يقيناً أن الولاياتالمتحدة لم تعش في تاريخها الحديث، وحتى ذلك الحين، يوماً أصعب من اليوم التاسع عشر من نيسان ابريل 1961. ففي ذلك اليوم الذي تم فيه التأكد، بشكل قاطع، من أن غزوة "خليج الخنازير" أخفقت تماماً، أدرك الرأي العام الأميركي أن النملة الصغيرة عرفت كيف تنتصر على الفيل: فيديل كاسترو، زعيم كوبا الشيوعي المتمرد على المعسكر الغربي والرافض لقيم اليانكي وسياساته، عرف كيف يهزم الولاياتالمتحدة، و"كيف يمرغ أنفها في الوحل" أو هذا، على الأقل، ما قاله العديد من المعلقين الأميركيين والأوروبيين الذين اشبعوا ذلك الحدث تحليلاً وتعليقاً في ذلك اليوم. كما أشبعوا الولاياتالمتحدة شماتة. والأسوأ من هذا كله، التخبط السياسي والاعلامي الذي شهدته واشنطن في ذلك اليوم، كما خلال الأيام السابقة والتالية، ما اضطر الرئيس جون كنيدي الى القول أن "للنصر عادة ألف أب وأب، أما الهزيمة فيتيمة". ولئن كان الرئيس الأميركي قد عمد، خلال الأيام التالية الى إعلان تحمله المسؤولية الكاملة عما حدث، أي عن الاخفاق العسكري الهائل الذي أسفرت عنه غزوة خليج الخنازير، فإنه انما كان في ذلك يحاول استيعاب صرخات الاحتجاج التي راحت تنطلق في أنحاء عديدة من العالم. ومع هذا لم تكن الولاياتالمتحدة، بالمعنى الحصري للكلمة، من قام بمحاولة غزو كوبا عن طريق البحر، بل أن مرتزقة كوبيين هم الذين فعلوا ذلك، بتمويل ومساندة من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ومن البحرية الأميركية. من ناحية مبدئية، كان من المفروض بتلك العملية أن تكون ناجحة وأن يكون قد أعدّ لها طوال فترة من الزمن، غير أن ما تبين في ذلك الحين، أن الارتجال كان العنصر الوحيد في تلك اللعبة، وخصوصاً أن المرتزقة أنفسهم لم يكونوا واثقين من أن في امكانهم، حقاً، أن ينتصروا. ومن هنا كانت الهزيمة الاميركية مزدوجة: عسكرية بالطبع، ولكن سياسية أيضاً. ذلك أن تلك العملية التي كان يراد لنجاحها أن يطيح فيديل كاسترو وحكمه الشيوعي، أدى إخفاقها الى تقويته. وهذا ما أربك الأميركيين، وجعلهم يتخبطون، الى درجة أن أولاي ستيفنسون، مندوبهم في منظمة الأممالمتحدة اضطر الى الاعتذار وهو يداري خجله، بعدما كان عرض أمام المنظمة الدولية صوراً قال انها تثبت أن من حاول قصف الدبابات الكوبية، انما هم طيارون وطنيون كوبيون معادون لكاسترو، استخدموا قاذفات اميركية من طراز "ب - 26". ستيفنسون قال هذا مستنداً الى وثائق زودته بها وزارة الدفاع الاميركية. ولكن سرعان ما تبين أن الوثائق مزورة، وان من قام حقاً بمحاولة القصف، إنما كانوا طيارين أميركيين. لماذا كذب ستيفنسون؟ بكل بساطة لأن عمليات القصف تلك، التي كان يُتوخى منها أن تقضي على أرتال المدرعات الكوبية التي أرسلت لمجابهة الغزو، أخفقت في مهمتها تماماً، وأسقطت الطائرات. كان ذلك الاسقاط عاراً على أميركا ما بعده عار، لأنه حسم المعركة. من هنا جاءت مزاعم ستيفنسون بأن الطيارين كوبيون غير مدربين بشكل جيد. ولكن، حين تأكد أن الطيارين أميركيون تبدلت المعطيات، ولم يعد في وسع واشنطن أن تزعم أن المعركة كوبية - كوبية. مهما يكن في الأمر، فإن ذلك اليوم الذي كان يوم عار للولايات المتحدة، كان يوم انتصار كبير لكوبا، إذ تبين فيه أن القوات الكوبية والميليشيات قضت تماماً على أفراد الطابور "2506" الذي قام بالغزو والمؤلف في معظمه من مرتزقة كوبيين وأميركيين لاتينيين آخرين ممولين من قبل وكالة الاستخبارات الأميركية. ولقد تمكنت القوات الكوبية الكاسترية من قتل 114 مرتزقاً، ومن إلقاء القبض على 1183 آخرين. وكذلك تمكنت القوات الكوبية من إغراق السفينة الحربية الأميركية "هوستون" وعلى متنها 200 بحار، كما تمكنت من قصف وتفجير السفينة "ريو اسكونديدو" التي كانت تنقل كميات كبيرة من الذخائر والمؤن لتسليمها الى الغزاة. وما أن أغرفت هاتان السفينتان حتى بادرت السفن الأخرى التي كانت موضوعة في تصرف المرتزقة، الى الهرب. وهكذا لم يعد في إمكان القوات الغازية إلا أن تتحرك الى الأمام، ولا أن تهرب. ومن هنا كان الانتصار الكبير الذي حققه كاسترو، على رغم أن القصف الأميركي كان دمر مجمل الطائرات العسكرية الكوبية التي كانت ترابط في مطاري سانتياغو ولاهافانا. وفي واشنطن، في الوقت الذي كان فيه جون كنيدي يعلن تحمله المسؤولية، كانت الملامة تنهال عليه وعلى حكومته من كل جانب، وحتى في أوساط حزبه الديموقراطي، الذي لم يعدم شيوخاً فيه، مثل واين موريس، يقولون إن "العملية كانت غلطة فظيعة" الصورة: الكوبيون يقصفون سفن الاميركيين في خليج الخنازير.