معظم مظاهر العولمة الحالية سطحي ومرتبط بشكل أو بآخر بالاستهلاك والهيمنة. ومن بين هذه المعالم الشركات الأخطبوطية مثل الكوكا كولا والماريوت والماكدونالد والمارلبورو و"السي. إِن. إِن." والبنك الدولي والشركات متعددة الجنسية والمدارس الدولية والإنترنت. وبعض هذه المعالم، مثل الإنترنت، يمكن أن يُوْجِدَ أجواء ووسائل تساعد على التقارب بين البشر، ولكنه لا يمكن أن يفعل ذلك من تلقاء ذاته بل يحتاج إلى تدخل جدّي وجهد متواصل من قبل الذين ما زالوا يعتبرون المحافظة على الطبيعة والعلاقات بين البشر من الاولويات في الحياة. وتشكل هذه العلاقات عولمة من نوع آخر، والتي هي موضوع هذا المقال. ولكن قبل الانتقال إليها، من الجدير ذكره أن ما تشترك فيه العولمة الحالية مع الكولونيالية القديمة هو الادعاء بأنها على رغم ما تحمله من سيئات إلا أنها تحمل في طياتها "رسالة إنسانية"، والتي تعطيها المبرر الفكري والأخلاقي، وهذه الرسالة هي تمدين العالم خارج أوروبا وأميركا الشمالية. وهذا الادعاء بالذات هو الذي يبرر إسقاط حلول وأطر جاهزة على مجتمعات العالم الثالث، سواء أكان ذلك الإسقاط من أشخاص خارج المجتمع أم من داخله. أما العولمة على الصعيد الآخر، والتي أشرت إليها سابقاً، فقد بدأت قبل العولمة الحالية بألفي سنة على الأقل، وبدأت في منطقتنا بالذات. ربما كان أول دعاتها المسيح عليه السلام الذي وجّه دعوته إلى جميع البشر، فرفض مقولة الشعب المختار وأكد وحدة الإنسانية والمساواة بين الناس. فكانت دعوته للناس، إلى جميع الناس، أَنْ "أحبّوا بعضكم بعضاً". إلا أن الداعية الرئيسي للمسيحية بعد المسيح، وهو بولس، وجّه اهتمامه نحو اليونان وروما، ولم يتوجه شرقاً. في المقابل، كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم موجهة أيضاً إلى البشرية جمعاء، وذهب بها فعلاً نحو العالم المعروف في زمانه. ودعاء "اللّه أكبر" يعني من بين ما يعنيه أنه لا يوجد إنسان صغير وإنسان كبير في عين الله. كانت القيم الجوهرية في الدعوتين المساواة والمحبة بين الناس والعدالة بين الشعوب ووحدة الكون ووحدة الحياة، والدفاع عن الحق والحقيقة، حتى لوأدى ذلك إلى الموت. ولعل أشهر من دفعوا حياتهم ثمناً للدفاع عن الناس والحق هم المسيح والإمام الحسين سلام الله عليهما. هذه العولمة ذات البعد الإنساني منسية ومهملة حالياً، فسوسة "الشعب المختار" والسيطرة دخلت عقول وسلوك الكثير من الناس على اختلاف توجهاتهم، ونراها في عصرنا الحاضر، تارة باسم التنمية والتقدم والإعلانات الدولية، وتارة أخرى باسم القومية، وتارة ثالثة باسم الدين، تُفسِّخ مجتمعات عاشت آلاف السنين وتقضي على التنوع فيها. هذه العولمة الإنسانية مرتبطة بقيم أخرى ونهج آخر. فكرم النفس واستضافة الغريب بما في ذلك الأفكار الغربية والصداقة والمحبة والتكافل بين الناس والشعور بالمسؤولية نحو الآخرين ونحو الطبيعة تقع جميعاً في صلب هذه العولمة، وبالتالي تستبطن قيم التوافق والتنوع والاستمرارية في المجتمع والحياة. في عالم يُفرَّغُ فيه كل شيء من جوهره ومضمونه، ويندثر فيه التنوع في المجتمعات البشرية، ويُسلب فيه الإنسان من حريته باستثناء حريته كمستهلك بما في ذلك استهلاك التعابير والأفكار ومن قيمته وخبراته ومقوماته ومقدراته، ويكتسب فيه احتلال العقول والنفوس والبطون انتشاراً متسارعاً، وتندثر فيه روح الجماعة والمجتمع وتتقطّع أواصر المودة والمحبة والتكافل" في عالم يصبح فيه الإنسان وما ينتجه سلعة تعتمد قيمتها على نجاح عملية تسويقها أكثر من أي شيء آخر ... في عالم كهذا، تكتسب القراءة والتعبير التأملي عن الخيرات، والعمل ضمن مجموعات صغيرة، والحوار، وبناء معان ومفاهيم وفكر، أهمية قصوى. وأعني بالتعبير التأملي التعبير الذي يربط الفكر بالعمل والسياق والنهج، أي التعبير الذي يعكس واقع شخص معين في موقع معين، التعبير الذي يجيب على التساؤل: ماذا أعمل؟ ولماذا؟ وماذا أريد مما أعمل؟ وكيف يرتبط ما أعمله بخبرات الآخرين وبالصورة الأكبر؟ أقول، في عالم كهذا، لا بديل للقراءة في حماية حرية واستقلالية الإنسان، ولا بديل للتعبير في إلغاء التهميش واستعادة القيمة لكل شخص وفي حماية التنوع، كما أنه لا بديل للتعبير بالنسبة لدوره في بناء المعاني والمفاهيم والفكر، وبالتالي في الإنتاج الحضاري. كذلك، لا بديل للمجموعات الصغيرة بما في ذلك - ولعل أهما - العائلة في عمل ما هو ضروري عمله، لا بديل للعائلة كموفِّرة وحامية لفسحة إنسانية يتنفس فيها الإنسان قيماً غير قيم السوق والاستهلاك. كذلك، لا بديل للحوار في التعامل والبناء الفكري والمجتمعي، ولا بديل للحضارة كبوتقة تتفاعل فيها كل هذه العناصر. ولعل أكثر التعابير سهولة للنقل هو التعبير الكتابي. من الجدير بالذكر هنا أنني عندما أتكلم عن القراءة والكتابة فإنني لا أتكلم عن مهارتين آليتين وإنما عن بذرتين فيهما مقومات الحياة والبقاء والبناء والاستمرار. ومن الجدير ذكره هنا أيضاً التأكيد على أن الكتابة التأملية، بسبب ربطها الفكر بالعمل والسياق والنهج، تركّز على البناء والعمل وما هو إيجابي، وبالتالي تتضمن وجود أمل، وليس على سرد سلبيات وحاجات ومشكلات. فالقراءة والكتابة المرتبطتان بعملية بناء هما فِعلُ محبة وفعل صلاة وفعل إيمان، هما فِعلُ تواصل مع الذات ومع الآخرين، وفعل ترابط وتلاقٍ مع المحيط المعاش: هما فِعلُ ولادة وإنتاج. بالمقارنة بعولمة الهيمنة والتي تعتمد بالدرجة الأولى على ما هو نادر وشحيح مثل المواد الخام، فإن مكوّنات العولمة ضمن التوجه الإنساني تعتمد على المقومات الموجودة بوفرة لدى الأفراد والمجتمعات، سواء بشكل فعلي أو كامن، ولعل أهم ما هو متوافر من وجهة النظر المطروحة هنا هو خبرات الناس، إذ لا يوجد شخص في العالم يفتقر إلى وجود خبرات لديه! من هنا، يشكل ما ذكرته أعلاه كالقراءة والتعبير والحوار وبناء فكر وسائل متوافرة ولكن غير مستغلة. أي أن المتوافر لدى الناس هو الأساس، وأن ما نحتاجه في عملية البناء وغير متوافر يمكن الحصول عليه ودمجه. ولعل أحد التحديات التي تواجهنا كبشر في القرن القادم هو كيف يمكن أن ندمج بين هذه العولمة على المستوى الإنساني والعولمة التي فتح آفاقها التقدم التكنولوجي. هل بإمكان العولمة الإنسانية أن نجد فسحة في عالم اليوم أم أن العالم قد بُرمج باتجاه عملية تمزيق العلاقات بين البشر وتلويث الأرض إلى غير رجعة؟ إن الجواب على التحدي المطروح يعتمد على عدد وجدّية الأشخاص الذين يرفضون وضع رؤوسهم في الرمال، ويصرّون على أن الأمور تتحسن والتي من الممكن ان تكون صحيحة على المدى القصير وعلى مستوى بعض المظاهر، فالمصائب تحدث عندما تبدو الأمور وكأنها تتحسن في الظاهر بينما يضرب بها العفن في العمق. ربما يكون أخطر ما يرافق العولمة الحالية، كما ذكرت سابقاً، هو تهميش الغالبية الساحقة من الناس ومنحهم وسيلة وحيدة لتأكيد وجودهم وقيمتهم ألا وهي قدرتهم على الاستهلاك، هناك مَثَلٌ افريقي يقول: "آخذ فأنا موجود" أُعطي فأنا محترم ومقدّر". إن معظم برامج التنمية والتطوير السائدة حالياً، بما في ذلك التعليم، تعامِل الناس على أنهم في حاجة للأخذ بينما ليس لديهم شيئاً يعطونه. كيف يمكن التعامل مع قضية التهميش هذه، والتي - كما يظهر - تزداد يوما بعد يوم؟ إذا تأملنا في ما حصل خلال الخمسين سنة الفائتة، من الواضح أن التعامل مع هذه القضية لن يكون عبر الصراخ والمطالبة واقتناء بعض مظاهر عولمة الهيمنة والاستهلاك وملاحقة سراب الأيديولوجية السائدة، وإنما يكون من طريق استعادة الشخص لعلاقته مع الموقع والمكان الذي يعيش فيهما ومع الناس الذين يعيش ويعمل ويتعامل معهم. وهذا يعني أن نقطة البداية هي ظروف الناس وأعمالهم وخبراتهم وتعابيرهم ومعارفهم واجتهاداتهم وقناعاتهم وطرقهم في تلبية حاجاتهم. هذا صحيح سواء أكان بالنسبة للأطعمة التي نأكلها، أو المواد التي ندرّسها، أو القضايا المختلفة التي نتعامل معها. فمثلاً، إذا اهتم بعض منا بموضوع الإبداع، فالطريق ضد التهميش لا يبدأ بترجمة نظريات حول الإبداع نبعت في مكان آخر ولأغراض أخرى، فندرس مدى ملاءمتها لنا ونحاول تطبيقها وكأنها المرجعية الوحيدة، وإنما نبدأ بما نلاحظه من نفحات إبداعية فينا وفي من حولنا من الصغار والكبار، وهي بالآلاف، وتشكل الأساس الذي يمكن أن نبني عليه ما نقرأه أو نسمعه من الآخرين. فأن يقرأ الإنسان عن نظريات الآخرين حول الإبداع يلاحظ الإبداعات من حوله، والموجودة في أعمال الناس، وفي أعماله وتعابيره هو نفسه، فإنه ينسف القاعدة التي يمكن أن يبني عليها مفهوماً وإدراكاً عميقاً وأصيلاً عن الإبداع، ويعود إلى عملية التقليد والاجترار وهي عملية أبعد ما تكون عن الإبداع. لم أقابل حتى الآن، على سبيل المثال- وأنا أعمل في التربية منذ أكثر من ثلاثين سنة - طفلاً في الثالثة من العمر لايبدع يومياً! كذلك، وكمثل ثان، إذا اهتم بعض منا بموضوع الإدارة، فعدم التهميش يعني أن لا نبدأ بنظريات جاهزة في الموضوع ومن ثم محاولة تطبيقها بغض النظر عن السياق والمعطيات، وإنما نبدأ بملاحظة ما هو موجود بوفرة في مجتمعات كمجتمعاتنا مثل ظاهرة إدارة الأم لشؤون العائلة. لماذا لا نلاحظ هذا النوع من الإدارة، والذي يعيشه الملايين من الناس ويحتاجون له يومياً، في معظم المجتمعات، والتي من دونها يتهدّم المجتمع، ونعطي قيمة فقط للإدارة المرتبطة بالربح والسوق والسيطرة؟! من الواضح أننا نحتاج إلى النوعين. وليس من الحكمة في شيء إذا أهملنا أياً منهما. فالمقدرة الإدارية لدى شخص تعكس مقدرته على التعامل مع وضع ما ضمن معطيات وإمكانات معينة. أعط خبيراً في الإدارة، مثلاً، 12 طفلاً وغرفتين ضيّقتين ودخلاً متواضعاً وظروفاً سيئة ووضعاً اجتماعياً خانقاً كما هو الحال بالنسبة للغالبية الساحقة من الأمهات في العالم واطلب منه أن يدير شؤونهم يومياً، 365 يوماً في السنة، وسنة تلو الأخرى، بحيث يدير الشؤون المالية والعاطفية والمكانية والنفسية، وشؤون التنظيف والأكل إلخ، ولنرَ ماذا سيفعل" ماذا سيكون موقفه وماذا ستكون توصياته وما هو مدى فاعليته؟ أعود لأؤكد أنه إذا لم نلاحظ ونكتب عن هذه الخبرات اليومية ونجعلها جزءاً من النقاش فإننا نخسر القاعدة الأساسية لأية عملية بناء فكري أو مجتمعي. من الصعب أن نتكلم عن تطور فعلي إذا لم يرافقه أو يسبقه مشاركة فعلية من الناس على مستوى التعبير والتفكير، أي إذا احتوت المكتبات العربية، مثلاً، على ملايين المجلدات ولكنها بقيت خالية من كتب تعكس خبرات أصيلة في المجتمعات العربية. إذا بقيت خبرات العرب في قلوبهم ونفوسهم وذاكرتهم وعلى ألسنتهم، ولم تُدوّن وتصبح ملكية عامة، فمن الواضح أن الشباب العربي سيبقى فريسة سهلة لما يُكتَب بالإنكليزية والفرنسية والألمانية، عن شعوب أخرى ومواقع أخرى وسيعيش بلا جذور. إن خلو المكتبات العربية من كتب كهذه لا يعكس عدم وجود مادة أصيلة نكتب عنها وإنما يعكس عدم أخذنا لخبراتنا وتعابيرنا على محمل الجد. من الضروري والممكن جداً نشر كتب تعكس خبرات عربية في التعليم والاقتصاد والدين والسياسة والفن والمجتمع والثقافة والزراعة والإبداع والإدارة والتربية والحياة اليومية إلخ لا يوجد مبرر معقول واحد لعدم توافر كتب تعكس قصصاً عن أطفال حقيقيين في مجتمعات عربية. ولا يوجد مبرر معقول واحد لعدم توافر كتب عديدة تعكس خبرات أناس عملوا فترات طويلة في المجال الاقتصادي أو التربوي أو السياسي أو الثقافي أو الفني أو الإعلامي. إذا لم نستخرج الكنوز البشرية الخبراتية الفكرية الهائلة في المجتمعات العربية من طريق التعبير عنها، فإنها ستكون كنوزاً ضائعة وسنبقى في تعابيرنا وأفكارنا وأعمالنا كالببغاوات نعيد ما يقوله الآخرون ونقلد ما يفعله الآخرون وإذا وجد شخص صعوبة في رؤية الزخم الهائل الموجود فإن ذلك عائد إلى الغشاوة التي تغطي أعيننا وإلى المصفاة التعبيرية والذهنية التي تحدد إدراكنا وتفكيرنا. الاستراتيجية المطروحة هنا من أجل المحافظة على العولمة على المستوى الإنساني مبنية على حقيقة بسيطة ولكنها مهملة. وهي حقيقة ذو شقين: الشق الأول يكمن في أن ما يقارب من 80 في المئة مما نستهلكه لا نحتاجه، والشق الثاني هو أن ما يقارب من 80 في المئة مما نحتاجه لبناء عالم أكثر إنسانية وسعادة متوافر وموجود في حوزة الناس أو في متناول أيديهم. إن برامج التنمية السائدة ضمن العولمة السائدة لا تهمل فقط مقومات الناس وإنما تحاول تحطيمها عندما يكون من الصعب إهمالها. ولعل أحد أوضح وأخطر الأمثلة على ذلك هو المشروع الذي يدعمه البنك الدولي حالياً والمتمثل بمحاولة إقناع العرب أن مشكلاتهم في التعليم نابعة من واقع وطبيعة اللغة العربية. توجد تحديات في اللغة العربية نحتاج إلى مواجهتها، إلا أن لوم اللغة بالنسبة للمشكلات في التعليم هو مثل حل مشكلة وجود قمل في شعر طفل من طريق قطع رأسه! ومن الجدير بالذكر هنا أن هناك محاولات عديدة لمعالجة هذه التحديات، على مستوى الأفراد ذات أساس فكري وحضاري، أذكر منها مؤسسة تامر في فلسطين، والتي تعمل منذ العام 1992 على نشر "جواز سفري للقراءة" والذي يوجد منه حالياً ما يزيد عن مئة ألف جواز في أيدي الأطفال في جميع أنحاء فلسطين، والجمعية العربية لتشجيع القراءة في منطقة الخليج والتي تعقد مؤتمراً سنوياً في البحرين حول الموضوع، ومدارس الظهران الأهلية في السعودية، وسبك حكاية في جامعة إبن زهر في أغادير في المغرب، والجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية في الكويت. ومن بين هذه المحاولات على مستوى الأفراد أذكر عبدالله الدنان من سورية وعمله المتعلق بتعليم اللغة الفصحى للأطفال دون السادسة من العمر إلى جانب اللغة المحكية وطلال الحسيني من لبنان والذي يبني منهاجاً متكاملاً لتدريس اللغة العربية من خلال جمالها من طريق الشعر. أما بالنسبة لموضوع القيم والتي تشكل بُعداً هاما في العولمة الإنسانية فمن الضروري أن لا