} رحلتُ الى صنعاء بغرض تلبية دعوة للمشاركة في "مؤتمر العمارة الطينية على بوابة القرن الواحد والعشرين" ومنها سافرت الى حضرموت. هنا القسم الثالث والآخير. توقفنا عند الحمراء، وادي الحُجلة حيث صوّرت بعض المباني قبل الوصول الى دار الشيخ عمر قاسم العيسائي. وكان في استقبالنا هناك سعدية زوجة اخيه المرحوم عبدالله قاسم العيسائي الذي بنى المكان هذا "لحبّه للموقع". وسعدية ام عبدالله بن عبدالله سيدة طيبة الترحاب والمعشر نموذج الجيل التقليدي الاول لإمرأة يافع الطليقة والحرة بنشاطها واستقلالها. وقد اشرفت على بناء البيت وتسكن فيه وحدها على رغم اقامة جميع اولادها في السعودية. قالت لي انها متعلقة بهذه الدار و"جو يافع"، لذا فانها تذهب للسعودية بقصد الحج والعمرة فقط ولزيارة اولادها ثم لا تلبث ان تعود. وكان برفقتها اخوها محسن بن محسن مثنى الشرعبي والدكتور صالح احمد عفيف الشرعبي الساكنان في القرية المجاورة من الحمراء. وفي هذا الموقع الاستثنائي جغرافياً والمثير للذهول بصرياً وبيئياً، بما يحيط به من ارتفاعات الجبال المجاورة ومساقط الوديان العميقة، تمعنّت بالعمارة التقليدية التي قامت العام 1985 على يد بنائين من أهل بن صلاح. وشعرت بالامتنان والغبطة لغلبة الحكمة على الحداثة، وديمومة الاصل على الاسمنت. فتحية قلبية للشيخ عمر تتبعها رسالة صامتة مفتوحة للشيخ علي. وطافت بنا سعدية ارجاء الدار برفقة بخور العود. مبنى مخصص للاستقبال بالديوان الخرافي الجميل والمطل على وادي العياسة ووادي عمق الذي يحتضن بيت كل من عيدروس العيسائي وصالح احمد العيسائي وسالم حسين علي العيسائي. مجمّع من البيوت الحجرية التقليدية الحديثة بنيت في الخمس عشرة سنة الاخيرة. وعلى مقربة منها مسجدان احدهما تحت دار عمر مباشرة بناه عبدالله قاسم والثاني بمنارة حجرية رشيقة ومميزة اشبه بمنائر مدينة جِبْلة بناه حسن عمر العيسائي. ويشرف سطح المبنى على منطقة القمع حيث قرية الشيخ عمر القديمة بمبانيها الحجرية، والقود قرية علي عبدالله العيسائي بعدها الحمورة والصغيلة في بطن الجبل. وحينما أشرت الى اعلى الجبل عبر الوادي سائلة عن اسمه تجلّت الحقيقة. جبل الدَرَفان قيل لي: "مسكن الجن وممالك الجان". ولا احد يدخل مناطق الجن ولا احد يستطيع ان يبني فيها. ورُويت لي قصة كيف بنى احدهم بيتاً هناك "وناموا في الليل فعندما صحوا صباحاً وجدوا انفسهم في الفلاء". ثم زرنا البيت المخصص للسكن بادواره الاربعة وكل دور يحتوي مفرشين احدهما للجلوس كالديوان والثاني مفروش للنوم. وكل مفرش يحتوي حمامه الخاص ما يجعل عدد الحمامات في دور يافع يتراوح من 6 الى 8 حمامات، وهذه مواصفات الترف في مقياس البناء العالمي. وقيل لي ان الشيخ عمر لم يزر بيته هذا ابداً. وحين أذّن المؤذن لصلاة الجمعة، استأذنا بدورنا حيدرة وانا وغادرنا طلوعاً نحو جبل أحرم عند موقع دار بناء الشيخ علي العيسائي. وكنت قد لمحت في اليوم السابق برجاً اسمنتياً يتم بناؤه عند اعلى قمة في ذلك الجبل وسألت عنها. وانا فكرت كيف كان لشيخ من قدوة البلاد ان يرفع الباردين قطع الاسمنت المجوّفة اعلى جبال يافع وعلى مرأى من الاهالي وكأنه عبرة ليقتدوا به؟ واردت ان اغض النظر واتجاهل ما يؤذيني فلم استطع حين جاءت دعوة الشيخ عمر لزيارة العياسة. وإن لم تعرف طبيعة العمارة اليافعية وتصميم دورها فإنك تظن هذه الدار كأي عمارة اسمنتية من 7 طبقات. ولا داعي للتطرق الى وصف مقارن بين تأثير شكل وتركيب قطع الاسمنت الفظة وواجهات الحجر الممشوقة والمنحوتة. لذا وصلنا الى الموقع المضاهي في الخرافة عن سابقه وهو يسيطر على مدى أفق قرى الجبال والوديان المعمورة شرقاً وقرية الغولين وسهيلة جنوباً والمشرف جنوب شرق الى العياسة. ومن لطائف الخالق ان نجد عند مدخل الموقع على صخرة ناتئة مسجداً صغيراً 4 في 5 م تقريباً مبنياً من الحجر تصل اليه ببضع درجات منحوتة في الصخر وتسبقه شرفة جنوبية عند المدخل. ومسجد النور هذا يقال ان تاريخه، حسب تقدير الاهالي، يرجع الى مئات السنين. ومن الداخل سقف المسجد ممدود بحجر الصلا فوق ثلاث حاملات beams من احجار السحابيل طول كل منها 4 امتار. وقد تم ترميم شرخ طرأ في جدار المسجد من جراء تفجير صخور الجبل لتعديل الارض باستخدام مسحوق الاسمنت بدل الخُلب الطين المستخدم بين طبقات الحجر. وسقاية المسجد بركة واسعة ما زالت قائمة وجدرانها منورة بجانب قبر الشيخ صالح النور. وشمال دار الشيخ علي بيت من الحجر على دورين بناه الشيخ عمر لسائقه وقد علت القمريات واجهته. وكان البناؤون قائمين على بناء سور حجري محيط برياض تحت واجهة الدار الشرقية عند منحدر الجبل. ونظرت الى اساسات القاعدة والروابط الخرسانية المسلحة بالحديد لبيت آخر يتم بناؤه بجوار الشيخ علي، بيت حسين عبدالله العيسائي. وقيل لي انه بنى دورين من حجر والباقي باردين ملبس بالحجر. وهذا التلبيس بالحجر، ولو انه يهذب المنظر الخارجي إسوة بعمارة البلاد، الا انه لا يعيد المعنى ولا الروح الداخلية المنبثقة عن الفضاءات المبنية من مدماك الظهارة والبطانة وتصميمها الداخلي المحكوم بتقنية البناء التقليدية وتفاصيلها البديعة من العقود والعناصر المتناسبة في تأليف المكان وتواصل اجزائه. وهذا التغيير في الاحكام والموازين هو ما قد يحكم عليه البناؤون بكلام محمد محسن بأنه: "من حيث الوثيق اختزق". وانا تأسفت لأنني لم اكن قد التقيت بالشيخ علي قبل ان يتم تصميم داره. غادرنا قاصدين السحّلة دار عوض بن عوض الصلاحي لدعوة غداء عند أهل بن صلاح، وكان عوض هذا وبن مسعد وصالح رفاقي خلال زيارتي لدراسة عمارة يافع، وهم الذين ساعدوني في مسح نماذج العمارة على اختلاف اشكالها في شتى قرى يافع العليا. وبعد الغداء كان عوض قد دعا اكثر من خمسين رجلاً من كبار وعقال القرية ومن البنائين والمهنيين واصحاب الخبرة والمعلمين الى مقيال في ديوان قرب السوق. ودخلت المقيال مع حيدرة ولو انني كنت عازمة على عدم التخزين وسط هذا الحشد الرسمي المعد والمجهز ببرادات الشاهي والمشروبات الباردة الموزعة والمداعة، وجلست في الوسط بين "البنائين والمهنيين"، فيما كان الجالسون يهّمون بالتخزين بصمت. ثم قام