أمر ملكي.. الموافقة على النظام الأساس لمستشفى الملك خالد التخصصي للعيون ومركز الأبحاث    قطار الرياض.. 85 محطة منها 4 رئيسية تعزز كفاءة التنقل داخل العاصمة    دوري روشن: ديربي القصيم يبتسم للتعاون بهدف دون رد امام الرائد    المركز الإعلامي في حلبة كورنيش جدة.. مجهر العالم لسباق سال جدة جي تي 2024    إحباط محاولتي تهريب أكثر من 480 ألف حبة «كبتاغون» في منفذي جسر الملك فهد وميناء ضباء    مطارات الدمام تشارك في المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير    القبض على مصري في الطائف لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    مجلس الشؤون الاقتصادية يتابع خطوات استقرار أسعار السلع    «سلمان للإغاثة» يدشن المشروع الطبي التطوعي لجراحة العظام في بورتسودان    جامعة الملك عبد العزيز تكمل استعداداتها لإطلاق مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية    "الشؤون الإسلامية" تودع أولى طلائع الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين إلى بلدانهم    الجيش السوري يجهّز لهجوم مضاد في حلب    موعد مباراة الاهلي والاستقلال في دوري أبطال آسيا للنخبة    الذهب يرتفع مع تراجع الدولار    "ميسترو".. يوصي بالذكاء الاصطناعي لتحسين العلاج الإشعاعي    اعتقال أكثر من 100 محتج خلال احتجاجات مناهضة للحكومة بجورجيا    قرية القصار التراثية.. مَعْلَم تاريخي وحضاري في جزر فرسان    «الداخلية»: ضبط 19024 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الفنون الشعبية والتراثية تُثري فعاليات حائل    الكشافة السعودية تستعرض تجربتها في مكافحة التصحر بمؤتمر COP16    هل بدأ زيلينسكي مرحلة تقديم التنازلات؟    "التعاون الإسلامي" تشارك في اجتماع التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في بروكسيل    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    ختام نهائيات الموسم الافتتاحي لدوري المقاتلين المحترفين في الرياض    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    نائب رئيس مجلس الإفتاء السويدي: المملكة ناصرة للدين الإسلامي    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"قيمة كل امرئ ما يحسن". وقائع وتأملات حول اللقاء الأول ل"الملتقى التربوي العربي"
نشر في الحياة يوم 14 - 12 - 1999

أود أولاً التعليق على العنوان، "قيمة كل امرئ ما يُحسن"، وهي عبارة منسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. قرأت هذه العبارة لأول مرة قبل سنة تقريباً وقد أثارتني جداً واعتقد أنها من أجمل ما قيل في التربية. بل أجد فيها المبدأ الذي يمكن أن يكون الأساس للتربية العربية في القرن القادم. وما يدهشني ويحزنني هو مدى الهدر الذي أضعناه كأمة، طوال عقود إن لم يكن قروناً من الزمن، في التفتيش عن نهج للتعليم العربي، بينما يوجد لدينا مثل هذا الأساس منذ أكثر من 14 قرناً! وبينما كنت أبحث عن عنوان للكتيب عن لقاء لبنان تذكرت هذه العبارة وكيف أنها تلخص فكرة وروح "الملتقى التربوي العربي" بشكل صادق ورائع. فأحد الأسئلة الرئيسية التي يمكن أن تلخص نهج الملتقى هو: ماذا تُحسن عمله؟ وكلمة "الحُسن" هنا تشمل المعاني المتعددة التي تتضمنها الكلمة في اللغة العربية، ألا وهي معنى الإتقان ومعنى الجمال ومعنى العمل الحسَن للمجتمع. فقيمة الشخص حسب هذه العبارة محكومة بما يُحسنه الشخص في العمل والقول والفكر والمعاملة، محكومة بالمعاني المتعددة المذكورة أعلاه، وليس برموز مثل العلامات أو الشهادة أو الوظيفة أو الشكل أو الممتلكات.
