واقع العنصرية المرير الذي يعيشه الآن في بلدان أوروبا الغربية عدد كبير من جيش المهاجرين الأجانب الوافدين من بلدان العالم الثالث، التقطته السينما الإيطالية في واحد من أجمل الأفلام التي ظهرت خلال هذه المدة على شاشتها. وهو فيلم "بامورو" وتعني باللهجة النابوليتانية الإيطالية "طماطم"، الجريء الذي يعلن الاتهام ويرفع شعار الرفض والاحتجاج، وليقول للجميع "إنكم تفقدون براءتكم وطهركم ونقاءكم ما دمتم تمارسون تحطيم أغلى ما يملكه الإنسان، وهو العقل". الفيلم يمس واحداً من الموضوعات الحساسة التي انكشفت في بلدان أوروبية كثيرة، عبر ظهور عنصريتها المقيتة الموجهة ضد العمالة العربية. فأصبحت هذه الظاهرة مثار تداول وانتقاد واسعين في الدول الأوروبية نفسها. ولا تكاد تخلو صحيفة أو مجلة أو محطة تلفزيونية، من متابعة هذا الموضوع، سواء في تجلياته الحدثية، أو في تعبيراته النظرية. لكن السرعة والخفة وإثارة العواطف كانت الغالبة في التناول على العمق والتحليل. إذ إننا لن نغمط من قدر هذه الظاهرة إذا قلنا إنها جزء من وبأٍ عام يجتاح حضارة الغرب ويمتد منها إلى العالم بهذا المقدار أو ذاك. فيلم "بامورو" يقيم محاكمة جريئة، ويتخذ موقفاً فكرياً واضحاً ومباشراً ضد التخلف السياسي والاستخدام السيئ للسلطة، من خلال الكثير من مؤسساتها، ويدين امتهان حرية الإنسان وكرامته وعواطفه. فهو يرفض الظلم والفساد والقهر والتسلط، ويمجد قيمة الإنسان، أياً يكن لونه وانتماؤه وجنسه، ما دام يحلم كغيره، وفي شكل مشروع، في الحرية والعمل والحب والمستقبل. تاريخ مضيء "بامورو" عودة الى التاريخ المضيء للسينما الإيطالية في سنوات مجدها التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية وأطلق عليها "الواقعية الإيطالية الجديدة"، والتي غيرت مسار السينما العالمية بأسره. والفيلم الذي أخرجه للسينما الممثل الإيطالي القدير ميكيله بلاجدو، الذي انتقل، للمرة الأولى من دائرة التمثيل الى الإخراج، وقام ببطولته، وللمرة الأولى ممثل أفريقي، اعتبر امتداداً لفيلم "روما مدينة مفتوحة" لروسلليني، وفيلم "الأرض تهتز" لفسكونتي، و"الطبقة العاملة تذهب الى الجنة" لإيليو بيتري، و"سارق الدراجات" لدي سيكا، و"قضية ماتيي" لروزي، وعشرات الأفلام الأخرى التي ما زالت تستحق المشاهدة عن جدارة. حين يبدأ الفيلم يضع المشاهد في قلب الصراع ما بين صاحب العمل المتجبر المتغطرس، والمهاجر الضعيف المستلب، وكأنها علاقة السيد بالعبد، إذ يبدأ المشهد الأول بظهور شاب أسود تجاوز العشرين من عمره في قلب سفينة وهو يتطلع الى صورة فوتوغرافية لشاب أسود آخر، ثم ينقطع هذا المشهد لينتقل فجأة الى أحد حقول الطماطم البندورة الكبيرة التي تنتشر في المدن الجنوبية الإيطالية، حيث طابور طويل يضم عشرات الشغيلة من الشباب الوافد من أفريقيا والدول العربية، ليستلموا أجورهم البخيسة بعد انتهاء يوم عمل مضن، وأمامهم الإيطالي صاحب الأرض وهو جالس يعتمر قبعة من القش، يحصي النقود وينادي عليهم الواحد بعد الآخر ليلقي بأجورهم باحتقار على الطاولة التي يركن في إحدى زواياها مسدس، وهو يبصق بين لحظة