"مطر أسود، مطر أحمر" لابتسام عبدالله رواية مبكرة عن حرب الخليج. ربما أول رواية عراقية تكتب بعد الحرب، تبعتها حتى عام 1996 روايتان لكاتبتين أخريين: "عطر التفاح" لإرادة الجبوري، و"العالم ناقصاً واحد" لميسلون هادي. بالإضافة الى رواية "القهر" لسهيلة داود سلمان التي نشرت عام 1994 وتدور أحداثها في زمن الحرب العراقية - الايرانية. ويلفت الانتباه ان الكاتبات كن في الطليعة في الكتابة عن الحرب، ففي حدود علمنا، لم تصدر لكاتب عراقي حتى الآن رواية عن الحرب، اذا استثنينا ما أُطلق عليه في عقد الثمانينات مصطلح "قصص وروايات الحرب" التي تفرغ لكتابتها كتاب، في معظمهم من الشباب، وكانت ذات خطاب شعاري في الدرجة الأساس، وتدور أحداثها في جبهات القتال حيث تحتل الحياة المدنية هامشاً ضئيلاً، ولا تقترب من الحواف والمسننات الاجتماعية والسياسية والفكرية. مما كان يُنظر اليه باعتباره مساً بالأهلية الكلية للمجتمع العراقي الذي يفترض ان تبدو منسجمة في موقف كلي متماسك خلف القرار السياسي. والأمر اللافت اللانتباه في روايات الحرب النسوية الثلاث التي تجري أحداثها زمن حرب الخليج الأخيرة ان أجواءها تجري على مبعدة من الاحتدام المشتعل لفعل الحرب. وأنجزت كل كاتبة هذا الابتعاد بطريقة مختلفة، سواء بالابتعاد عن زمن الحرب كما في رواية "العالم ناقصاً واحد" أو بجعل الشخوص في حالات شعورية خاصة تتيح للكاتبة ابعادهم عن بؤرة الاحتدام. ففي رواية "عطر التفاح" تجعل الكاتبة بطليها في وضع صحي ونفسي استثنائي، فالبطل على فراش الموت والبطلة مضطربة عقلياً. وفي هذه الرواية تجعل الكاتبة بطلتها على فراش المرض فاقدة الوعي.
تظل المسافة الزمنية الفاصلة بين العمل الأدبي والحدث الذي ترتبط به موضع جدل، فهل التعبير الملتصق بالحدث - بخاصة الاحداث المصيرية الكبرى - تخدم تعبيراً أكثر حرارة وحيوية من دون ان ينقصه العمق؟ وهل الابتعاد الزمني عن ذلك الحدث يمكن ان يبلور تعبيراً أكثر عمقاً من دون ان تنقصه الحرارة والحيوية؟ لا شك ان المعادلة تتعلق بموهبة الكاتب أولاً ونمط التعبير الأدبي ثانياً، فلعل الروايات التسجيلية أو روايات اليوميات اكثر تطلباً للالتصاق بزمن الحدث، في حين تتطلب رواية الشخصية بُعداً عن بؤرة الاحتدام زمنياً. أما هذه الرواية فأرادتها الكاتبة رواية شخصية وتسجيلية في الوقت نفسه، أي الشخصية في جو الحدث الذي تناولته بصيغة تسجيلية في الغالب، حتى أنها ضمنت الرواية مقطعاً وثائقياً عن الحرب، مدتها وأهدافها والأسلحة المستخدمة فيها...، بالاضافة الى مقطع عن إله الشمس في أساطير وادي الرافدين من دون ان يبدو واضحاً للقارئ سرّ دلالة أي منهما وانتمائه الى بنائية الرواية. رواية الحرب تحتك بخشونة بالسياسي - الشعاري. وحين تكتب على مقربة من الحدث "زماناً ومكاناً. فإنها تقع في مواجهة المحاذير المحفوفة بالمخاطر، وبخاصة حين يكون الكاتب جزءاً من مجموع مرتهن للخطاب السياسي وللحدث المصيري المتمثل في الحرب، اذ في الغالب يعمد الكاتب الى كبح رأيه ورؤاه ومنظوره واستبصاره محركات الحدث وآفاق تجلياته المستقبلية، وينعكس