قبل سنوات، سنوات قليلة مضت، كان القارئ العربي لا يعرف ان يحدد بينه وبين نفسه اية مجلة ثقافية او فكرية يقرأ، ويتساءل كيف يمكن له ان يتابع كل هذه الاصدارات الثقافية التي تطالعه بصورة منتظمة بعضها شهري وبعضها فصلي وبعضها يصدر كل شهرين. وقد كان القاسم المشترك بين هذه المجلات هو تمتعها بالرصانة والقدرة على جذب القارئ المثقف وإشباع رغبته في التعرف على ما يدور حوله من نقاش وصخب فكريين في الوطن العربي والعالم. شعر، والآداب، وأدب، ومواقف، والكرمل، والمنار، وقضايا وشهادات، والمهد، وعدد آخر من المجلات، التي توقفت بعضها منذ سنوات تاركاً فراغاً كبيراً في المشهد الثقافي العربي، هي الدوريات الثقافية التي تطورت الانواع الادبية المختلفة على صفحاتها كما خاض المثقفون العرب معاركهم الصاخبة على ارضها. السبب الفعلي الكامن وراء توقف هذه المشاريع هو انقطاع التمويل الذي كانت توفره جهات سياسية في الغالب ثم قررت إيقافه ظناً منها ان الثقافة ترف يمكن الاستغناء عنه او شيء زائد يمكن التخلص منه تحت ضغط التقشف وشد الاحزمة على البطون. الضحية في هذا الخراب هي الدوريات الثقافية التي تركت علامات مميزة في الثقافة العربية المعاصرة، والضحية من ثم هي القارئ المتعطش لما يروي ظمأه المعرفي. والمشكلة التي تواجه القارئ العربي الآن هي ان عدد المنابر التي تغلق ابوابها اكثر بكثير من المنابر التي تؤسس، هذا إذا ضربنا صفحاً عن الفارق في المستوى بين ما يغلق ابوابه وبين ما يخطو خطواته الاولى من مجلات ودوريات جديدة. لقد ربط تطور الشعر والقصة والرواية في مراحل تاريخية بعينها بمجلات كان لها دور كبير في احتضان الحركات الطليعية وتيارات التجديد في هذه الفنون الادبية، ولعبت مجلات مثل الآداب وشعر ومواقف، في العقود الاربعة الماضية، دوراً كبيراً في تطوير الثقافة العربية والارتقاء بمستواها بما اثارته من جدل وحوار بين التيارات الثقافية المختلفة. لهذا السبب فإن المرء يشعر بالحزن والاسف عندما تتوقف مجلة مهمة عن الصدور لأسباب مالية صرف وليس بسبب شعور القائمين على إصدارها انها استنفدت الدور الذي كانت تقوم به على مدى الفترة التي كانت تصدر خلالها. ومع ذلك فإن احتجاب أية مجلة مميزة هو خسارة كبيرة لا يشعر بها الا من يعرفون تماماً انه على صفحات المجلات قد تتشكل شخصيات امم او تيارات ثقافية على الاقل. إن السوق الثقافية في الوطن العربي لا تخلو من مشاريع تولد، ومجلات وصحف تصدر، ونحن نسمع كل يوم عن مشروع إصدار مجلة في هذا البلد العربي او ذاك، او حتى عن إصدار مجلات ودوريات عربية في عوصم البلدان الغربية. ثم ما نلبث ان نسمع بتوقف هذه الدوريات عن الصدور بعد أعداد قليلة، هذا إذا قيض لها أن تستمر بعد عددها الاول. والآفة التي تقف وراء انبعاث الدورية العربية وسرعة موتها واندثارها هي نفسها، إذ لا تستطيع الدورية المتخصصة ان تمول نفسها ذاتياً لغياب الإعلان عن صفحاتها أولاً، وعدم قيام الجامعات والمؤسسات التعليمية والثقافية في العالم العربي بإقتناء هذه الدوريات من خلال الاشتراك الذي يوفر في الغرب معظم الكلفة لهذا النوع من الدوريات المتخصصة التي تتوجه الى قطاعات بعينها من قطاعات المجتمع. إن سرعة توقف الدوريات الثقافية، والمتخصصة منها، مؤشر خطير على ضعف مؤسسات المجتمع التعليمية والثقافية، وعلى غياب الإحساس بضرورة تداول المعرفة لضمان نمو المجتمعات وتطورها ومواكبتها روح العصر.