ننسى أن الغرب معروف بعمله وتكنولوجيته ولكن ليس بحكمته. ففي نهاية كل نشرة أخبار، مثلاً، توجد نشرة عن حال الأسهم والسندات وعن صحة الدولار في ذلك اليوم، أو حتى في تلك اللحظة، ولكن لا توجد نشرة تخبرنا عن صحة الأطفال وعن حال الهواء والماء في ذلك اليوم، أو تخبرنا عن كمية النفايات المرتبطة بالمدنية والعلوم والتكنولوجيا، والتي طُمرت ذلك اليوم داخل الأرض أو تسربت إلى الهواء مثل الكميات الهائلة من الكيماويات، ومثل بطاريات السيارات والنفايات النووية. وربما يكون من المناسب هنا ذكر عبارة "غوستافو إستيفا" من المكسيك والذي قال: إذا اتبع العالم بنجاح النموذج السائد في النمو الاقتصادي فإننا نحتاج إلى 5 أو 6 كواكب لتكون مصدر مناجم لنا ومقراً للنفايات التي ننتجها. إن التلوث الحقيقي حول العالم ليس نتيجة الجهل والتخلف وإنما جاء مرافقاً للطريقة التي اتُّبعت في بناء العلوم والتكنولوجيا وفي النمو الصناعي والاقتصادي، والتي نبعت من الافتقار الى الحكمة في المجتمعات الغربية. إن ثَقْبَ الأوزون، مثلاً، ليس وليد تصرفات الدول "النامية" وإنما الدول "المتقدمة". وخوف الأطفال من اللعب في الشوارع لا يحدث في مدن العالم الثالث، في القاهرة مثلاً، بل في مدن العالم الأول مثل لندن ونيويورك من الجدير ذكره هنا أن القاهرة تُعد آمن مدينة كبيرة في العالم!. في عالم أصبح فيه سعر الماء أعلى من البنزين، وتوافره أصعب من البنزين، من الطبيعي أن نقلق وأن نتساءل. في عالم تسيطر فيه قيم الربح السريع والاستهلاك، من الطبيعي أن نسأل كيف يمكن أن نحافظ على أمور لا يمكن تحويلها إلى ربح أو إلى سلع استهلاكية؟ مثل الصدق في التعبير والتعامل، ومثل حب الأطفال والإصغاء إلى فتى أو فتاة، والتكافل بين الناس، ومثل الصداقة والكرم والالتزام بقضية والتمسّك بمبدأ، مهما كانت الإغراءات. فجزء كبير من كوارث البشر في المستقبل ستنبع في رأيي من حقيقة أشرت لها سابقاً ألا وهي التحسن في الظاهر والعفن في العمق. السؤال الجوهري هو: كيف نُترجم هذه الأفكار إلى عمل؟ ما هو بعض نقاط البدء؟ هنا سأذكر بعض ما يمكن عمله، بالاعتماد على ما هو متوافر، وما يمكن أن يسهم في عملية البناء على مستويات عدة. وحتى لا أكون واعظاً، سأذكر أمثلة أقوم بمتابعتها شخصياً أو بالتعاون مع أفراد ومجموعات أعمل معها: 1 تبنّي "جواز سفر عربي موحّد للقراءة". وهناك عدة مؤسسات وتجمعات موجودة حالياً في العالم العربي يمكن أن تكون بمثابة "العمود الفقري" لهذه العملية، ذكرت بعضاً منها سابقاً. 2 تبنّي كراس لكتابة يوميات، يكون موحّداً على مستوى العالم العربي. 3 دعوة الكتّاب والكاتبات في العالم العربي إلى الكتابة عن حياة أطفال حقيقيين في مجتمعات عربية بهدف نشرها وحتى ترجمة بعضها إلى لغات أخرى. 4 تبنّي مؤسسة، إحدى الجامعات العربية مثلاً، أو مؤسسة متخصصة ومتفرغة لتشجيع أكبر عدد ممكن من اصحاب الخبرات المميزة لكتابة قصص حياتهم من أجل نشرها. 5 عقد مؤتمر في القاهرة يتمحور حول "ماذا تُعلّمُنا القاهرة"؟ فالقاهرة تمثل في رأيي أكبر كنز بشري على مستوى مدينة في عالم اليوم، فالقاهرة مجتمع نادر يمكن أن نتعلم منه الكثير، ولكن يمزّقه حالياً بالتدريج ما يسمى ببرامج التنمية. وربما تكون كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وبالذات الدكتور علي الدين هلال الدسوقي، أكثر المواقع تهيُّئاً لعقد مثل هذا المؤتمر. * جامعة هارفارد - الولايات المتحدة