192 نقطة انخفاض للأسهم.. التداولات عند 6.4 مليار ريال    أسعار الذهب تقفز فوق 2,919 دولاراً    «العقار»: 20,342 إعلاناً مخالفاً بالأماكن العامة    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل القاهرة للمشاركة في القمة العربية غير العادية    حرس الحدود يحبط محاولات تهريب (116,682) قرصًا من مادة الإمفيتامين المخدر و(537,087) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي و(717) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    فيصل بن فهد بن مقرن يطلع على برامج جمعية الملك عبدالعزيز الخيرية بحائل    أمير المدينة يكرم الفائزين بجوائز مسابقة "منافس"    "الجميح للطاقة والمياه" توقع اتفاقية نقل مياه مشروع خطوط أنابيب نقل المياه المستقل الجبيل - بريدة    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد الدويد بالحدود الشمالية ويحفظ مكانته    هطول أمطار في 6 مناطق.. والمدينة المنورة تسجّل أعلى كمية ب13.2 ملم    القمة العربية الطارئة تعتمد خطة مستقبل غزة    أوكرانيا: مستعدون لتوقيع اتفاق المعادن    أمير المنطقة الشرقية يستقبل المهنئين بشهر رمضان    أمانة المدينة تعزز خدماتها الرمضانية لخدمة الأهالي والزوار    الاحتلال الإسرائيلي يعتقل 20 فلسطينيًا من الضفة الغربية    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تعزز أعمالها البيئية بانضمام 66 مفتشًا ومفتشة    1.637 تريليون ريال إيرادات ⁧‫أرامكو بنهاية 2024 بتراجع طفيف مقارنةً ب2023    بالأرقام.. غياب رونالدو أزمة مستمرة في النصر    من الرياض.. جوزيف عون يعلن التزامه باتفاق الطائف وسيادة الدولة    أكبر عذاب تعيشه الأجيال ان يحكمهم الموتى    الإيمان الرحماني مقابل الفقهي    في بيان مشترك..السعودية ولبنان تؤكدان أهمية تعزيز العمل العربي وتنسيق المواقف تجاه القضايا المهمة    موعد مباراة الأهلي والريان في دوري أبطال آسيا للنخبة    أبٌ يتنازل عن قاتل ابنه بعد دفنه    قدموا للسلام على سموه وتهنئته بحلول شهر رمضان.. ولي العهد يستقبل المفتي والأمراء والعلماء والوزراء والمواطنين    تعليق الدراسة وتحويلها عن بعد في عددٍ من مناطق المملكة    في ذهاب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا.. أتلتيكو مدريد لإنهاء عقدة الجار.. وأرسنال لتعويض خيبته المحلية    عقوبات ضد الشاحنات الأجنبية المستخدمة في نقل البضائع داخلياً    مهرجان "سماء العلا" يستلهم روح المسافرين في الصحاري    منعطف إجباري    وزير الدفاع يبحث مع نائب رئيس الوزراء السلوفاكي علاقات البلدين في المجال الدفاعي    غزارة الدورة الشهرية.. العلاج (2)    ليالي الحاده الرمضانية 2 تنطلق بالشراكة مع القطاع الخاص    الأمير سعود بن نهار يستقبل المهنئين بشهر رمضان    نائب أمير منطقة مكة يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    تعليم الطائف ينشر ثقافة الظواهر الجوية في المجتمع المدرسي والتعليمي    قطاع ومستشفى تنومة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للزواج الصحي"    والدة الزميل محمد مانع في ذمة الله    أمير القصيم يرفع الشكر للقيادة على إعتماد تنفيذ مشروع خط أنابيب نقل المياه المستقل (الجبيل – بريدة)    جمعية «أدبي الطائف» تعقد أول اجتماع لمجلسها الجديد    ياسر جلال ل «عكاظ»: أنا معجب بمقالب شقيقي «رامز»    محمد بن علي زرقان الغامدي.. وجه حي في ذاكرة «عكاظ»    حرس الحدود ينقذ (12) شخصًا بعد جنوح واسطتهم البحرية على منطقة صخرية    محافظ الخرج يشارك رجال الأمن وجبة الإفطار في الميدان    استخبارات الحوثي قمع وابتزاز وتصفية قيادات    «الغذاء والدواء»: 1,450,000 ريال غرامة على مصنع مستحضرات صيدلانية وإحالته للنيابة    خديجة    وزارة الشؤون الإسلامية تنظم مآدب إفطار رمضانية في نيبال ل 12500 صائم    "حديث السّحر" ماشفت ، ماسويت ، ماقلت ، مدري    لهذا لن تكشف الحقائق الخفية    المشي في رمضان حرق للدهون وتصدٍ لأمراض القلب    تأثيرات إيجابية للصيام على الصحة النفسية    أطعمة تكافح الإصابة بمرض السكري    قال «معارض سعودي» قال !    6 مجالات للتبرع ضمن المحسن الصغير    النصر يتعادل سلبيا مع الاستقلال في غياب رونالدو    الدوري أهلاوي    التسامح...    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على هامش "مؤتمر العمارة الطينية على بوابة القرن الواحد والعشرين" في حضرموت . عمارة القلوب: المدن والامكنة والناس في عدن ويافع 2 من 3
نشر في الحياة يوم 19 - 04 - 2000

رحلتُ الى صنعاء بغرض تلبية دعوة للمشاركة في "مؤتمر العمارة الطينية على بوابة القرن الواحد والعشرين" ومنها سافرت الى حضرموت.