ذلك بالضرورة على بناء الشخوص حركتها، سواء الداخلية: رأي، فكر حدس، أو الخارجية: علاقات، حوارات. والأهم من ذلك انعكاسه على رؤية الكاتب الى الأحداث واضطراره الى سردها بوسائل الإلتفاف والاجتزاء لكي تتناسق وقدرة الشخوص "المكبوحة" على التفاعل معها والتعبير عن موقفه منها والانغمار في حركتها في حدود المساحة المتاحة، وهي في الغالب مساحة محدودة ومقننة وصارمة الحدود. ولعل الكاتبة، وهي تحاول النفاذ عبر خارطة الاشكالات هذه استقرت على نقل الحدث الى الماضي وجعله جزءاً من أزمان متعددة المستويات تستدعي الى ذاكرة الحدث، الى الماضي، وجعله جزءاً من أزمان متعددة المستويات تستدعي الى ذاكرة البطلة كلما اقتضت ضرورات السرد. غير ان اللافت في وضع البطلة أنها تظل في غيبوبة المرض، على سرير في المستشفى منذ أول كلمة في الرواية وحتى آخر كلمة فيها. وهذا أمر غريب، اذ أن استدعاء الأزمان الماضية بأحداثها وشخوصها أصبح مألوفاً في بناء الرواية، غير ان تمرير الأزمان والأحداث عبر ذاكرة شخصية تعاني من غيبوبة المرض يظل أمراً لافتاً للانتباه ومثيراً لقلق القارئ، وبخاصة اذا لم يعمل الكاتب على اتخاذه اساساً للبناء الموضوعي والفني معاً. فإذا كانت البطلة غائبة عن الوعي وتعاني من التسمم بأدوية فاسدة، فكيف كان بإمكان الذكريات التي ترد عبر ذاكرتها ان تظل تسجيلية واقعية واضحة كما لو كانت تمر عبر ذاكرة شخص سليم حاضر الوعي. وتتحسب الكاتبة للأمر فتسجل منذ البداية على لسان بطلتها أنها "تحس وتسمع وتفهم، لكن ضباباً رمادياً كثيفاً يحيط بها فلا تستطيع الكلام ولا تدري ما إذا كانت هي التي تغرق في الضباب أم المدينة، وتحاول ان تستجمع ذاكرتها فتنثال الصور واضحة صافية ويتفجر نبع في داخلها". فإذا كانت هناك ضرورة بنائية أو ترميزية لجعل ذكريات الحرب تحضر عن طريق ذاكرة جسد غائب الوعي، فقد كان أحرى بالكاتبة ان تشتغل على عملية التذكر ذاتها ومادة الذكريات بحيث يبرر بناؤها ومدى وضوحها وايقاعها، كونها ذاكرة شخص مريض غائب عن الوعي. يخيل الي ان الكاتبة اختارت لبطلتها الغياب عن الوعي لسببين: لتحاشي وجود الراوي البطل في زمان - ومكان الحدث، ولتسهيل تمرير محرضات التذكر وبالتالي انسيابية السرد. ولأن البطلة غائبة عن الوعي فإنها لا تتذكر بطريقة منطقية "كما تفترض الكاتبة"، بل تستجيب للمحر ضات الخارجية التي تعمل عمل إبرة الحاكي لانطلاق الذكرى. لكن الذي حصل في النهاية ان عملية التذكر بدت مدروسة ومبرمجة مسبقاً ومنطقية أكثر مما يمكن ان تبرره حالة البطلة: تسمع في رأسها صوتاً مدوياً يشبه صوت البوق، فتتذكر صوت بوق المعسكر المجاور لبيت طفولتها. وبعد ان تنتهي "تماماً" من التذكر يشتد الصوت "الحقيقي" ليذكرها بپ"العاصفة/ الحرب". وتغني أختها الى جانبها أغنية عن السفر لتتذكر في مقطع طويل مشروع سفرهما الذي ألغي بإعلان وقف الرحلات الجوية عقب الثاني من آب اغسطس 1990. فماذا لو كانت الأخت غنت أغنية أخرى مثلاً؟ وتخبرها أختها في احدى نوبات صحوها أن زوجها السابق سأل عنها فتنتقل الى تذكر حياتها الزوجية ومشكلاتها وطلاقها في النهاية. ومن عبارة "الجو المتقلب" التي تلتقطها من الراديو في غرفة المستشفى تتذكر العبارة نفسها حين قيلت قبل خمسة أشهر والجميع في خضم التوقعات حول احتمالات الحرب، ومنها تنطلق الى سلسلة من الذكريات عن أقاربها وأصدقائها ومحل الزهور الذي افتتحته كمشروع لها بعد طلاقها، والى "فارس" الذي أحبته وأحبها وظلت تقاوم مشاعرها نحوه متأثرة بتجربة زواجها الفاشلة القاسية. وتستمر سلسلة المحرضات بإيقاع مدروس ومعتمد عليه كلياً وفق افتراض ان البطلة تعود الى الوعي كلياً أو جزئياً ف "تلتقط" بسمعها أو ببصرها الشفرات التي تفتح لها أبواب الذاكرة، أو مسار السرد الروائي في الواقع. صوت الرعد يذكرها بقصف ليلة الحرب وما قبلها وصولاً الى نشوب الحرب. وسؤال أختها عما إذا كانت تريد ان تشرب يعيدها الى شحة المياه ومشاكل الغسيل والاستحمام أيام الحرب، وحرارة جسمها وبرودته تذكرها بأعمدة الدخان والضباب والبرود ومنها الى تفاصيل زمن الحرب... ان تصميم الكاتبة على ربط ذكريات الحرب، وبالتالي سردها روائياً بالمحرضات عن بنية السرد وصولاً الى متابعة كتلة السرد التي هي مبرر الرواية. أي أن حالة الشخصية - بخاصة وضعها المرضي - أصبحت عبئاً على السرد الروائي الذي لم يتأثر "فنياً، بحالة الشخصية، ذلك ان حالة الشخصية لم تكن مرتكزاً لحالتها الشعورية أو الفكرية، فهي وان كانت فيزيائياً مريضة فقط ظلت سليمة تماماً باعتبارها معبراً صافياً وواضحاً للأحداث والأزمان وحركة الشخوص بل وحتى الانفعالات. وكذلك لم تكن حالتها مستقراً مصيرياً لها كأن تكون أصيبت بالجنون أو بحادث يسبب لها الإعاقة أو يودي بحياتها في النهاية، علماً بأنه سيتعين على الكاتبة في جميع الأحوال ان تبرر - فنياً وموضوعياً - قيمة وأهمية وضع بطلتها في الحالة التي ظلت عليها طوال زمن السرد الروائي، حصراً اذ نجدها في نهاية الرواية وقد استعادت وعيها واستعدت لاستئناف الحياة. فكأن الغيوبة كانت موعداً محدداً لها مع السرد. الكاتبة أرادت بوضع بطلتها في الغيبوبة تبرير البناء الروائي "التداعي المشروط بالمحرضات الآنية، وتحاشي حضورها في زمان ومكان الحدث. نرى ان العاملين ضروريان لتحاشي الاحتكاك بما هو أعمق وأخطر في مجريات الاحداث، اذ لم يكن باللامكان - مع حضور الرواي في زمان ومكان الحدث - تجنب فعل الاحداث بالوعي الفردي لأبطال الرواية، والجمعي للناس الذين لم يكن بالامكان عزلهم في رواية حرب. ولا نعني بذلك الحضور الفيزيائي فقط - على رغم ان الحضور الفيزيائي للناس يصعب تجنبه في تلك الحرب التي ظل الناس يرتطمون ببعضهم بعضاً بلا هوادة وهم يضطربون من أجل تبين مصائرهم الشخصية والكلية بالإضافة الى تأمين احتياجاتهم أو الاتصال ببعضهم أو البحث عن أبنائهم أو تأمين سلامتهم عبر الجغرافيا الشاسعة. أقول، ليس الحضور الفيزيائي للناس ما غاب في هذه الرواية، بل الحضور الجمعي الذي تمثل في الرعب وشراسة التنكيل وغموض المصير الذي يفترض اختزاله "فنياً" في وعي الفرد مهما بلغت عزلته الفيزيائية في زمن الحدث أو زمن السرد. وحضر الناس في هذه الرواية بالطبع، ولكن من خلال معاناتهم اليومية