في مطلع الألفية الثالثة، تبدو القوى السياسية السودانية، شمالاً وجنوباً، حكومة ومعارضة، في قمة تشرذمها وانقساماتها، فهي مجذوذة كطير ابراهيم عليه السلام، من بعد أن صرّهن اليه البقرة/260 وجعل على كل جبل منهن جزءاً. جذاذ المؤتمر الوطني الحاكم: المؤتمر الوطني الحاكم منقسم على نفسه بين جناحين، أحدهما يقوده الرئيس عمر البشير، وقد أعلن هذا الجناح عن قوته وظهوره علانية في إجراءات الرابع من رمضان 12 كانون الأول / ديسمبر 1999 ولكنه يستمد ميلاده من خلفيتين، تتواصل الأولى وتتصل بالخلفية الانقلابية نفسها منذ 29 حزيران يونيو 1989 واستشعار العناصر الانقلابية النافذة بما تحملته من تبعات التغيير. وتتواصل الخلفية الثانية وتتصل بمذكرة العشرة من قيادتي الجبهة الاسلامية داخل المؤتمر الوطني، التي قُدِّمت بتاريخ 10 كانون الأول 1998، وللعشرة امتداداتهم داخل الحركة الاسلامية التي تهيمن على المؤتمر الوطني. وينضوي أكثرهم في ما أطلقت عليه سابقاً المنظمة داخل النظام - الحياة - عدد 12370 - تاريخ 9/1/1997. فبالرجوع الى نصوص تلك المذكرة نجد أن الرئيس البشير لم يفعل في الرابع من رمضان، وبعد عام من تقديمها، سوى تطبيقها حرفيّاً، وأن القوى نفسها التي تصدرتها بالتوقيع وساندتها في أروقة النظام هي ذاتها التي استنفرت نفسها لحماية متغيّرات رمضان. فما فعله البشير لم يتجاوز النقاط الأربع للمذكرة وهي نصاً: توحيد القيادة العليا واكسابها فاعلية ومضاء - تكريس العمل المؤسسي في المؤتمر رأساً وجسماً - توسيع الشورى وتيسيرها واكسابها معنى وأثراً - تحقيق الأساس الصحيح لوحدة داخلية منيعة. وهذه النقاط كافة تعني تحجيم سلطة الشيخ حسن الترابي ليس كرئيس للمجلس الوطني برلمان النظام أو كأمين عام للمؤتمر الوطني الحاكم فحسب، ولكن كزعيم متنفذ في النظام كله ومهيمن بقبضة فردية عليه، وهذا ما تم النص عليه في المذكرة بالقول: "قد عانت الشورى الداخلية في الحركة من مشكلات الاستعلاء والاستخفاف ومن عدم مرونة الهياكل الشورية لاستيعاب الآراء كلها". وتطرقت المذكرة الى جانب نقدها للشيخ الترابي وسعيها لتحجيمه الى أمر آخر أكثر خطورة وهو انبعاث دور الحركة الاسلامية مجدداً داخل المؤتمر الوطني حتى لا يكون بديلاً لها كما يريد الشيخ الترابي ضمن مخططه الانتشاري الخاص الذي يستهدف تذويبها في المؤتمر ثم الاستعلاء بالمؤتمر على الحركة الاسلامية، ويأتي النص في المذكرة واضحاً: "كما قلّت فاعلية قيادتنا العليا بسبب ترهل المنابر القيادية وانبثاق منابر قيادية أخرى خارج جسم الحركة لضرورة الحكم، ولضعف الصلة المؤسسية بين المستويات رأسياً وأفقياً، ولغموض العلاقة بين الحركة والدولة، حتى أوشك الأمر أن يكون تنازعاً، والتنازع لا يثمر إلا الفشل وذهاب الريح". فكل ما أحدثته متغيّرات رمضان من حل للمجلس الوطني وفرض لحال الطوارئ فيما ظهر للناس أنه قضاء على "الازدواجية" وتحجيم لهيمنة الشيخ الترابي ليس في حقيقته سوى العودة الى السلطة الفعلية للحركة الاسلامية بمعزل عن الشيخ الترابي ومؤتمره المتسع ومنابره المتعددة، وتكريساً لقوة العناصر الفعلية لانقلاب حزيران يونيو 1989. بمعنى أن "المنظمة داخل النظام" عادت أكثر قوة. فمذكرة العشرة في 10/12/1998 هي البيان الحقيقي لمتغيرات الرابع من رمضان 12/12/1999، أي عودة الحركة الاسلامية للحكم وبخلفية عناصرها الانقلابية، عسكرية كانت هذه العناصر أو مدنية. أما الجناح الثاني في جذاذ المؤتمر الوطني فهو الذي يتزعمه الترابي نفسه، مستنداً الى خلفيّات التأسيس التنظيمي والفكري والسياسي منذ تصدره للحركة الاسلامية في الستينات، مروراً بإقصائه للقيادات التاريخية الأخرى من زملائه التي