غادرت حضرموت. هكذا تركتها لزمن آخر، وانا ما زلت احلم بمدن رشيد وديار بُقشان وصيف بعد غياب طويل ولوعة حنين لم ادركهما الاّ حينذاك. وما تمكنت من ادراك الوصل بيني وبينها، فاتيت الى عدن لألاقي المدينة وبحرها هذا كمن جاء ليلاقي حبيبه سرّاً.
وصلت عدن، تلك الغريبة الأليفة الساكنة ووجدتها هي بانتظاري. وقد تعّدت زمن النسيان ورمت بثوب الندم والعبث. وقفتُ بأهلها وناسها وعمائرها وأزقتها والبحر ما زال يمتد ليحكمها ويملكها.
وامضيت الصباح في صيرة وسوق السمك بين الصيادين والبحر، ودخلت شوارع كريتر وعرّجت على قصر سلطان لحج المتردي ومسجد الخوجة او البهرا ووادي العيدروس. تفقدتها جميعاً فوجدت مسجد أبان قد اعيد بناؤه كلياً، فحسناً فعلت اني مسحته. ووصلنا الميدان، ميدان كريتر، ومنه الى المعلاّ حيث انتشر العمران الحديث. والعقبة عقبة عدن التي تمت توسعتها والارض على جهة منها اصبحت ملكاً خاصاً يخضع بدوره للاستثمار السياحي او الترفيهي. ودخلت فندق "الهلال" في التوّاهي الذي تم "تحسينه" وسألت عن الستائر الحمراء المخملية المتدلية حول جدران الغرفة التي مكثت فيها بديكور اشبه بالمسرح الفيكتوري، وقيل لي وانا احدّق بصورة الملكة اليزابيث الثانية فوق جدار الاستقبال عندما كانت يانعة وجميلة في ذكرى زيارتها العام 1954 ان الغرف ظلّت على حجمها اماالستائر فقد تبدلّت.
واسرني ان العمارة الكولونيالية بعقودها القوطية والرومانسية التي تغطي واجهة شارع الهلال ما زالت باقية ومجددة.
ثم طلبت ان ازور الساحل الذهبي، حيث يتم في موقع عند الجبال خلف "فندق الساحل الذهبي" تطوير مشروع سياحي لعله أجمل موقع في عدن، حيث تَخّر جدران الصخور الشاهقة الى أرض الرمل الملامس للمياه، يضم الخيالي واللامعقول. من كان بإمكانه ان يتصور يوماً ان يُشَقّ هذا الجبل ليحتوي طريقاً وقطع ارضٍ للبناء الا العيسائي والحُريبي. الا انك عندما تصل العياسة في يافع لتزور موطن شيوخ العيسائي تدرك كيف يسهل استثمار منحدر جبل كذاك الموجود على الساحل الذهبي.
هنا حلمت ان يكون لي بيت، وذلك الساحل حيث البحر ما زال يرصف الاميال من المدى الحر حتى باب المندب.
