يستطيع الفنان غازي الخالدي إدخالنا إلى ثقافة بصرية مليئة بالحركة. فدمشق التي تشكل احدى أهم مواضيعه يحركها اللون أو الجسد البشري، أو حتى تشكيل الفراغ داخل اللوحة حيث تصبح الأزقة تكويناً ينقلنا الى عالم الحي وتفاصيله. الا أن ما يميز معرضه الأخير في صالة السيد بدمشق هي مجموعة التجارب التي قدمها عن الظلال، فهو يطرح الظل كلون مستقل قادر على خلق التعبير البصري في غض النظر عن أي تفاصيل أخرى للّوحة. وهذه المحاولات تأتي لتكرّس مذهب الفنان الانطباعي الذي سار فيه طويلاً منذ معرضه الأول العام 1950. والتجربة تكمن في إعادة صوغ الظل كلون منفرد وسحبه على كامل فراغ اللّوحة، فيبدو التشكيل من جديد وفق رؤية قادرة على طرح زوايا بصريّة مختلفة. وقام الفنان برسم اللّوحة الواحدة وفق ظلال متباينة ومتفارقة في بعض الأحيان، مستخدماً حياً دمشقياً أحياناً وبعض الوجوه في لوحات أخرى. لكن الإنطباع الخاص لأي تشكيل معروض من خلال هذه التجربة كان مستقلاً ومختلفاً، حتى عندما استخدم الفنان موضوعين متطابقين. وواضح ان التجربة الأكاديمية للفنان لعبت دورها هنا وخصوصاً أنه استاذ تاريخ الفن وفلسفة علم الجمال في المعهدين العاليين للمسرح والموسيقا. المعرض الأخير للفنان ينقلنا داخل اتجاهات متفاوتة، أراد بها الخالدي رسم انطباع عام للبيئة التي نشأ فيها، فهو يقدم مجموعة من الأعمال عن مصايف دمشق الغارقة في اللون الداكن، ويبرز فيها مساحة بيضاء عبر المنازل أو الاختلاطات اللونية في السماء، فتظهر الطبيعة انعكاساً لرؤية الفنان وما علق في مخيلته من ذكريات المكان. فهو مغرم بالتداخل اللوني داخل أفق يغيب فيه التمايز ما بين الجبل والسماء، أو ملامح القرى والسفوح التي تغيب وسط التفاصيل المتراكبة للطبيعة. وبهذا الأسلوب فإن البيئة هي لون حقيقي ينقل التفاصيل وفق انطباع الفنان للجغرافية التي يراها. ولكن الأمر لا يقتصر على الطبيعة المجردة، فالبيت الدمشقي يكون حالاً بصرية لها عمقها الخاص داخل ما يراه غازي الخالدي، إذ نقلها وفق تجربته كتشكيل يوحي بالاستقرار، فاختار الأحمر بتدرجاته المختلفة ليطبع الأشجار بلون خريفي. ويتبع تشكيل اللّوحة استمرار هذا اللون في عين الفنان، فالجدران الطينية هي في النهاية تتابع للتدرج اللوني القاتم. لكن الطابع الخريفي لا يضفي على لوحات مدينة دمشق حزناً أو كآبة، ولا يمنحها في الوقت نفسه حيوية أو فرحاً، بل نوع من الحركة البسيطة التي تعطي احساس الحياة العادية والمألوفة. فهناك دقة في نقل بعض التفاصيل في ألوان الأبواب أو أشكال "الليوان" أو حركة الماء داخل البحرة في منتصف الدار، أو حتى تشكيل الأغصان داخل البيت والتي تمنح العمل ككل حركة خاصة. بعض اللوحات في المعرض تظهر مألوفة لعين المشاهد، لأنها عبّرت عن مراحل متميّزة في مسيرة غازي الخالدي التشكيلية، إذ لا يشاهد البيئة بعيداً عن واقع عاش تفاصيله في دمشق. فهناك تاريخ يحكم المكان وتصبح المدينة غارقة في الغضب، ثم يظهر الوجه البشري فيها بما يولده أفق الشمس راسماً السماء باختلاطات لونية تزيح الزرقة الصافية، بينما الوجه البشري منشداً رؤية لا تبدو إلاّ عبر الضوء الخاص الذي يسلطه الفنان على تفاصيل الوجه، وعملياً فإننا أمام طفولة تطبع كل التفاصيل، ويبدو أنها تسكن مخيلة الفنان لتجعل الوجه البشري يحتضن البراءة. فتدرجات اللون الأزرق لأي تفصيل إنساني تضعنا أمام نقاء خاص في انطباعات الفنان لما يشاهده، وعلى رغم أن الجسد أو الوجه لا يظهر كثيراً في أعمال الفنان، لكن عندما يقوم بوضعه فإنه يبدو خارج الانسجام العام لمقاييس اللوحة، بما يوحي أن موضوع الإنسان يمكنه أن يغرق كل التفاصيل الأخرى للبيئة وما تخلفه من انطباع بصري.