احدهم بالترحيب الرسمي بي والاشادة بما كتبت ونشرت عن العمارة اليمنية وأهمية ذلك... ولكن الواضح ان الاهم بالنسبة الى عوض كان ملاقاة الناس وإلقاء المحاضرات بين البنائين والاهالي لتوعيتهم. في العام 1995 كنت بدأت في لندن بكتابة رسالة الى بنائي يافع وجهتها الى عوض وبن مسعد، لكني لم اكملها او ارسلها. وصباح ذلك اليوم الاول وحين كنت في ضيئان بيّضت الرسالة. وفي المقيال ناولتها لعوض فهمّ محمد العمري الى قراءتها على الحضور. ونهاية الرسالة تقول:"اني اخشى على تفرق عمارتكم هذه". ودار النقاش حول الاسباب التي أدت الى تلاشي نوع الفن المعماري اليافعي في العقد الاخير والتي ترجع بشكل اساسي الى طالب العمارة او صاحب المبنى. وإتضح ان اصحاب الاعمال والتجارة يفرضون على البنائين نمطاً معيناً او مختلفاً على الباني او المعلِّم. والرغبة عند صاحب العمل client تؤدي الى التغيير. ومعلمو البناء في يافع يدركون ان هنالك نوعين من التحديث: التحسين والتشويه. وناقشنا موضوع النمط التقليدي وفنه المعماري وتناسبه مع النمو السكاني وطفرة البناء القائمة، وكيف كان بمقدور معالمة بناء اهل بن صلاح ان يبتدعوا الحلول الخلاقة من عمارتهم بدل ان يستسلموا لسهولة مد جسور الخرسانة لبناء الفضاءات الواسعة، خصوصاً المطلوبة مثلاً في تصميم ديوان او مبرز واسع يضم 50 شخصاً. وحين أجبت بالقول انه كان بامكانهم ايجاد الحل من دون الإخلال بمواد البناء والتقنية التقليدية ران الصمت الدال على الموافقة. وتكلمنا عن تغيير التصميم واستخدام البلوك والاعمدة في بناء القاطعي الجدران الثانوية القاطعة داخل المبنى والغاء الفحل قطب الدرج المركزي واستبداله بالسلالم العادية المصبوبة على مثال خشبي، ومن جراء ذلك أزيلت العقود الحاملة للنظام الاول. ويوجد حوالي 800 بناء من أهل بن صلاح منتشرين وموزعين في ارجاء البلاد وخارجها. وبعض أجمل بيوت اهل بن صلاح التي تقف موازية لبعضها بعزة واتقان حديثة تم بناؤها من 30 عاماً. ثم غادرنا المقيال الى ضيئان لاودّع حليمة، ومررنا على قرى شرف وذي ناخب والشمس تعبر حالمةً الى الغروب والقمر بقرصه الابيض المكتمل ينتظر بشفافية لان يهبط بظله المنير حال رحيلها في الازل. وانتظرنا رجوع حليمة من زفاف في القرية المجاورة، وحين وصلت بثوبها الاصفر الزاهي كان وجهها متألقاً بالهرود المسحوق الاصفر الذي تستخدمه النساء لزينة الوجه وبعينيها الكحيلتين. وقبل ان اودعها بالمغادرة جاءتني بحبوب القهوة اليافعية الخضراء الطازجة والبخور، وألبستني ثوباً يافعياً بمشد حرير بنفسجي ومقرمة زهرية داكنة. كما اهدتني فضة من جدتها بما فيها قلادة بماريا تيريزا. ثم تابعنا الرحيل نحو القعيطي بعد المغرب، وحلول البدر الذي أغدق الليل بثقل سحره عبر الشعاب ووصلنا في غمرة الليل. وحين تقدمتُ الى باحة مدخل مبرز آل عبيد ناصر وجدت ما لا يقل عن ستين خفاً خارج الباب فأشرت الى حسن بالوصول وتوجهت الى الدار. هنالك في مفرش الدور الثالث الواسع حيث لجأت الى الراحة استقبلتني جعفرة زوجة عبيد ناصر. فرويت عليها اخبار