تجمَّع خمسة وعشرون شخصاً من عشر دول عربية في فندق "البستان" ببيت مري بلبنان، من 20 إلى 23/5/1999، حول موضوع التعلم والتعليم في الوطن العربي. بهذه العبارة ينتهي وجه الشبه بين اللقاء المشار إليه واللقاءات السائدة عادة. فباستثناء أنه مؤتمر وأن موضوعه التعليم، كان اللقاء في لبنان مختلفاً بشكل جذري في عدة نواحي.
ضم اللقاء، مثلاً، مجموعة متباينة جداً من الأشخاص، من حيث الخلفية والمواضيع والمواقع، وحتى الأعمار. ضم مثلاً وزير تربية ورئيس جامعة سابق في الكويت، وتربوياً يعمل مع أطفال لا يذهبون الى المدارس في صعيد مصر، ورئيس هيئة تربوية في لبنان، وأساتذة جامعات في عدة مجالات العلوم الفيزيائية والعلوم الاجتماعية والتربية من السعودية ولبنان والأردن، وتربوية تعمل مع جامعي القمامة في القاهرة، وعميد كلية تربية في الأردن، ومديري ومعلمي مدارس من لبنان واليمن والسعودية والبحرين، ومدير مبرات للأيتام في لبنان، وتربوياً يعمل على تعليم اللغة الفصحى لأطفال دون السادسة من العمر في سورية، وطالبة تعمل مع الأطفال في مخيم للاجئين، وأشخاصاً من مؤسسات أهلية يعملون في مجال العمل المجتمعي، التعبيري والفني والصحي والإعلامي، في فلسطين ولبنان ومصر.
ربما يتساءل القارئ كما تساءل بعض المشاركين في بداية اللقاء: ما هو القاسم المشترك بين هذا المزيج الغريب والمتنوع جداً من الأشخاص؟ كيف يمكن أن يتم حوار فعّال وبنّاء في مجموعة متباينة الى هذا الحد؟ ماذا يمكن أن يخرج من هكذا تجمع؟
ربما يبدو لأول وهلة وكأنه لا يوجد أي شيء مشترك بين الذين شاركوا في اللقاء. إلا أننا إذا نظرنا الى الأمور من وجهة نظر "الملتقى التربوي العربي" فإننا نجد عدة أمور مشتركة وهامة جداً، بالرغم من أنها عادةً مهملة. فالمشاركون مشتركون، أولاً وقبل كل شيء، في أنهم غير مهزومين نفسياً. والهزيمة النفسية هي التي تعكس اقتناعاً بأنه لا يوجد لدى الشخص أو المجتمع أي شيء أصيل وذي قيمة يعطيه للآخرين، وأن كل ما عليه أن يفعله حتى يخرج من الحالة التي هو فيها هو اتباع نموذج جاهز "والذي يكون عادة ذا بريق وهّاج. الهزيمة النفسية هي استبدال العمل والأمل بتحليلات للأوضاع غير نابعة من خبرات وتجارب حقيقية، وبانتقادات للظروف غير مرتبطة بعمل أو ممارسة، وبتحقيرات للذات والحضارة والمجتمع. كل المشاركون مشتركون من حيث أنهم يعملون بدلاً من أن يشكوا أو يطالبوا أو يوصوا أو يصدروا فتاوى حول الحلول. كذلك، فإن المشاركين مشتركون من حيث أنهم يربطون ما يقولونه بما يفكرون به وما يعملونه وبالسياق الذي يعيشون فيه. وهم مشتركون أيضاً من حيث أنهم يرون ما هو ايجابي ومتوفر، ويبنون عليه، بدلاً فقط من سرد قوائم من الحاجات والمشكلات والنواقص وما يجب عمله. كل منهم مندمج في محاولة صادقة للقيام بما يعتقد أن من الضروري القيام به، ويستطيع عمله، ضمن سياقه وخبرته ورؤيته للواقع وموقعه منه.
