أترك التعليق على أخبار واشنطن لزملاء يعرفون كل شيء، وأكتفي بمهاذرة القراء يوماً آخر، فقد شاركت في برنامج تلفزيوني عن اجتماع جنيف الراحل، وكنت أعتقد أنني جربت كل شيء في مجال الظهور على التلفزيون حتى كان الأسبوع الماضي. دعيت للمشاركة في البرنامج، وهو لمحطة فضائية خليجية، مع صديق في مصر وآخر في سورية. ولا أعرف كيف جلس الآخرون، غير أنني واثق من أنهم كانوا مرتاحين أكثر مني. وجدت نفسي في استديو في الطابق الخامس من بناية جديدة، له جداران من زجاج، ويطل على نهر التيمز، ومبنى البرلمان وساعة "بغ بن" المشهورة. وأجلست على مقعد خشبي رفيع طويل، من النوع المستخدم في البارات، وأمامي على الجانبين مجموعة من أنوار النيون محاطة برقائق من المعدن الفضي لتغطي على نور الشمس إذا أطلت من وراء الغيوم في الخارج. كانت مدة البرنامج ساعة، وجلست على ذلك المقعد الخشبي الرفيع الطويل ساعة ونصف ساعة، قضينا النصف الأول منها في تجارب على البث وبما انني لا أحمل كمية كافية من الشحم واللحم، فقد شعرت مع مضي الوقت بأن عظامي تداخلت بخشب المقعد. وكان المصوّر وضع في جيب بنطلوني جهازاً في حجم هاتفين محمولين فيه زر لضبط الصوت الآتي إليّ عبر سماعة في أذني. ومضى البرنامج بطيئاً والألم ينتقل من ظهري لعدم وجود ما أسنده عليه الى مؤخرتي على ذلك المقعد الخشبي الرفيع الطويل السالف الذكر. وكنت أنسى الألم عندما أفكر بالهاتفين المحمولين في جيبي، فالسترة جديدة، مستوردة من ايطاليا، وقد دفعت ثمناً لها نقداًَ نادراً جداً. وتأكدت مخاوفي في النهاية عندما وجدت ان جيب البنطلون ترهل وانتفخ وتغير شكله. لا أعتقد أن الفضائية الجانية ستدفع لي ثمن السترة، والواقع أني أرفض أن أقبض أجراً عن المشاركة، في أي برنامج اذاعي أو تلفزيوني. وكنت في البداية، وقبل انتشار الفضائيات العربية، أظهر في تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية، أو التلفزيون المستقل، ولما كان الظهور هذا لا يتجاوز دقيقة أو اثنتين، وأحياناً 30 ثانية، فقد كان الأجر يتراوح بين 30 جنيهاً ومئة جنيه على أعلى تقدير. ووجدت أن المحاسب الخاص سيكلفني أكثر من المبلغ المقبوض، وهو يحسب الضرائب، فأصبحت أكتب على كل شيك أتلقاه عبارة "أرجو التبرع بالمبلغ لجمعية أطفال"، وأعيده من حيث جاء، ثم جاءت الفضائيات العربية وأصبح الدفع أعلى، إلا أنني لم أقبض رغم الإغراءات، وبقيت أتبرع بالأجر لجمعية أطفال. في المناسبة، قال لي المحاسب الإنكليزي يوماً أنني مطالب بالضريبة حتى لو تبرعت بالمبلغ. وسألته لماذا ذلك، فقال ان الضريبة تحسب بمجرد ارسال الشيك اليّ، والمخرج أن أطلب قبل الجلوس في الاستديو أن يرسل الأجر مباشرة الى جمعية أطفال، فلا يسجل باسمي، حتى لو لم يدخل حسابي. المهم، كنت اعتقدت أنني خبرت كل شيء حتى كان الجلوس على مقعد لم أجلس على مثله في بار يوماً، ثم اضطرتني الى ركوبه "القضية". غير ان الجلسة لم تكن خسارة كلها، فأنوار "النيون" القوية المسلطة عليّ أكسبتني لوناً برونزياً جميلاً، ورآني الزملاء وحسدوني وهم يعتقدون أنني ذهبت الى جنوبفرنسا مرة أخرى. لم أذهب الى جنوبفرنسا أو شمالها، وانما ذهبت قبل أشهر الى استديو على الجانب الآخر للنهر، وكان صغيراً لا يتجاوز حجمه قنّ دجاج، وضعت فيه وأمامي كاميرا فوقها نور كأنه ضوء قطار هاجم باتجاهي. في مثل هذه الاستديوهات، لا يوجد عرب، فالفنّيون كلهم من الانكليز، ولا يعرفون شيئاً عن موضوع المقابلة. طبعاً هناك فضائيات عربية لها استديوهات كبيرة في لندن، وقد قضيت سنوات قبل أن أتعلم الوصول في سيارتي الى مبنى MBC الكبير، ثم سمعت أنهم قد ينتقلون الى الخليج أو لبنان. أما تلفزيون "الجزيرة" فوصول السيارة اليه في وسط لندن صعب، وركنها في الجوار مستحيل. الا ان هذا يهون مع البرامج، فأنا لا أشارك في برنامج لتلفزيون "الجزيرة" حتى أقع في مشكلة تستمر أشهراً. المشكلة مع التلفزيون ان المتحدث يفكر ويتكلم في الوقت نفسه، وقد يسبق لسانه عقله، فهو هنا مثل السكران الذي تجعله الخمر يقول الحقيقة. أما في الكتابة لصحيفة، فهناك دائماً وقت للتصحيح والتغيير والمراجعة والمشاورة. في الاستديوهات الكبيرة هناك دائماً عاملة تجميل، أكثر ما تفعل للرجال هو وضع مسحوق على الوجه لمنع اللمعان تحت الأضواء. وأنا أكره "البودرة" على وجهي، وشعاري "ايه تعمل الماشطة..." غير أنني عندما أجد عاملة تجميل جميلة أطالب بحقي من عنايتها. ورأيت واحدة من هؤلاء تدهن مقدم برنامج بالمساحيق الى درجة أن أصبح أجمل منها، وكدت أمسك يده وهو خارج من صالونها الصغير. وأسمع مع هجمة التلفزيون حديثاً عن أنه سيأخذ مكان الجرائد، الا ان هذا مستحيل لأنك لا تستطيع أن تلف السندويش بتلفزيون.