وحين دعاني صديقي ناصر عبيد الى العشاء في احدى قمم هذا الموقع عند شرفة تحت ضوء البدر اصبح الحلم شبه حقيقة. وشعرت بانه ربما تواطأ مع نفسي دون علمي، وشرعت بتصميم فضاءات تلك البقعة بجدران بيضاء حاوية للمكان المغشّى باسرار النفس والسماء. وتذكّرت قصة "عدن: مدينة من ذهب" التي وردت في كتاب جغرافيا الوهم، فسردتها على ناصر. ثم كتبتُ له عن "تلك التي رأينا طيفها في ظل ذلك البدر في الليلة الاخيرة من عدن"، وكيف وقف ذلك السكون ثابتاً في مخيلتي، عبر المكان، لأيام راجيةً ان نتمكن يوماً من الابداع في تكوين مساحاته.
عدن والبحر. ذهبت عصراً لاخترق سطحه الصافي كما فعلت وحيدة مراراً من قبل، فلقيته مرة اخرى كما وصفته: "مخملياً وكأنه لي"... الا انه ليس لي، بل أنا كنت له. وهو احتواني ذلك الوقت كما احتواني بحر مسقط، ام هو امتداد لذلك البحر العربي نفسه؟ تساءلت، ومكثت متأملة المدى ووصول قوارب الصيادين وغروب الشمس في بحر اللطيف.
وانا في عدن انتابني شعور خفي بالنشوة، ام هو السكون في استخطاف الماضي من خلال اثبات المكان حيث امضيت اكثر الثمانينات وتعلّقت بالمدن والامكنة والناس وبتلك الروح المستترة في الاحوال، والظروف المجهولة والقائمة في خضم هندسة العمارة وطبيعة البلاد.
وعبر الطرق التي جلتها في حياتي ادركت ان هذا كان من بين الاعمق تفاعلاً مع نفسي. آه من تلك المسافة، وما حملت في طيّاتها من استقصاءٍ للبعد والغربة الداخلية.
وليلاً تناولنا العشاء لدى مطعم شينغ سنغ وأخبرت نرجس الصينية اليمنية التي تدير المطعم مع اخيها انه ما زال من افضل المطاعم الصينية في العالم. توفي والدهم الذي أسس المطعم، وانا أذكر حين كانت صالة الطعام في السرداب والآن اصبح المطعم في الدور الاول حيث ألذ اطباق السمك ومشتقات طعام البحر والحساء.
يافع
ثم كان السفر الى يافع. غادرنا ظهراً وعرّجنا على سوق القات في مدينة المنصورة ومنه مباشرة الى مطعم المسافر في العسكرية حيث تناولنا اشهى المرق والحلبة والبسباس مع خبز التنور الموفى واطرى اللحم. ثم هّم حسن رفيق الطريق بغسل أغصان القات واوراقه ولفّه مبلولاً بالفوط... وشدينا الرحال. والطريق سلسة ومعبدة الى ان وصلنا يهر. ومنها فان الطريق عبر المحجبة ونقيل الخلا ترابية الا انها معدلة وواسعة نسبة للسّكة الحجرية الصعبة التي سلكناها ببطء وحذر منذ عشر سنين.
وصلنا قرية آل عمْر في لبعوس عند الرابعة وكان مقيال محمد العمري المحطة حتى السابعة ليلاً. وانا جالسة هناك وهماً، أخزّن، جاءت الاسئلة تطرق رأسي. بعيدة شاردة كنت، سائحة في مخيلتي عبر المدن والعمائر المنتشرة بين قمم الجبال.
والمقيال يعج بالرجال الجالسين والوافدين على اختلاف الشخصيات من آل لبعوس. والتفتُ الى حسن فأومأ اليّ بالرد والكلام. من أنا؟ ومن اين جئت؟ وما كتبت وما فعلت؟ وما طبيعة مهمتي؟ وكيف بامكانهم التسهيل والتعاون والترحيب؟ ووددت لو اتفوّه بالحقيقة البسيطة من دون الحاجة الى الكلام:
لقد جئت اصلاً هرباً من الحياة الجدية والمادية المغلفة بالعالمية المبرمجة. جئت لأتحد مع هذه الارض وبصمت. جئت من غير مُهِمّة لأتفقد اصدقائي معلمي البناء والبلاد وارصد ما تغيّر في عمارتها واتجول في رحاب دورها واستمد من فضائها وحياتها ما أعطوني أياه. جئتُ لاستبدل ثوب تعبي البالي هذا برداء شفاف منسوج بألوان البنفسج من روح شوق أهل يافع وسفوح ثمر.
وطبعاً لم ابح بأي من هذا بل أجبت بالجدية المطلوبة وسط هذا التكريم. و أصر علي صالح العمري على ضيافتي لديهم الا انني اعتذرت وشكرتهم على كرم ضيافتهم. وبعد ان وصلت الى لندن بلغني ان هذا الشخص الطيّب والمتمثل بالوّد والسماحة انتقل فجأة الى جوار ربه، وشعرت بالاسف لأنني لم استطع ان ارد جميله.
