الكتاب: الطواف حيث الجمر رواية الكاتبة: بدرية الشحي الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت ، عمّان أسلوب الكاتبة العمانية بدرية الشحّي ينمّ عن ممارسة كافية وموهبة واضحة، إلاّ انه لا معلومات عن كتب سابقة لها، هي المقيمة في بريطانيا والمتخصصة في الهندسة الكيماوية. رواية "الطواف حيث الجمر" لبدرية الشحي تبدأ مع بداية زمن الحدث وتنتهي بانتهائه، وعلى لسان الراوية البطلة "زهرة"، الفتاة العمانية، ابنة الجبل التي تهرب من زواج غير متكافىء فتأخذها السبل نحو افريقيا، لتقف في نهاية الرواية أمام مفترق مصيري يكاد يكون حافة الهلاك، بعد أحداثٍ حافلة تتوالد وتتشابك طيلة زمن الحدث الروائي. وإذا كان لا بدّ من التلخيص - الجائر بالضرورة - فإنها حكاية فتاة عمانية في الثلاثين من عمرها، ظلّت رهينة خطبة ابن عمٍ لها اسمه سالم يهجرها ويهجر أهله وقريته ويذهب بعيداً. وفي زمن الحدث الروائي يكون قد مرّ أربعون يوماً على خبر موته غرقاً، ولكن بعد أن يكون قد تزوج في أفريقيا وأنجب. وفي غمرة المأساة يتقرر تزويج زهرة من ابن عم آخر لها في الثامنة عشرة من عمره، تحاول الرفض فلا تنجح، فتطلب تغيير العريس الى آخر أكبر سناً، فقط لئلا تصبح موضوعاً للسخرية والمهانة، فيرفض طلبها. فتستسلم لقدرها، وتدرك أن خطيبها لا بد قد هجرها لضعفها وخنوعها. ولكن، يتقرر - في استثناء لم يحدث لعروس من قبلها أن تؤخذ الى نزوى لتختار ذهب عرسها، يرافقها أبوها وأخوها وعمها. وهناك تنطلق البطلة والرواية، كانطلاق السهم، بعيداً، نحو آفاق غير متوقعة. في الطريق الى نزوى تسمع من رجال أسرتها ب"سلطان" المهرب وبائع العبيد الذي أخبر الأسرة بغرق سالم، فتبدأ لدى البطلة بوادر مؤشرات مصيرها: الهرب. وفي نزوى تبحث عن سلطان وتعرض عليه مصاغ عرسها في مقابل تهريبها الى أفريقيا، وتكتشف أنه وسيم وجميل ووقح، وقد أربكها ذلك "الى حدّ الموت"، وسوف نرى أنه سيظل حبها الوحيد، والمستحيل. بعد سلسلة من التعارضات المدروسة درامياً للمواقف والإرادات يتم الاتفاق بين زهرة وسلطان لتبدأ الرحلة المصيرية للبطلة بمستوييها الذاتي والجغرافي. وتزداد البطلة قوة وصلابة كلما نأت عن بلدها وتخفّفت من إلزامات الانتماء، حتى تتوصل في نهاية المطاف الى استرخاص الموت على أرض مزرعتها في افريقيا كما لو أنها تموت على أرض وطنها، هناك حيث عرفت طعم الاستقلال والسطوة والقوة ومعنى الإرادة. ويخطر هنا السؤال: هل يعبر هروب البطلة عن قناعة الكاتبة باستحالة مقاومة المرأة لشرطها المجحف في بيئة متزمتة؟ هذا واضح بالطبع. ولكن، ومن ناحية أخرى، هل يعتبر الهروب دلالة على شدّة الوعي وتقدمه، أم انه اجراء غريزي للنفاذ من اشكالية الوجود في أوج اشتدادها؟ لنتفحص مبررات زهرة للهروب: انها تهرب من المهانة التي ستلحق بها، لفارق السن بينها وبين عريسها. بدليل أنها طالبت بعريس أكبر سنّاً من بين أبناء أعمامها. ولن نُدهش لكثرة المصادفات وحُسن ترتيبها، تلك التي مهّدت طريق زهرة للهروب. فهذه ضرورات الكاتبة لدفع بطلتها خارج الجبل. فهي تريدها هناك، في بلاد جديدة تجرب قوتها وتتغير وتمتلك قوة الفكر والتخطيط والإرادة، وحتى مفردات لغة شديدة الغرابة على ما يتوقعه القارىء منها. ولكن... هل حقاً كان على زهرة أن تهرب لكي تجد نفسها؟ هل كان الهرب ضرورة للبطلة، أم أنه كان ضرورة موضوعية للكاتبة في المقام الأول. رواية "الطواف حيث الجمر" مكتوبة على لسان الراوي البطل. فالصوت صوت "زهرة" لا يشاركها فيه راوٍ موضوعي ولا بطل شريك، والرواية روايتها عن مغامرة حياتها بما في ذلك ما تستعين به لجعل مهادها النفسي أكثر وضوحاً، في مقدمات الفصول! لكن هذه الرواية هي الأكثر تطلّباً للراوي الموضوعي، في وضعها الذي أُنجزت فيه. ولو أنها كتبت على لسان راوٍ عليم لتخفّفت التباسات العلاقة المتماهية بين الكاتبة وبطلتها، وهي التباسات جدية تتعلق بمستويات الوعي والإدراك واللغة والإرادة، الأمر الذي جنح بالرواية نحو ما يمكن وصفه بالمبالغات الميلودرامية. تقدم الكاتبة بطلتها على أنها فتاة أمية ضعيفة، صابرة، بلغت الثلاثين وهي رهينة خطيب الطفولة في بيئة تتزوج بناتها في الثالثة عشرة. وبالطبع، لا بد أن تكون قد بُرمجت تماماً على اليأس من التمرد والرضى بالمقسوم، مهما بلغ ادراكها للظلم الواقع عليها. هذا واقعي وموضوعي، لكن زهرة تعبر عنه بلغة ليست لغتها. وإذا كان "تقنين" اللغة لكي تلائم واقع الشخصية، أمراً لا يسهل للكاتب إلاّ بالخبرة الطويلة والمران الشاق، ففي الأقلّ يفترض توخي ادراك مخاطر انزلاق ثقافة وخبرة الكاتب في لغة شخوصه الروائية. نفترض ان من الطبيعي أن تستخدم "زهرة" تعبيرات قوية منتقاة مثل: "متغطرس"، "يرضخ"، "خيار عمي الأول"... الخ... الخ. فهل في الإمكان التغاضي عن تعبيرات من مثل "بدا كمن اعتاد على ساديتي الطارئة" أو "مثلة بالتناقضات" أو "أنا يا ذاتي المغتربة"، ثم لا تلبث زهرة أن تنشد شعراً منثوراً في مناسبة أو أكثر!! ان ادراك زهرة لدونية وضعها قد انقلب بعد هروبها ليصبح ادراكاً متقدماً يستتبع اسلوباً ومنهج تفكير ومفردات وأفكاراً متقدمة هي الأخرى، حتى بدت البطلة وكأنها كانت "تُضمر" وعيها المتقدم وعناصر قوتها، كما يُضمر السرّ، ليجري تحت سطح الواقع الموضوعي نهر صاخب من الوعي المتقدم لم يلبث أن تفجّر ما ان أزيحت عن مجراه الموانع، فأغرق عالم البطلة وسربل كل ما فيه. ولا يسعنا إلاّ أن نسأل: من أين توافرت زهرة على هذا الوعي، الذي يفترض به أن يكون فطرياً. ومن أين توافرت على المعرفة التي مكّنتها من صياغة وعيها بمفردات ومصطلحات وتعبيرات متقدمة؟ هل تدخلت الكاتبة لحماية بطلتها، واحاطتها بمستويات غير حقيقية من الوعي والإدراك ووسائل التعبير عن الذات؟ مثل هذا الأمر مألوف لدى عربيات يكتبن السيرة الذاتية والرواية السيرية. وتعني بذلك شأن السمات الذاتية للشخصية في رسم صورة المرأة ومصيرها قياساً بالمعطيات الموضوعية. لكن هذا المنهج يبرره مآل المرأة صاحبة السيرة، التي تستحق في النهاية أن تفخر بسماتها الذاتية كفيصل في تحديد مصيرها. رسمت بدرية الشحي، لبطلتها سمات ذاتية ثم جعلتها تتحرك داخلها وكأنها فسحة حرية، أو كأنها درعها الكافي لحمايتها من العالم المعادي المحيط بها. بل أكثر من ذلك، تحولت البطلة بعد وقت قصير الى الهجوم والتصدي من دون أن يتاح لنا اكتشاف مصدر قوتها. وفي التقدير أن مصدر قوتها الحقيقي هو الضرورة الموضوعية للكاتبة. فقد صرفت الكاتبة النظر عن "الطريق الآخر" للرواية، وهو استبصار قدرة زهرة على المقاومة داخل بيئتها، مقاومة تقترحها الشخصية الروائية من ناحية ونفاذ بصيرة الكاتبة من ناحية أخرى داخل بيئة الانتماء. وتبدو البطلة شخصية غير حقيقية، لا هي زهرة ابنة الجبل، ولا هي الكاتبة، ولا هي راوية قادرة على سير وعي الطرفين وقدرتهما على تجسيد واقع موضوعي من وجهة نظر كاتبة، غادرته واكتسبت وعياً متقدماً وظرفاً موضوعياً مواتياً وقدرات ذاتية تؤهلها لاعادة تأمله واستبصاره من جديد.