يلاحظ من يزور المدن الساحلية السورية عدداً من المظاهر التي بدأت تنتشر على الطرق العامة، مثل عرض سكان القرى والبلدات القريبة من هذه الطرق نماذج من منتوجاتهم الزراعية: كالليمون والبرتقال والملفوف والفريز... إلخ. وهم يضعونها على المنطقة الترابية المحاذية للطريق، فما ان تتوقف سيارة العابر، قرب البضاعة، حتى يظهر فوراً صاحبها من المكان الذي اختبأ فيه، اتقاء للحرارة أو الأمطار، ملبّياً طلب السائق العابر. عدم وجود استراحات على الأوتوستراد الذي يصل مدينة حمص بمدن طرطوس، بانياس، اللاذقية دفع ببعض أهالي القرى الفقيرة المحاذية للأوتوستراد الى انشاء استراحات متنقلة للقهوة. ولصنع استراحة، لا يحتاج الأمر أكثر من "مصبّ قهوة" كبير، وعدد من الكؤوس البلاستيكية الصغيرة، يتم وضعها في محاذاة الطريق، ورفع شارة صغيرة تشير الى وجود القهوة. وبمجرد توقف أي سيارة بالقرب من مصبات القهوة يهرع صاحب "الاستراحة" لتلبية طلب العابرين. أكثر المظاهر المنتشرة على الطرق لفتاً للانتباه، وإثارة لمكامن ونوازع الحنين، وتحريكاً لمخزون الذاكرة، هو التنور، الذي راح هو الآخر ينتشر بكثرة على الأوتوستراد الذي يؤدي الى مدينة اللاذقية وخصوصاً في الجزء الممتد من بلدة جبلة الى مدخل المدينة، عند جسر المزيرعة الرويمية، جسر الصنوبر مقابل الهنّادي، الشيخ مقبل، على طريق القرداحة القديم. وانتشر التنور أيضاً على الطرق المؤدية الى المناطق الجبلية مثل صلنفة وكسب، وصافيتا، باتجاه الشرق، نحو الكفارين. عشرات من النساء يخبزن على التنانير المزروعة على جانبي الأوتوستراد وسائر الطرق، تتجاوز أعمارهن الخمسين عاماً، اعتدن الخبز على التنور في شبابهن وتحملن مشقة جمع الحطب من البرية واشعاله في داخل التنور. وها هن الآن يعدن الى ممارسة هذا العمل بعد انقطاع تجاوز العشرين عاماً غابت فيه التنانير من قراهن واندثرت. التنور غاب واقعياً بسبب مشقات العمل عليه العجن، جمع الحطب، تحمية التنور، تحمّل المرأة التي تخبز عليه، لهب النار في الصيف والشتاء، ترقيق أقراص العجين يدوياً... الخ. دخل التنّور الى الفولكلور، وأصبح يتردد، حميماً، في الأغاني الساحلية الشعبية خلال الأعراس والحفلات مثل أغنية "مسْعِدْ يا تنور... يا مجمع الزينات". والفقر جعل التنور - فجأة - يقفز خارجاً من الفلكلور الى الأوتوستراد ومفارق الطرق، مدهشاً العابرين بهذا الميت الذي بعث حياًَ. تبدأ معظم النساء العمل على التنانير منذ الساعة السادسة صباحاً ويبقين حتى الساعة التاسعة مساء. ولا يقتصر عملهن على انتاج أرغفة الخبز فقط، بل يتعداه الى شيّ الفطائر بأنواعها المختلفة. الزعتر أو المناقيش، الجبنة، اللحمة، السلق، السبانخ، المحمرة، أما سعر الرغيف فهو 5 ليرات وسعر الفطيرة الواحدة 10 ليرات. وانتشار التنور على الأوتوستراد ومفارق الطرق، يذكر العابرين في سياراتهم بأجواء القرية قديماً، مما يدفعهم للتوقف وشراء الأرغفة والفطائر، في لحظة تمتزج فيها لذة الطعام مع الحنين والذكرى واسترجاع صور الماضي الحميمة. أما بالنسبة للنساء اللواتي يخبزن على التنور، فالصورة تبدو مختلفة تماماً، الأمر لا يعني لهنّ أكثر من وسيلة لتوفير لقمة العيش لأفراد أسرهن، ولولا الارتفاع المتسارع لخط الفقر، الفقر الذي يتم تحويله الى ثروة وطنية، لما نزلن من القرى الى الطرقات للعمل، وهن في خريف العمر، مياومةً، أو بأجر مقطوع، عند أصحاب التنانير. السيدة أم علي في الستين من العمر، أم لعائلة مؤلفة من ستة أفراد، جاءت من قرية "القطرية" وهي تعمل منذ الساعة السادسة صباحاً حتى الساعة السابعة مساء صيفاً وشتاء، منذ حوالى السنة، وتتقاضى راتباً قدره 3000 ل.