 1807 - 1841 وترك مجموعةً باسم "غاسبار اللّيل" Gaspard de la nuit وهو شكلٌ تبنّاه، فيما بعد، بودلير 1821 - 1867، مُحيّياً ريادةَ برتراند في هذا المجال. وتبعه آخرون كثيرون، بين أكثرهم أهميّة بيار ريفييردي ورنيه شار. لا علاقةَ، مثلاً، بهذا الشكل للوتريامون، بين القدماء، أو لسان - جون بيرس، أو لأندريه دو بوشيه بين المعاصرين. ولا يقترب منه هنري ميشو أو آرتو، إلاّ نادراً. فهؤلاء كتبوا نثراً - شعراً: شكلاً آخر، الى جانب "قصيدة النثر" والى جانب "قصيدة الوزن" - في "مفهوميهما" المتّفق عليهما في "النّقد" الفرنسي. والآن، إذا أخذنا النموذج الفرنسي الأصلي لقصيدة النّثر، وقارنَّا به ما ينتجه معظم كتّاب النثر، عندنا في اللّغة العربيّة، الآن، فإنّنا قَلّما نعثر على قصيدة نثر"، حَقّاً. فما عندنا هو كتاباتٌ يُستخدم فيها النَثر بطرقٍ خاصّة، تشكيلاً وبناءً، يُقْصَدُ به أن يكون شعراً وليس هذا حَطّاً من شأن هذه الكتابات، وإنّما هو وَصْفٌ لا بُد منه، إذا كنّا نريدُ أن نعرفَ ما نكتب. في هذا الإطار، قرأتُ باهتمام بالغ ما كتبه الشاعر حلمي سالم حول "غربية" قصيدة النثر و"جذورها" العربية، "القدس العربي"، في آب 1998. وأوافقه في ما ذهب اليه، من حيث المبدأ. لكن، من الناحية العمليّة، لا بُدَّ من أن نشير الى أنّ الأوائل الذين كتبوا هذه القصيدة، في إطار مجلّة "شعر"، سواءٌ أولئك الذين نهلوا من نماذجها في اللّغة الفرنسية أو في اللّغة الإنكليزية أو في مُعَرّباتِها مباشرةً، كانوا يجهلون "الجذور" العربيّة، ولا يزال بعضهم ينكرها ويُصِرّ على "جهلها" أو "تجاهلها" - وبخاصّةٍ بين الذين تابعوهم فيما بعد - وأنّ هؤلاء جميعاً كتبوا ويكتبون محاكاةً للنماذج الغربيّة، وأنّهم لا يصدرون عن أيّة "جُذورٍ عربيّة"، وأنا، شخصياً، وهذا ما قلته مراراً، لم أعرف هذه "الجذور العربية" إلاّ في ضوء "الجذور" الغربيّة. فهي التي أيقظت فيّ ذاكرتي النّائمة واسْتحضَرت "معرفتي" المغيَّبة، أو تاريخيَ المغيَّب. هكذا تتأرجَحُ هذه الكتاباتُ بالنّثر، والتي تُسمّى، دونَ دِقّةٍ، واستعجالاً، "قصائد نثر"، بين "غياب الذات"، و"حضور الآخر". وهو تأرجحٌ لا يزال يخلق مُشكلاً على المستوى التقنيّ، وعلى المستوى النّظريّ، معاً. من الناحية الأولى، لا تزال هذه الكتابات نوعاً من السَّير في الصّحراء أي أنّها لا تزال مشروعَ تشكيلٍ: لم "تتأسّس" فنّياً، كما يمكن القول إنّ الكتابة بالوزن "موسّسَةٌ" فنّياً. وهناك، من الناحية الثانية، "اسْتِعْبادٌ" للمخِيّلة الفنّية عند معظم أصحاب هذه الكتابات، تمارسه "قصيدة النثر" بمفهومها الغربيّ العام. وهو استعباد يُوهم بعضهم وهذا أسوأ أنواع الاستعباد بأنّهم، هم وحدهم، "الأسياد"، والأكثر أهميّةً وشعريّةً - لا في تاريخنا المعاصر وحده، وإنما كذلك في تاريخنا القديم. وعند