من هنا، لي تعليق سريع على التساؤلات المذكورة في الفقرة ما قبل السابقة. الغريب ليس في عقد تجمّعٍ متنوع كما حصل في لبنان، وانما الغريب كل الغرابة أن نستمر في عقد مؤتمرات تتكلم فيها كل مجموعة مع نفسها، وتكرّس بالتالي العزلة بين الفئات والمجالات المختلفة في المجتمع، وتلغي الحوار المجدي من أساسه. اذ كيف يمكن أن يتم حوار ذو معنى إذا بقي "متخصصاً" وضيقاً ومتقوقعاً؟! لا معنى لحوار حول التعليم إذا لم يشمل مختلف المجالات والأبعاد والفئات. والغريب كل الغرابة كذلك، أننا ورثاء حضارة كانت الأسبق في خلق حوار وبناء فكري بين شعوب وحضارات العالم المعروفة آنئذ، من الصين شرقاً الى الأندلس غرباً، كانت الأسبق الى خلق حوار جمع بين مختلف المجالات في الحياة. ما فعلناه في لبنان هو محاولة متواضعة للبدء باسترجاع تلك الروح.
كذلك، فقد كان اللقاء في لبنان مغايراً لما هو مألوف بالنسبة لعقد مؤتمرات من حيث أنه لم تكن هناك أوراق رئيسية ومتكلمون رئيسيون يتكلمون لأغلبية تبقى صامتة تسمع، وانما اعتبر كل شخص متكلماً رئيسياً ضمن السياق الذي يعيش ويعمل فيه، وضمن الرؤيا التي ينطلق منها. فقدم كل مشارك عرضاً موجزاً لما يقوم به، كان يتبعه نقاش.
كذلك، ومن ناحية ثالثة، فقد كان اللقاء في لبنان مغايراً لما هو مألوف إذ عُقد دون توفر ميزانية ودون توفر جهاز إداري للتحضير له. واستشير المدعوون حول المسألة وكان حماسهم لعقد المؤتمر مذهلاً كما كان التكافل أثناء المؤتمر مؤثراً جداً. فقد قام بعضهم بتأمين المبلغ اللازم لمشاركتهم شخصياً، وقام بعض آخر بتغطية تكاليف مشاركة آخرين. كذلك، قامت إحدى المشاركات بتغطية العجز المتبقي في نهاية اللقاء. كما قامت مخرجة سينمائية بالتبرع بوقتها وأجهزتها وفريقها وبثمن الأفلام لتصوير جزء كبير من اللقاء. كذلك قامت صحافية، بشكل تطوعي أيضاً، بتسجيل وتلخيص ما قدمه المشاركون. كما قامت متطوعة ثالثة أثناء اللقاء بأعمال كانت ضرورية لسير العملية بشكل سليم. هذا بالطبع الى جانب برنامج الدراسات العربية المعاصرة بجامعة هارفرد والهيئة اللبنانية للعلوم التربوية. كذلك لن أنسى جميع الذين استضافوني في بيوتهم في مصر والأردن ولبنان أثناء زياراتي لتوضيح الفكرة والتحضير للمؤتمر. بهذا المعنى، كان اللقاء تجسيداً حياً لقيم الكرم والصداقة والتكافل والتعاون والتي عادة تُهمل في الحديث عن الصفات الجوهرية في التعليم. كان ذلك التجسيد دون تخطيط، إذ كيف يمكن أن يخطط الكرم والصداقة والتكافل والتعاون؟! فهي أمور تخرج من القلب والمشاعر، ومن العمق الحضاري.
من ناحية رابعة، لم يكن هناك هدف محدد للقاء بالمعنى الضيق للكلمة. فاللقاء كان تجسيداً لفلسفة "الملتقى التربوي العربي"، والذي يطرح نهجاً وليس منهجاً، يفتح طريقاً ولا يحدد طريقة. ما هو ضائع في رأيي منذ فتح "محمد علي" باب العصرنة قبل ما يقارب من مائتي عام هو الحديث عن النهج، اذ كان التركيز بشكل رئيسي على المنهج وعلى التطبيق. والفرق بين النهج والمنهج هو أن النهج يبدأ بقيم ومبادئ تحكم الفكر والعمل بينما المنهج يشمل عادة مضموناً وأهدافاً محددة، والتي تعكس عادة عن غير وعي نهجاً معيناً، إلا أنها تركز بالدرجة الأولى على تفاصيل المضمون وطرق التدريس والتقييم. كان اللقاء تجسيداً لنهج "الملتقى" وبالتالي لم يهدف الى طرح أي جواب جاهز أو نموذج محدد.