والأخرى. وحين يرفض أحد المهاجرين تسلم أجره ناقصاً ويطالب بأجر كالذي يناله بعض العمال الطليان، يثور عليه صاحب الأرض معنفاً وساخراً ومستخفاً، الأمر الذي يدفع المهاجر الأسود الى تناول المسدس ليطلق النار عليه ويأخذ أجره كاملاً أسوة ببقية العاملين الإيطاليين ويهرب بعيداً في الحقول مستخدماً شاحنة رب العمل. بعد انتهاء هذا المشهد المؤثر تبدأ أحداث الفيلم من خلال بحث الأخ الذي وصل على ظهر إحدى البواخر عن أخيه المتمرد على الظلم والهارب من وجه العدالة، وعصابات المافيا التي تدير عملية تشغيل العمال الأجانب بالسخرة ومن دون مراعاة القوانين والأنظمة، يبدأ هذا الأخ الذي درس الطب في بلاده، رحلة في هذه الأرض الموعودة باليأس والعنصرية والاحتقار للآخر التي بدأت تنظر الى المهاجر الوافد إليها من افريقيا أو البلدان العربية بعدوانية وازدراء، فيسعى الى الحصول على تأشيرة دخول الى كندا للعمل فيها، إلا أن طلبه يرفض، الأمر الذي يجعل رحلته تمتد من الجنوب الإيطالي الذي يقبع تحت مظلة عصابات المافيا ويعاني التخلف والفقر، صعوداً الى المناطق الشمالية الأكثر تحضراً وانتفاحاً وثراء. ولكن في كلا الحالين يجد نفسه ضائعاً في مواجهة هذا الواقع الذي فقد إنسانيته، فأول ما يكتشفه أن عصابات المافيا هي التي توظف المهاجرين في خدمة أغراضها ابتداء من العمل في حقول الطماطم وانتهاء بتسخيرهم في أعمال التهريب والقتل والابتزاز، وهي التي تبحث عن أخيه لتصفيته انتقاماً على جسارته بقتل أحد رجالها. ومن مدن الجنوب الحارة الى مدن الشمال الباردة، حين يلتقي فتاة افريقية ليسألها عن أخيه يفاجأ بالقواد الذي سخرها للعمل في الشوارع يضربها، لأنها تجرأت على الحديث خلال أوقات عملها. وحين يستنجد به شاب عربي يعيش في إحدى عربات القطارات المهجورة التي أصبحت مأوى للمشردين والعاطلين من العمل ليشرف على عملية إنجاب لزوجته الأجنبية، يسارع الى إنقاذها. يبدأ الأخ بتعلم اللغة الإيطالية ويبدي إعجابه بمدرّسة اللغة التي تتجاوب مع إعجابه ليقع الاثنان في علاقة حب بعد أن تكتشف فيه إنساناً متعلماً ومثقفاً له اطلاعات في الفن والأدب العالمي ويجيد أكثر من لغة. في نهاية الفيلم يسافر الشاب الى ألمانيا بعد أن يتلقى بطاقة بريدية من أخيه، فيقرر الانفصال عن صديقته التي حالت كل الظروف ذات الطابع العنصري دون مواصلة العلاقة معها، وحين يصل الى مبتغاه في ألمانيا يجد الشرطة في انتظاره. في الحال تقوده الى أحد المستشفيات ليتعرف الى جثة شقيقه الذي صفت المافيا الإيطالية حساباتها معه. أحداث الفيلم تشير، وبتشخيص دقيق، إلى أن عملية نهوض الهجرة الى إيطاليا كانت بسبب حاجة البلاد الى الأيدي العاملة، وبسبب النشاط الاستعماري الأوروبي في نهب ثروات البلدان المستعمرة، لتوظيفها في بناء المصانع والمزارع وتطوير الاقتصاديات الأوروبية. وعندما وفد المهاجرون من المستعمرات بدأ وجه أوروبا يتغير. وبمرور الأيام تزايدت أعدادهم وبدأ تأثيرهم ينمو، ومع اشتداد الأزمات الاقتصادية في هذه البلدان تحولت العلاقة بين المواطنين الأوروبيين والمهاجرين من مرحلة تطابق المصالح الى مرحلة تصادمية.