هذا الحدّ، لا تعود المسألة مسألةَ شعر، أو كتابة، وإنما تصبحُ شيئاً آخر. ذلك أن الوعيَ الشعريّ، في أبسط مستوياته، يدرك أنّ مجرّدَ الكتابة بالنّثر - شعراً، أو مجرّد كتابة "قصيدة النثر" لا يتضمّن، بالضرورة، قيمةً شعريّة. فمؤسّس هذه القصيدة في اللّغة الفرنسيّة، قبل بودلير، على سبيل المثال، ليست له أيّة أهمية شعرية، خصوصاً بالقياس الى بودلير الذي كتب قصيدته النثريّة "محاكاةً" له. ولعلّ هؤلاء "المستعبَدين" يجدون في ذلك دليلاً مباشراً على أَنّ الشعر في شعريّتهِ لا في مجرّد كونه "قصيدةَ نَثْر"، أو قصيدة وزن. أحبّ أن أشيرَ هنا الى كتاباتٍ نثريّة - شِعريّة تأخذ أهميّتَها مِن "أصوات" كتّابها، ومن "حضورهم" الفنيّ المتميّز. أذكر منهم، تمثيلاً لا حصراً وفيما عدا الرّعيل الأوّل البارز الذي لا يحتاج الى التذكير به، مُسْتَثْنياً مع ذلك الشّاعرة سنيّة صالح، نظراً لغيابها الباكر، ولخصوصيّتها الفَريدة المسكوتِ عنها: سركون بولص، عباس بيضون، أمجد ناصر، سيف الرّحبي الأقرب الى "قصيدة النثر" عبدالمنعم رمضان، وليد خزندار، وساط مبارك، محمد بنطلحة. فأصوات هولاء تتبصَّرُ في رؤىً ونظراتٍ، وفي تجاربَ وأَنْساقٍ تُضْفي على كتاباتهم "طابعاً" وتفتح لها "أفقاً"، وتمنحها "إيقاعاً". وأظنّ أنّ في هذه الكتابات ما يُتيح للنِقّاد أن يؤسّسوا لدِراسةِ جماليّة النَّثْر - الشعر، في الكتابة الشعريّة العربية الحديثة، ولمعجمٍ من المصطلحات الخاصّة بهذه الجماليّة. أعتقد، إضافةً الى هذه الأسماء، أنّ بين الأجيال التّالية، الرّاهنة، أسماء أخرى شابّة تتمتَّع بمواهبَ وطاقاتٍ كتابيّة لافتة، وأنّ كلاً منها آخِذٌ في تكوين مساره الخاصّ. ويؤسفني أنّه يتعذّر عليَّ أن أشير إليهم في هذا الحيّز الضيّق، واحداً واحداً. غيرَ أَنّني أقرأ لهم، بإعجابٍ غالباً، وأتابعُ نتاجهم بحرصٍ وشغف. هكذا تُوصلني موسيقى الحوت الأزرق الى القول إنّ مفتاح الضّوء في هذه "العتَمة" الشعرية، ليس في مجرّد الشّكل، وإنّما هو، أوّلاً وأخيراً، في الشعريّة وفي الشّعر. فهل سيرتقي الشاعر العربيّ الى أن يرَى نفسه وشعره بهذا المنظار، وهو منظارٌ كونيّ، أم أنّه سيظلّ سجيناً لذلك الاعتداد الذي يُشبه اعتدادَ ديكٍ لا يرَى شريكاً له في مملكة دجاجاته؟ عندما يتمّ له هذا الارتقاءَ سيَرى أنّ الطّريق الى الكونيّة أو العالميّة ليست قَطْعاً في مجرّد الخروج على ماضيه، وعلى أوزان الخليل وعمود الشعر العربي، كما أنّها ليست قطعاً في مجرد ولائه لهذا كلّه وتمسّكه به، وإنّما هي فيما وراء هذا كلّه: في الخَلْق - خلق عالمٍ جديدٍ. وعلاقاتٍ جديدة بين الإنسان والعالم، بلغةٍ جديدة. وسوف يرى أنّ شعراً باللغة العربيّة لا تسطعُ فيه شمس الذّاتِ، شمس الشعرية العربية، لن يكون له أيّ مكانٍ تحت شمس الآخر، سواءٌ كان موزوناً أو منثوراً