من ناحية خامسة، شمل كل عرض موقع ودور الشخص في العمل أو المشروع المعروض، وحلمه حول المستقبل، ولم يدّع موضوعية مصطنعة ومزيفة. فالحياة وحدة متكاملة يكون الشخص والتاريخ والعمل والغرض والسياق والحضارة وما يجري في أماكن وأزمان أخرى، جميعاً، عناصر يكمل بعضها بعضا، ضمن كل متكامل نرسمه في أذهاننا باستمرار، على المستويين الشخصي والجماعي. بعبارة أخرى، إذا نظرنا الى كل شخص/ مؤسسة كنبع أو كجدول، فإننا نكون قد بدأنا في لقاء لبنان بتجميع أولي لبعض الينابيع والجداول من أجل تكوين "نهر" عربي في التعليم. بالطبع، ما زال النهر صغيراً، مكوّناً من حوالى عشرين جدولاً. لذلك نرحب بكل "الجداول" في العالم العربي من أجل إغنائه، نرحب بكل شخص أو مجموعة ليأتوا بخبراتهم وتعابيرهم لتصبح جزءاً من عملية البناء التعبيري والفكري والاجتماعي والروحي.
من ناحية سادسة، كان لقاء لبنان مغايراً لما هو مألوف من حيث إثارته موضوع القيم والمعايير ومعايير المعايير التي تحكم فكر وعمل الأشخاص، وأهمية عدم اهمال هذا البعد الجوهري على الأقل في التربية. إلا أننا لم نستطع التعمق والاسهاب في مناقشة هذه الأبعاد لضيق الوقت ولضرورة إعطاء هذه الأبعاد التفكر الذي تستحقه، وبالتالي تُركت للمتابعة في المستقبل. ولعل من الجدير هنا ذكر الكرم ووحدة الحياة والكون كقيم تميز الحضارة العربية، وبالتالي يكون من الطبيعي التساؤل عن كيف يمكن أن تكون هذه القيم محورية في الفكر والعمل التربوي العربي. ما معناها ضمن سياقنا الحالي.
من ناحية سابعة، لم يطلق اللقاء أحكاماً حول أي التجارب المعروضة كان صائباً وأيها كان خاطئاً، أو أيها أفضل وأيها أسوأ. فالصواب والخطأ وصيغة التفضيل صفات ربما يكون لها معنى ضمن سياق معين وليس ضمن نهج كما هو الحال في "الملتقى". لم نكن بحاجة لكلمات مثل تجربة ناجحة وتجربة فاشلة، إذ كانت القيمة الأساسية هي التعلم. وغالباً ما تعيق هذه التصنيفات التواصل والتعلم. فكل تجربة هي تعلمية إذا عُبّر عنها وتمّ حوار حوالها.
بعبارة أخرى، لم نضع المشاركين في مفاضلة خطية رأسية وانما نظرنا إليهم كموزاييك، بحيث يشكلون معاً عناصر في لوحة فيها صدق وجمال وأمل. فمن وجهة نظر الملتقى، كل تجربة لها قيمتها وموقعها، وبالتالي تُغني وتُغنى من التجارب الأخرى، أي تضيف بعداً للصورة الذهنية التي يكوّنها الأفراد والمجموعات والمجتمع عن الواقع. هذا لا يعني أن جميع التجارب متكافئة وانما يعني أنها مختلفة، يحدد أهميتها ومعناها القارئ أو السامع حسب حاجته وموقعه. بهذا المعنى، يمكن النظر الى اللقاء وكأنه مائدة وضع كل شخص عليها طعامه، وأخذ كل منا ما احتاج اليه وما طابت له نفسه، ليملأ بها صحنه قبل أن يعود الى بلده. وهذا البعد في اللقاء جعل المشاركين يشعرون براحة، يعرضون ما يقومون به من أعمال دون الشعور بأنهم داخلون في منافسات رخيصة حول مكاسب رمزية. تعلمنا أن نحكم على الشخص وعمله وفكره ضمن سياقه وليس ضمن سياقنا، وضمن معاييره وقيمه ورؤياه. تعلمنا أن دورنا كان في اصرارنا على المتكلم أن يوضح لنا كيف يرتبط ما يعمله بفكره وأيضاً بالسياق الذي يعيشه وبالمعايير والقيم والرؤيا التي يسترشد بها.