وتفاصيلها الشائعة، وليس من خلال وجودهم الكلي، فكأن الحرب كانت ظاهرة طبيعية أو كارثة مألوفة كالقحط أو الفيضان أو الوباء، وليس كما هي عليه بالفعل: سؤال مصير عميق الغور شاسع الابعاد. ظلت شخوص الرواية جميعاً متعلقة ومحكوماً عليها بما قبل الحدث. وشخوص الكاتبة مرسومة بصرامة. فهي أما جيدة أو سيئة، تعبر عن ذواتها عموماً، بالكلام أو بتعجل اتخاذ المواقف الدالة. وفي الواقع بدت جميع المواقف وكأنها قد صنعت لتمرير وصف الشخصيات أو الحكم عليها. واللافت في بناء شخصية البطلة "رهام" ان الكاتبة جعلتها في منتهى البراءة، ضحية مثالية لا تكاد ترفع يداً في وجه ظروفها وظالميها. فعلى رغم خراب علاقتها بزوجها فإنها تعترف في النهاية بأنه هو الذي أخرجها من حياته ودفعها الى اتخاذ قرار الانفصال، وعلى رغم انه كان عقيماً إلا انها تضطر الى تحمل مسؤولية عدم الانجاب أمام الناس ليس عن قناعة أو للمحافظة على العلاقة الزوجية، بل لأن زوجها هددها بالقتل ان هي أفشت سره. وحين تتعمق الكاتبة في تفاصيل علاقة البطلة بزوجها تصل من دون ان تعي ذلك كما يبدو الى بناء الشخصية الناضجة الوحيدة في الرواية، ففي حين كانت تعمل على هجائه إعلاءً لشأن البطلة قدمته كشخصية نافذة البصيرة من حيث قدرته على رؤية الواقع، واقع مجتمع تطحنه الحرب وتخلق معاييرها المشوهة وأعرافها وقوانين علاقات اجتماعية مخربة ومدانة. فحين يناقشان قضايا العلاقات الاجتماعية والخيانة والصدق مع النفس. يبرر الزوج ذلك بأن الحرب أدت الى تفكيك المجتمع، فالرجل يحارب، الرجل شهيد، الرجل أسير والأسرة بلا حماية ولا سياج "وعندما يذوب السياج يسهل التسلل من البيت واليه". وعند الحديث عن الخيانة الزوجية تعلن البطلة لزوجها: "ان عواطف المرأة تختلف. الحب عندنا يعني الاخلاص التام الذي لا تشوبه النزوات والشوائب، حالة متكاملة نتفاعل معها بكل أحاسيسنا، والمرأة لا تعرف الخيانة". وتصف البطلة زوجها بالتفاهة لأنه على رغم تحصيله العلمي، ينتقل الى التجارة وانتهاز الفرص، وتعتبر ذلك عيباً في حين يبرر هو الأمر بأنه نتيجة تحول المجتمع الى مجتمع القلق، مجتمع البحث عن فرص غير متكافئة. لكن البطلة ترد عليه: "العيب ان تستغل الوضع الاقتصادي لتحقيق الارباح". ونتيجة لهذه "الهتافية" في تصوير نبل البطلة مقابل تفاهة زوجها يبدو الحوار ضحلاً ومصنوعاً بقصدية والموقف مدبراً، الأمر الذي يقلب مسعى الكاتبة تماماً، حيث وجدنا الزوج واقعياً ومنطقياً، نافذ البصيرة بدل ان يبدو تافهاً وحقيراً، في حين وجدنا البطلة ساذجة أو مدعية بدل ان تبدو نبيلة. هذه الرواية الثانية، كما ذكرنا، يوضع فيها الابطال الرواة في عزلة جغرافية وانقطاع عن زمن الحدث الروائي المتمثل بالحرب. وقد يرى البعض في ذلك ترميزاً ذا دلالة ما. لكننا نراه في الواقع تحفظاً وتجنباً لخوض مخاضات محفوفة بالمحاذير التي لا تزال تحتفظ بحيويتها وقدرتها على إفراز المخاطر نظراً الى قرب المسافة الزمنية بين كتابة الرواية وحدث الحرب من ناحية، والتباس الفني البنائي بالشعاري السياسي الذي يتطلب انضباطاً في معاييره من ناحية اخرى.