ثم رحلنا عبر ظلمة الليل المرصع بالنجوم المتألقة من لبعوس الى ضيئان، وبحثنا عن حليمة لتفتح لي دار علي صالح الحديثة بواجهاتها الصنعانية الاقتباس في القمريات... وتستقبلني.
وحين دخلت الديوان المعطّر بدخان العود ألفته وقررت النوم هناك على رغم احتجاج حليمة وزوجها حسين احمد الحيدري. وهذا الاخير يحمل ملامح وشخصية المحارب اليافعي القديم بطبيعة القبائل الكريمة وشهامتها.
كنت متعبة واردت اللجوء الى دفاتري أجمع فيها أفكاري عند ركن المقيال. الا انني انجذبت الى سكون الليل حين نظرت عبر تقاسيم الخلّة الى خلوة الخارج الممتدة بتركيز تحت غطاء السماء. وحليمة اخبرتني انها تعمل هناك في الارض. وسألت حسن بعد ان اودعني في الدار ان كانت "يافع أمان"، وحين اجابني بالتطمين، أكدت له - على رغم قلقهم علي - رغبتي في المبيت في البيت وحدي.
وفي صباح اليوم التالي عرجنا لزيارة دار سالم صالح الحديثة في ضيئان والتي بنيت بطبقاتها الست وفق أصول وتصاميم العمارة اليافعية الاصيلة. وقفت شامخة ومعتزة بحجارتها الرمادية الجذابة مع تغيير طفيف في تحويل الدور الاخير الى مفرش مكشوف المدى على غرار الطراز الصنعاني. وسالم صالح، على رغم غيابه عن البلاد، اكد على الالتزام ببناء داره وفق تعاليم اساتذة بناء آل صلاح التقليديين مما يدعو للامتنان.
ثم رحلنا نحو ذي الصرا، ووسط سوق 14 اكتوبر او سوق الاحد دبت زحام الفوضى الناجمة عن ضيق الطريق لشروع شركة CCC في تنفيذ عقد امداد وتصريف المياه وفتح باطن الارض على الطريق العام. وهناك شهدت سوق عكاظ التقليدي.
وفي الساعة ونصف الساعة التي استغرقها سيرنا البطيء والتدريجي، كان حسن يستغل الوقت بالسلام على الاهالي وترتيب شؤون مقيال العصر.
يلقى احدهم ويبادره بالسلام ويوصي بأفضل القات لخمسة اشخاص، يرسل مرسالاً لدعوة الفنان الموسيقي مَدْين الى المقيل، يلتقي الشاعر الوردي ويواعده في الثالثة بعد الظهر للتخزين في القعيطي. ثم يتوقف عند المشرف على عمل شركة CCC ويلومه للاخلال بأوقات عملهم وعدم ردمهم اجزاء الطريق التي تم فيها تمديد الانابيب. وفي لحظة معينة ونحن نهّم بالحركة بعد انتظار، رأيت حسن يسلم بحفاوة على رجل اتسمت ملامحه بالوقار والجاذبية والرّقة غير العادية. واردت ان اسّجل وجه هذا الرجل المسن لما انعكس في صفائه. حينها ترجل حسن من السيارة ليسلم على الشيخ، وقال لي: هذا شيخنا. وتبين اننا كنا قاصدين دارهم اصلاً بتوصية من فضل النقيب الذي دعاني الى زيارة قريتهم القُدْمة.
وحين وصلنا دار الشيخ عبد الرب احمد أبو بكر النقيب في القدمة وجدَتُ لائحة فوق الباب كُتِبَ عليها "لطفاً تنتهي الزيارة الساعة السابعة مساءً".
دخلنا الدار عبر بوابة متواضعة صغيرة تؤدي الى فناء مسوّر، وامتدت جسور الخرسانة المسلحة من الدار الحجرية القديمة لتتصل بالاسمنتي الحديث. وفي مجلس ديوان الشيخ عبد الرب الواسع المضياف زَينت القمريات النوافذ وعلت النقوش الجصية والخطوط المنقوشة زوايا التقاء الجدران والسقوف. وحدثني الشيخ عبد الرب بابتسامته الحانية قال: "يافع كيان كامل والموّسطة هي القلب قلب يافع لأنها الوسط: مُوَسّطة. وقلب الموُسَطَة هو القعيطي... وهذه أمانة في قلبي".