كانت موازية له بثقلها التنظيمي والفكري وإن افتقرت للحيوية والحنكة السياسية كالدكتور جعفر شيخ إدريس والاستاذ صادق عبدالله عبد الماجد. وكذلك مروراً بفك الارتباط الذي أحدثه مع التنظيم العالمي للأخوان المسلمين. فالترابي إذ أقصى الموازين له داخل الحركة الاسلامية وحجّم الآخرين، وإذ خرج عن هيمنة التنظيم العالمي الذي يتحكم به المصريون أساساً، سعى دوماً لتحويل الحركة الاسلامية في السودان من تنظيم عقائدي الى حركة جماهيرية، متدرجاً بها من الأخوان المسلمين الى جبهة الميثاق 1964 - 1969 إلى الجبهة القومية الاسلامية 1985 - 1989 وأخيراً المؤتمر الوطني. يماثل في ذلك تماماً الكيفية التي أراد بها عبدالخالق محجوب التحوّل بالحزب الشيوعي السوداني الى حزب جماهيري منذ إصدار وثيقة "أفكار حول تحوّل الحزب الشيوعي" تحت شعار "اجعلوا من الحزب الشيوعي السوداني قوة اجتماعية كبرى" - ]نشرة الشيوعي - رقم 124 - كانون الثاني يناير 1963[. تطلع الرجلان، الترابي ومحجوب ]أعدم في انقلاب تموز يوليو 1971 الفاشل ضد نميري[ للخروج من الأسر التنظيمي والعقائدي المغلق باتجاه الاستقطاب الجماهيري الشعبي الأوسع، وكما عانى عبدالخالق مع الاتحاد السوفياتي وقتها الذي رفض تحولاته الجماهيرية عانى الترابي مع التنظيم العالمي للأخوان المسلمين وكما استأصل عبدالخالق وحجّم رفاقه الموازين له كذلك فعل الترابي، وتماماً كما عانى محجوب الردة عليه من داخل تنظيمه الشيوعي حين التحق القسم الأكبر من القيادات بحركة أيار مايو 1969 الانقلابية بمعزل عن مفهومه للتحول الشعبي الجماهيري، يعاني الآن الترابي من التحاق قيادات تنظيمه الفاعلة بالهيكل الانقلابي للانقاذ، مع الأخذ في حال هذه المقارنات ببعض الفوارق فنميري لم يكن شيوعياً ولكنه تحالف مع شيوعيين في انقلاب أيار 1969 كبابكر النور الذي تم إعدامه في عام 1971. في حين أن عمر البشير حركي واسلامي منظم. فإذا كان النميري خرج عن تحالفه مع الشيوعيين واليساريين عموماً بعد عام 1971 فإن البشير كرّس في متغيرات رمضان 12/12/1999 سيطرة التنظيم العقائدي المغلق، محجِّماً الترابي ونهجه، وكما أعدم نميري عبدالخالق جسدياً يتجه البشير لإعدام الترابي سياسياً. غير أنه لا عبدالخالق محجوب - رحمه الله - ولا الشيخ الترابي - أطال الله عمره - في توجهاتهما الجماهيرية واستقطاباتهما الشعبية، قفزاً على التنظيم العقائدي، كانا ذا توجه ديموقراطي، إذ ظلت المشكلة بالنسبة لهما أن عقائدية التنظيم وانغلاقه الحركي يحدّان من طموحاتهما القيادية الشعبية الأوسع التي تتكافأ في ما رأيناه مع قدراتهما ومواهبهما الذاتية والفردية بأكثر من التنظيم، وبما أن الاثنين الترابي وعبدالخالق عملا تحت مظلة انقلابية فقد كان العسكر هم الأقدر على الإفادة من التناقضات داخل التنظيم واستقطاب المتمردين على هيمنة الزعيم الفرد أو الشيخ. علماً بأن معاناة عبدالخالق كانت أكثر إذ نُفي واعتقل، ولم يمارس نفوذاً تنفيذياً. فمقتل عبدالخالق والترابي ينبع من سمة مشتركة بينهما، فكلاهما لم يتخذ من مفهوم التحول الجماهيري لحركتيهما هدفاً "استراتيجياً" يرتبط ببرنامج موضوعي لمرحلة محددة في التطور السياسي السوداني، الأمر الذي يفرض عليهما أداءً شعبياً ديموقراطياً حقيقياً. ويكون هذا الأداء الشعبي الديموقراطي الحقيقي هو ملاذهما في الأزمات سواء مع العسكر من جهة أو مع كوادر التنظيم العقائدي من جهة أخرى. محجوب أجهض في كل تكتيكاته بناء جبهة وطنية ديموقراطية حقيقية ولم يخرج إلا بصيغة الحزب الاشتراكي السوداني قصير الأجل في عام 1967. وكمثله، فإن الترابي إذ جعل من المؤتمر الوطني قاعدة فضفاضة لا ضابط ولا رابط لها إلا هو، فإنه