س 60 دولاراً. تمضي أم علي الوقت بكامله، وقوفاً، تخبز على التنور، تساعدها سيدتان في العمر نفسه تقريباً في فرم البصل وترقيق العجين يدوياً، واعداده وتهيئته لإدخاله الى التنور. وإذا ما توقفت سيارة على الطريق على أم علي أن تهب مسرعة لتعرف ماذا يطلب السائق لتوفّر له طلباته، خصوصاً أن زبائن كثيرين لا يترجلون من سياراتهم، وهذا ما يشعرها بالإهانة والذل، بحسب تعبيرها. تفكر أحياناً بترك العمل نتيجة للضغوط، لكن صورة عائلتها الفقيرة، التي لا تشبع الطعام تظل تؤرقها، فتمنعها من الترك، لذا تتحمل كل هذه الآلام في سبيل العائلة. أما أم حازم فهي في عمر أم علي تقريباً، من قرية "جوبة برغال" وتعمل من الثانية ظهراً حتى التاسعة والنصف ليلاً، حين يأتي زوجها لاصطحابها، وفي كثير من الأحيان لا تصل الى بيتها حتى منتصف الليل، بسبب انقطاع المواصلات. عن أسباب عملها، تضرب أم حازم مثلاً ترويه بطريقة مغلوطة قائلة "هين نفسك ولا تهين كرامتك" وتقصد "هين قرشك ولا تهين كرامتك" أي أنها مستعدة للعمل في أي شيء، رفضاً للتسول. يصل دخل التنور الذي تعمل عليه أم حازم في اليوم الى 4000ل.س أحياناً، بسبب موقعه الاستراتيجي، عند مفارق الطرق، تحت أحد الجسور. أما المبلغ الذي تتقاضاه أم حازم فهذا ما لا تبوح به، خوفاً من رب عملها الذي يبيع القهوة في الجانب الثاني من الأوتوستراد، وهي تشكو من بقائها فترات أطول من الوقت المتفق عليه معه، أيام العطل والأعياد والمناسبات بسبب ازدياد جري السيارات التي تتوقف لتشتري الخبز، من دون أن تأخذ أجراً اضافياً. تحلم أم حازم بإنشاء تنور خاص بها لكن "العين بصيرة... واليد قصيرة" كما تقول. التنور جعل عائلة أم حسين تهاجر من القرية بكامل أفرادها وتسكن في حقل الليمون الذي تملكه، قرب الأوتوستراد. أنشأت أم حسين تنوراً بمحاذاة الأوتوستراد قرب حقل الليمون، وقد كلّفها ثلاثة آلاف ليرة سورية، استدانت نصفها من أخيها في اللاذقية. وهي تجمع الحطب من الحقل وهذا يعفيها من قضية شراء الحطب. تشعل أم حسين التنور منذ الساعة الثامنة صباحاً، وتظل تعمل على التنور طالما توقفت السيارات. تساعد أم حسين في عملية الخبز بناتها اللواتي لم يكملن تعليمهن، بالإضافة الى أبنائها من الذكور، وباختصار "العيلة كلها تشتغل على التنور" كما تقول. وتروي أم حسين التي تجاوزت سن الخمسين أن زوجها لم يرض في البداية أن تشتغل على التنور، قرب الأوتوستراد ولكن عندما رأى أوضاع العائلة الاقتصادية تسوء يوماً بعد يوم، سكت. "لولا التنور لكنا نمنا من دون طعام" بحسب تعبيرها. لا يتجاوز دخل تنور أم حسين 200 ل.س يومياً، السبب هو عدم وجوده في موقع استراتيجي عند مفرق طرق أو تحت جسر. لذلك تمتنع عن تقديم فطائر اللحمة والفليفلة بسبب غلاء موادهما، شاكية من الإتاوات الكبيرة التي تدفعها لموظفي البلدية، على رغم عدم وجود ترخيص للتنور، فضلاً عن فواتير الكهرباء والمياه، وضرائب البلدية التي تدفعها عن بيتها المغلق في القرية. جيرانها الفقراء يستدينون منها أحياناً، أرغفة قليلة من الخبز، لكنهم لا يدفعون ثمنها، وهي لا تطالبهم بالثمن بسبب طيبتها وطبعها الخجول. أم ياسر في وسط مدينة طرطوس، أنشأت أم ياسر تنوراً في قطعة الأرض المجاورة لبيتها وهو يقع بالقرب من سوق الخضار. تعمل أم ياسر "من طلوع الشمس حتى غياب الشمس" كما تقول. تساعدها في اعداد العجين وتهيئة الأرغفة للنار أختها الخمسينية، لا تحب أم ياسر خَبْزَ التنور، خصوصاً وأن قدميها لا تساعدانها على الوقوف طويلاً، لكنها مضطرة للعمل لاطعام أطفالها الصغار فرواتب أولادها المتزوجين قليلة جداً ولا تكفي لإطعام عائلاتهم. "لا أقوى على أي عمل سوى التنور، هل أذهب للعمل في الاسمنت والبناء، في لبنان"، بحسرة تقول أم ياسر "يلعن أبو التنور ويوم يومه". السائق حسن الذي ينقل الركاب من القرداحة الى اللاذقية، يرى أن الأغنياء من سكان المنطقة والسائقين والقادمين من مدن الداخل الى اللاذقية، في غالب الأحيان، هم الذين يشترون خبز التنور، أما الموظفون فلا يشترونه، بسبب غلاء سعره، فلم يحدث أن أوقفه أحد الركاب ليشتري الخبز أبداً. عودة التنور، مجدداًَ، وانتشاره على الطرق العامة، قد يعنيان من الناحية الشعرية الرجوع الى تفاصيل وروائح وأصوات وصور ويوميات من الحياة الريفية المنقرضة، أما واقعياً فتطرح بقوة مسألة الفقر، وعمالة النساء الكبيرات السن، اللواتي يضطررن الى العمل لانقاذ أسرهن من الوقوع في هاوية الجوع والعوز.