ومن ناحية ثامنة، لم ينته اللقاء بتوصيات ومطالب، كما هي العادة، وانما انتهى بصداقات والتزامات وتصميم على متابعة العمل والبناء. والبناء الذي بدأ في لقاء لبنان شمل المستوى التعبيري والفكري والاجتماعي والروحي. فالملتقى ينظر الى الناس على أنهم بانون ومنتجون على هذه المستويات، وليس فقط مستهلكين. ومن بين مظاهر البناء أثناء اللقاء كان تكوين صداقات التي تعكس بناء على المستوى الاجتماعي والروحي. ومن بين مظاهره أيضاً، البدء ببلورة معان بديلة لكلمات مألوفة، ويمثل مثل هذه البلورة جزءاً هاماً من عملية البناء على المستوى الفكري. فهذا المقال، مثلاً، يعكس مفهوماً لكلمة مؤتمر مغايراً لما هو سائد. كما يعكس مفهوماً لكلمة تعليم أوسع بكثير مما هو مألوف. فبعض الحضور مثلاً تساءل في بداية اللقاء عن علاقة بعض المشاركين بموضوع التعليم. إلا أنه بعد العروض بدا واضحاً ضرورة توسيع مفهومنا عن التعليم ليضم تجارب ووجهات نظر ربما تختلف عنا، وغير مألوفة لدينا، إلا أنها تشمل فئات وأبعاداً غائبة من سياقنا الشخصي، وغائبة من الاطار الضيق والخانق لمفهوم التعليم السائد حالياً. كل خبرة أضافت بعداً جديداً للمصطلحات والمفاهيم التي نستعملها وللصورة الشخصية التي نحملها عن الواقع وأيضاً للصورة الجماعية التي بدأت تتكون. انتعشنا بوجود التنوع ومارسنا، بذلك، المعنى العميق للديموقراطية، من حيث احتواء خبرة وتعبير كل شخص في الحوار وفيما يتبلور من فكر، وأيضاً من حيث الروح التي سادت والعلاقات التي نمت والتنوع الذي قوبل بشغف واستمتاع وإلهام.
ومن ناحية تاسعة، ركز عدد من المشاركين على ناحيتين: أهمية وضع جهد لتجنُّب الزهق والملل اللذين يرافقان عادة جو المؤتمرات، وضرورة أن لا يكون المؤتمر نهاية لنشاط أو يكون نشاطاً منعزلاً في الزمان والمكان، وانما يكون حلقة في عملية مستمرة من التعبير والتواصل والحوار والبناء. وقد كان اللقاء بالفعل حلقة في عملية بدأت قبل اللقاء، وما زالت مستمرة، وستستمر في المستقبل. كذلك فقد عبّر أكثر من شخص عن ضرورة تجنب أي بنية أو نشاط للملتقى ربما يبدو مغرياً لأول وهلة، إلا أنه يمكن أن يؤثر على روح الملتقى.
وأخيراً، لا بد من التأكيد على أن الاختلاف الذي ميّز اللقاء في لبنان لم يكن بهدف أن نكون مختلفين، ولم يكن انعكاساً لصفة عشوائية، وانما كان انعكاساً وتجسيداً لنهج "الملتقى".
يتمحور نهج "الملتقى" حول احترام خبرات الناس مهما كان موقعهم، واضفاء شرعية على طرق المعرفة - بكل تنوعها - لفهم الحياة.