العياسة واهل بن صلاح وضيئان وجلست تحادثني وأنا ارتب اغراضي واحل تعبي. وجعفرة مليئة بالحيوية الهادئة على رغم السنين التي خطت بشرتها، فعيناها تبرقان بروح صافية وجسدها يتحلى برشاقة ونشاط إمرأة تحسبها في الثلاثينات من العمر. ثم حين استأذنتها للانضمام الى مقيال الرجال ابت الاّ ان ترافقني، فأخذت بيدي لتساعدني في النزول بحذر على الدرجات العميقة بين الدار والديوان ومشت معي عبر الظلمة لتوصلني حتى بوابة الديوان. وهناك افترقنا وتواعدنا للقاء صباحاً. ولاحظت ان عدد الاحذية تقلص الى النصف بعد مغادرة العديد من جمع المقيال، فتنفست الصعداء. دخلت فوجدت مَدْيَن متواجداً هناك منذ الواحدة ظهراً، وقاسم بن قاسم وشلته والعم عبد القوي قربي وقد اعد مداعة صغيرة خاصة بالمعسل الرفيع والمداعة المركزية في الوسط يتشاركها المقربون من صدر المبرز فتقاسمناها. وحين جلست اخبرني حسن انه بعد لقائي بالبنائين من اهل بن صلاح تم قرار تأسيس "جمعية الحفاظ على النمط المعماري اليافعي" وقام احد اصدقائنا المتابعين امر زيارتي بشغف في السعودية برصد مبلغ 100 الف ريال للجمعية كتشجيع. وحين انقطعت كهرباء الدولة تم ايقاد الشموع وبدأ مدين بالغناء، وكانت ليلة تنبض لا محالة بمواضيع عن فراق يافع. وظل نغم العود وصوت مَدْيَن يخترقان آخر رمق الليل. واصبحنا في اليوم الأخير لنشد الرحيل الى عدن وجلسنا مع جعفرة وعبيد ناصر في الشرفة لتناول الفطور مع القهوة اليافعية وتلك الطبيعة ممتدة امامنا ضمن الهواء الناظر. وعرّجنا على موقع الطريق الذي يشق بجهود وتبرعات الاهالي الذاتية في البعالي من منطقة القعيطي الى منطقة آل بن صلاح، والمباني القديمة هناك والمهجورة منها بتركيبها الحجري: كل جدار اشبه بصرح منحوت بالوان الحجر المتراوحة من الزهري الى البني والاخضر بفتحات الكوّات المثلثة. وقبل الوصول الى عدن زرنا مزرعة خاصة في أبين حيث شاهدت حصاناً عربياً يجول في ربوع المزرعة ومداها، متمرّداً وطليقاً بشعره الاصهب وملمسه الحليق والاصيل. دنوت منه بشغف لاعانقه لكنه كان غير مبالٍ ومتكابراً على رغم وحدته. وتخيّلت كيف اني اروضه وامتطيه فيطاوعني، ثم ينطلق من دون انذار او وجهة عبر خلوة الرمال بين أبين وشبوة. ... وهكذا انتهت الرحلة الى يافع. وحين قصصت على صديق انكليزي احوال رجال البلاد ومجرى تعاملهم الهادئ وفحوى كرم استقبالهم قال لي: "لقد رحلتِ وتعايشتِ مع أهل الحضارة واهلاً بعودتك الى الغرب البربري". وانا لم اعلم ان دواء مرارتي كان كامناً في ذلك اليمن حيث "ارق الناس افئدة والين قلوباً". * مهندسة معمارية مقيمة في بريطانيا متخصصة بالعمارة العربية والاسلامية ومحاضرة في كلية الفنون الملكية والجمعية المعمارية وجامعة لندن. من اهم منشوراتها: "واقع من اليمن" 1991، "وادي حضرموت: هندسة العمارة الطينية" 1992، "الزليج فن الخزف المغربي" 1993، "عمارة سلطنة عمان" 1998 وقد قدّم له ولي عهد بريطانيا الامير تشارلز. وكتابها القادم عن عمارة الامارات العربية المتحدة سيصدر في نهاية العام 2000 في بريطانيا.