وقرية القُدمة تقع في الموسطة مقاطعة عدد سكانها اكثر من 100 الف نسمة. والمقاطعة تسمى مكتباً. ويافع العليا مقسمة الى 5 مكاتب. وتقسيمها هذا عسكري منذ ما قبل الاسلام حيث كان التقسيم يضمن توازن القوى القبلية في المنطقة. واغلب سلاطين الجنوب التقليديين جاءوا من يافع سلطان لحج العبدلي وسلطان حضرموت القعيطي وسلطان المهرة بن عفروا.
ثُم علّق حسن على كلام الشيخ منبهاً إياي الى مقولة شعبية: "غني ليافع والحذر تسمين حد". واخبرني ان اختيار الشيوخ يتم بحسب توافر مواصفات الادب والعلم واللطف، فهم لا يحملون السلاح لأن اهل يافع كلهم كانوا يحملونه للدفاع لذا حرصوا على انتقاء شيوخهم من اصحاب العقل والحكمة. هكذا كان الشيخ عبد الرب.
ثم من اعلى سطح دار الشيخ انكشفت قرى المصنعة وقرعد وعرهل. وحين زرنا البيت القديم المهجور وجدنا في اعلى البوابة تاريخ 1111 ميلادية وكتابة تدون بناء الدار الى خمسمائة واثني عشر هجرية واسم عمر بن عبدالله بن عمر... مما استطعنا قراءته.
وكنا صباحاً عرجنا على قرية السُحلّة عند آل بن صلاح، معقل بنائي يافع، والتقينا المعلم حسين بن محسن بن مسعد الذي رافقنا الى القُدمة. وعرجنا في الطريق على قرية عنتر ومسجد النور وصوّرنا دار باعشوم الحجري الحديث.
وقبل الوصول الى اهل عمر للغداء توقفنا في الرباط عند البناي عبدالرحمن صالح علي وهو قائم مع مجموعة من العمال على تشذيب حجارة السحابيل. واخبرني بن مسعد ان كل حجرة ويبلغ طولها 5 اقدام في 10 بوصات مربوعة يصل ثمنها الى 4500 ريال، ولو انه مبلغ باهظ في اليمن الا انه اقل من 30 دولاراً.
وشملت مأدبة الغداء عند آل العمري العصيد ومطفّاية السمك واللحم الفاخر وخبز يافع المصنوع من الرقائق، والذ ما تشتهي النفس من الأكل. وحين دخلنا الديوان بعد الغداء نظر اليّ الشيخ عبدالله الجحزري بكل وقار وقال بالانكليزية Welcome to upper Yafi. واتجهنا الى القعيطي ودار حسن عبيد في قرية البعالي الى المقيال الموعود. وفي الطريق صورت جبل يزيد في القمة ومنطقة هرم في الوداي حيث توجد دار وحيدة اقصى الجل، وقرية اللّم حيث موقع مسجد الغساسنة. وصلنا وبرفقتنا المعلم بن مسعد والشاعر محمد منصر الوردي. وفيما بدأنا بالتخزين مضغ الوريقات كان الوردي يعد لي قصيدة تحية جاء فيها:
انظري سلمى... دياري
وارحبي اهلاً بداري
عشقك... لبُ انتظاري
اخبري كل الجهاتِ
والشاعر الوردي بنّاء بدوره وقد وضع واشرف على عدد من تصاميم المباني.
وفي سكينة هذا المقيال تأملت كبار رجال آل القعيطي بوقارهم وهم يجلسون بصمت، ووجدت لديهم الراحة المطلقة في حين لم يطرح علي احد منهم اسئلة. وتساءلت: أغافلون هم عن سحر تلك المدن التي يستوطنونها ولون ضوء الشمس في العصرية الدافئة خارج جدران الديوان، وقصور الحجر بيوتهم والمباني المجاورة التي تعلو كالابراج عند مدرجات الجبل... وهي التي تدعى المنيفة؟
وادركت ان هذه البلاد مختلفة الزمان والمكان، نسيجها المديني تألّف من تواطؤ الحكمة والذكاء لدى رجالها مع عوامل الطبيعة واشكالها التي لا تخلو من الحدة والقساوة. تسود بينهم روح المشاورة والنقاش والسجال في بت الامور وحلّها. ورأيت العديد من المشاريع الاجتماعية من بناء المدارس الخاصة ومراكز الانشطة والفعاليات الى بناء الطرق وشقها... وكل ذلك قائم على التعاون الذاتي وتبرع الاهالي عن طريق المبادرات والاعمال الخيرية.