أجهض أي تحوّل شعبي جماهيري حقيقي يمكن أن يلوذ هو به في النهاية، فابتدع فكرة التوالي السياسي وهي فكرة تكتيكية لا تستهدف الأداء الشعبي الديموقراطي بقدر ما تهدف لاستتباع الآخرين بمظهر ديموقراطي، بجعل الآخرين المتوالين محاور تدور حول مركزية المؤتمر الوطني، فيما يدور المؤتمر الوطني حول مركزية الزعيم الشيخ. كانت فكرة التوالي السياسي هي تكتيك الشيخ منذ أن تحالف مع نميري عام 1983 حيث ألقى بها عام 1984 في محاضرة في "معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية" في الخرطون إبان تقديم مشروع تعديل دستور السودان وبعنوان: "الشورى والديموقراطية: إشكالية المصطلح والمفهوم" ونُشرت المحاضرة لاحقاً في مجلة المستقبل العربي - عدد 75 - أيار 1985. فنظام التوالي السياسي كان معداً للتنفيذ تحت مظلة نميري بمنطق ديموقراطية الاستتباع والشورى غير الملزمة أي المُعلمة فقط. وبسقوط نميري طرح الشيخ التوالي السياسي مجدداً ميثاق الجبهة القومية الاسلامية في كانون الثاني يناير 1986 قبيل المرحلة النيابية الثالثة 86 - 1989 ثم أدرجه بعد الانقاذ في النظام السياسي بموجب دستور جمهورية السودان في آذار مارس 1998 وصدور قانونه ولوائحه التنظيمية والشروع في التسجيل بداية من 6 كانون الثاني 1999. فالتوالي السياسي لم يكن سوى ما كتبته عنه: "ثغرة في الحائط المسدود" وهي ثغرة "لا تتسع إلا للرؤوس الصغيرة" الحياة السودان ثغرة في الحائط المسدود الأعداد رقم 2/3/1264 تاريخ 10/11/12 - 1997. فبالتوالي السياسي أجهض الترابي قدرات القفز الحقيقية فوق التنظيم العقائدي المغلق المنظمة داخل النظام، وبما أنه استعلى على المنظمة واستخف بها كما ورد نصاً في مذكرة العشرة 10/12/1998 ومن دون أن يتيح للمؤتمر الوطني قدرات الفعل الشعبي الحقيقي فقد صُرع الشيخ سياسياً من جهات عدة. فلا التوالي السياسي بمنقذه وقد جعله محاور استتباع، ولا المؤتمر الوطني بمنقذه وقد جعله قاعدة بلا دور. ما بين الجناحين ثم هناك الفئة الثالثة ما بين جناحي الشيخ المتفرد والمنظمة داخل النظام، وهي التي تريد شد الحصانين الجامحين في اتجاهين متعاكسين الى مربط واحد وسط، لجنة رأب الصدع أو لجنة المعالجة الشاملة، التي يترأسها مدير جامعة أفريقيا الاسلامية العالمية البروفسور عبدالرحيم علي، فهذه الفئة لا تملك عضلات البطل الاغريقي الاسطوري هرقل لتسحب الحصانين الجامحين وبالذات حصان البشير الذي يجرها اليه بقوة دفعه حتى لا تكاد أقدامها تستقر على الأرض. لهذا كان غاية جهد هذه الفئة والمنبثقة من هيئة شورى المؤتمر الوطني التوصل الى قرارات في اجتماع كانون الثاني 2000 لا تضيف جديداً الى صلاحيات الرئيس ولا الى صلاحيات الأمين العام للمؤتمر، مؤكدة فقط على فصل السلطات ومنع الازدواجية الى حد ما. فالقرارات أقرب ما تكون الى هدنة مؤقتة دافعها الأساسي الحرص على وحدة التنظيم الاسلامي وحتى ليس الحرص على وحدة المؤتمر الوطني الذي لا يعدو كونه - كما ذكرنا - قاعدة فضفاضة لا دور جذرياً لها. فمتغيرات رمضان أعادت نظام الانقاذ الى مربعه الأول كيفما كان حاله في حزيران 1989، منظمة الجبهة الاسلامية بخلفيتها الانقلابية، وتنظيمها المغلق ولكن من دون الترابي، وسيكون لهذه المتغيّرات منعكساتها عن قريب، فمذكرة العشرة التي هي أساس المتغيرات لم تتطرق من قريب أو بعيد لتصحيح الأوضاع السودانية في ظل الانقاذ أو مراجعتها، تماماً كما أن الترابي في خلافه معهم لم يتطرق من قريب أو بعيد لأزمات السودان في ظل الانقاذ. أما ما ظهر من انفراجات سياسية نسبية، داخلية كانت أو خارجية، سوقتها متغيرات رمضان لصالحها فإن لها شأن آخر سنفصله لاحقاً. * سياسي ومفكر سوداني.