يبدأ الملتقى بالاقتناع أن داخل كل انسان بذرة، وأن دور الملتقى هو البحث عن البذور التي لم تمت في نفوس الناس. ومثل هذه البذور عادة اما ان يُزهر ولكنه يبقى منعزلاً لا يعرف به أحداً، أو أنه يبقى كامناً يحتاج الى جو ملائم لكي ينمو ويُزهر. ودور الملتقى هنا هو تهيئة أجواء وايجاد وسائل تساعد مثل هذه البذور على الإزهار والانتشار.
يركز "الملتقى" على الأمل المتضمن في الأعمال والمبادرات الريادية في المجتمع، ويعتبرها جزءاً هاماً من الأساس في عملية بناء الفرد والمجتمع. من هنا، فإن أحد الأسئلة الجوهرية في "الملتقى" هو ليس "ماذا يجب عمله؟" وانما "ماذا أعمل بالنسبة لما اعتقد أن من الضروري عمله؟" أي، عدم وعظ الآخرين بما يجب أن يعملوه وانما قيام الشخص نفسه بما يستطيع هو عمله والتعبير عن ذلك ونشره.
إلا أن "الملتقى" ليس فقط عبارة عن تجميع ونشر معلومات حول مبادرات ريادية في المجال التربوي وانما أيضاً توجهاً ونهجاً في النظر الى الحياة والتعلم والتطور والبناء. فإذا استعرنا صورة الجداول، فإن الغرض من لقاء لبنان لم يكن فقط التعرف على الجداول الموجودة وانما أيضاً البدء بتكوين نهر مشترك في التعليم. فالنهر ليس إلغاء للجداول الموجودة، بل لا وجود للنهر أصلاً بدون الجداول، فهو يتغذى منها وينمو بها، ولكنه في نفس الوقت يروي أناساً ومساحات جديدة ظمأى للماء.
بعبارة أخرى: ان منطلق "الملتقى" بسيط جداً ألا وهو أن أي حل حقيقي ومستديم يكون الناس بُناته. وعملية البناء هذه تتم عن طريق قيام الناس في مختلف المواقع والمجالات بالتأمل في ما يعملونه والتعبير عنه، وعن دورهم وموقعهم منه، ضمن التوجه الذي يرونه للمستقبل. الماضي مورد، والغرب مورد، والشرق مورد، وكل ما أُنتج في أماكن وأزمان أخرى عبارة عن موارد. ولكنها ليست نقاط بداية وليست حلولاً جاهزة. ويمكن التعرف عليها جميعاً من خلال وسائل عدة لعل أهمها القراءة والتحادث. إن البدء بنموذج جاهز مهما كان مصدره، أو البدء بنقطة خارج الناس وسياقهم، هو وصفة قاتلة لأساس وروح أية عملية بناء في المجال البشري والانساني والمجتمعي، وبوجه خاص في التعليم. من هنا فإن نقطة البداية بالنسبة "للملتقى التربوي العربي" هم الناس الذين يعيشون في الوقت الحاضر، والسياق الذي يعيشون فيه، والأعمال والخبرات التي يمرون فيها، وتعابيرهم ومداركهم وتفاسيرهم وإبداعاتهم. إذ كيف يمكن أن يسهم الانسان في عملية البناء الذاتي والمجتمعي إذا بدأ بالغاء تجربته، وتهميش فكره وتعبيره، ونسيان تاريخ حياته؟! باختصار، يشكل كون الناس بناة لأي تطور حقيقي ودائم المبدأ الرئيسي في نهج "الملتقى التربوي العربي". ويشكل التأمل والتعبير والقراءة والحوار أسس هذا البناء.
ربما من الجدير التأكيد عليه مرة ثانية هو أنه تماشياً مع المبدأ الأساسي في نهج "الملتقى"، فإن كل شخص مدعو في أي وقت يشاء أن يتأمل ويتفكر في ما يعمله وما يختبره، وأن يعبّر عن ذلك ويرسله الى "الملتقى" لنشره وايصاله الى الآخرين حتى يصبح جزءاً من الحوار العام. ف"الملتقى" هو منبر مفتوح، إذ أن بناء المجتمع لا يكون سليماً إذا استثنيت خبرة أحد. فكل مبادرة، إذا بقيت منعزلة عن "الجداول" الأخرى لا تلبث أن تجف وتندثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.