وبعد المغرب انضم الى المقيال الفنان مَدْين، وما لبث ان عاد وجلب العود واطربنا بالوان من ألحان واشجان الشعر اليافعي والصنعاني والحضرمي والعدني، من كلمات المحضار والخالدي وشعراء يافع الصوفية، في الغزل والجمال والحكمة والفراق، مضيفاً بعض أغانيه المؤثرة.
غادرنا بن مسعد مشياً على الاقدام من قرية البعالي الى أهل بن صلاح وقريته السَحُلّة. وقبل ان يرحل زوده حسن بمصباح لينير طريقه، فالكهرباء تزود في يافع بين الثانية بعد الظهر والتاسعة ليلاً فقط. وانا فكرت كيف ان مشوار بن مسعد هذا ذكّرني بايام زمان وطفولتنا: الظلمة عبر الجبال، وهل سيسلك طريق السيارات العادي ام انه سيعدّي عبر الشعاب، وماذا عن الكلاب التي تبدأ بالنباح في الليل حالما يقترب احد من حدودها، وهل سيلتقي احداً في الطريق ام انه سيمشي وحيداً بين الابراج المتعانقة والجبال المشعة بأنوار المصابيح او الشمع التي ترصع الواجهات الصماء مترادفة مع ضوء النجوم والقمر الاعزل.
وأمسينا في دار القعيطي لنصبح الى الخبز الساخن المعد والعسل المسكوب على وجهه مع القهوة اليافعية. وغادرنا انا والشاعر الوردي برفقة صهر حسن حيدرة لزيارة العياسة بدعوة من الشيخ عمر العيسائي القاطن في السعودية.
وتوجهنا من البعالي الى عَمَق مروراً بالرباط حيث تقف قبة مميّزة فوق قبر احد الاولياء، اخبرني الوردي انها تسمى قبة الثور وارتفاعها 30 قدماً ويرجّح تاريخها الى 500 سنة.
ومنها الى سوق 14، والمنطقة تعرف بالأغمر او الأغمرين لأنها أغمر الرشيد وأغمر السعيد. ورساب كانت اول منطقة باتجاه جبل ثمر من سوق السلام. ودخلنا وادي مرحب المزروع بالقمح فوجدنا البنات بثيابهن البهية الزاهية بالاحمر والاصفر والبنفسجي متجمعات حول آبار المياه. وتحيط بوادي مرحب من الشمال مجموعة من القرى المنفصلة والمنتشرة في منطقة الاغور المهدعة، ريد، جروة، وقرية نجد العياسة.
وقبل ان نشق طريق عَمَق الى العياسة لاحت قرية كُميت ذات الطلّة التاريخية. وصعوداً الى منحدرات الجبل الضيقة تعامل حيدرة مع وعورة طبيعتها الصخرية الجافة بنفس الخفة والانشراح اللذين تألفهما لدى رجال يافع حين يقودون سياراتهم وكأنها تمر على مطب رملي سخيف أو مؤقت. وفي خضم رحلة الصباح ببرودته وذلك السهل الممتنع، كانت المسجلة تطلق صوت كاظم الساهر العراقي وهو يردد كلمات نزار قباني:
ودخلت قصور ملوك الجان
وحلمت بأن تتزوجني بنت السلطان
تلك العيناها اصفى من ماء الخلجان...
وشردت الى بغداد، مقاهي بغداد ويوسف عمر ذلك الذي حوى خضم الاغاني والمقامات او الجالغي البغدادي كما عرفناه وكيف ان العراق انتشر فانتشرنا معه. وفي كل مرة ألاقيه، في صنعاء وحضرموت ويافع، لا ادري ان كنت راحلة منه او اليه.
* مهندسة معمارية مقيمة في بريطانيا متخصصة بالعمارة العربية والاسلامية ومحاضرة في كلية الفنون الملكية والجمعية المعمارية وجامعة لندن. من اهم منشوراتها: "واقع من اليمن" 1991، "وادي حضرموت: هندسة العمارة الطينية" 1992، "الزليج فن الخزف المغربي" 1993، "عمارة سلطنة عمان" 1998 وقد قدّم له ولي عهد بريطانيا الامير تشارلز.
** الحلقة الثالثة والاخيرة يوم الاربعاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.