في النصف الاول من هذا القرن، وحتى في الخمسينات والستينات منه، كان هناك ما يمكن تسميته بالمجلة الثقافية المركزية في الوطن العربي. ويمكن ان نضرب امثلة على ذلك مجلات "الرسالة" و"الاديب" و"الآداب" و"شعر" وعدد آخر من المجلات التي استمرت تصدر لفترة من الزمن ثم توقفت عندما تغيرت المشاريع الثقافية وووهنت المجلة عن متابعة دورها كمنبر حي للنقاش واثارة القضايا الثقافية الاساسية التي كانت تشغل المثقفين في الفترة التي توقفت فيها المجلة. وقد واصل بعض هذه المنابر الثقافية الصدور على رغم ضعفه، واصبحت تلك المنابر هامشية تتغذى على افكار الماضي ومشاريعه الآفلة، وتحولت الى تمثيل الفكر المحافظ بعد ان كانت تمثل فكر الطليعة والتغيير والتحول المضاد في المجتمع. وهكذا اصبح الطريق سالكاً امام منابر ثقافية اخرى تحمل هموم العصر وانشغالات مثقفيه لتبدأ هذه المنابر مرحلة جديدة من التواصل او الانقطاع مع ما سبقها. ان بالامكان من هذا المنظور التأريخ للحركات الثقافية من خلال المجلات ودورها في اثارة الجدل حول القضايا المركزية التي تشغل بال جماعة بشرية او قومية محددة. ولا يمكن لمجلة ان تحوز مثل هذا الدور المركزي الا اذا استطاعت التقاط نبض عصرها وايقاعه الصاخب، واعتنقت رسالة التعبير عن ذلك العصر وتجلية آفاقه والتبشير بأحلامه. وبغض النظر عن مستوى النقاش الذي كان يدور على صفحات المجلات الثقافية العربية، التي صدر بعضها في القاهرة وبيروت وبغداد، فان ما يحسب لها هو انها استطاعت ان تجمع على صفحاتها أقلام كتاب ينتسبون الى معظم البقاع العربية، ويحملون الهموم الثقافية والمعرفية والسياسية نفسها تقريباً. لقد كان العصر العربي، وصولاً الى أفق الستينات والسبعينات، نابضاً بالشعور بوحدة الاهداف الثقافية، بل السياسية. ولذلك كان بامكان المنبر الثقافي ان يحشد على صفحاته اقلام كتاب عرب ينتمون الى جغرافيات عربية مختلفة. ولم يكن التباين في الانتماء الفكري يمنع هذه الاقلام احياناً من الكتابة في مجلة بعينها لأن هناك افقاً واسعاً من اللقاء حول الاهداف الاساسية المشتركة. الآن غابت هذه المجلة المركزية، وضعف دور ما واصل الصدور منها او انه تغرب عن اهدافه ومشاريعه الاولى، ولم يعد هناك في العالم العربي مجلة ثقافية يمكن القول انها ذات مشروع مركزي يلم حوله اعداداً كبيرة من المثقفين الحالمين بالتغيير. وحتى المجلات التي حاولت لعب هذا الدور، مثل "مواقف" التي انشأها ادونيس او "الكرمل" التي انشأها محمود درويش، عجزت عن تحقيق احلامها بسبب حال التفتت والانقسام وغياب الاهداف المشتركة، وازدياد النزوعات القطرية وتغلغل هذه النزوعات في تفكير المواطنين والجموع الشعبية قبل السلطات الحاكمة العربية. وعلى رغم صدور عدد كبير من المنابر الثقافية، في عواصم عربية مختلفة، وتبني عدد من هذه المنابر افكار التغيير والدفاع عن قضايا ذات طبيعة سياسية ثقافية قادرة على جمع كثير من الانصار والمحازبين حولها، الا ان ذلك ظل مجرد مشاريع محدودة الاثر في الحياة الثقافية العربية. وفي المحصلة النهائية فإن غياب المنابر الثقافية المركزية يؤدي الى ضعف الحوار والجدل حول القضايا التي تشغل الحياة الثقافية العربية. وينبغي ان لا يغرنا العدد الذي لا يحصى من المطبوعات التي تصدر الآن في البلاد العربية، فرقعة توزيعها جد محدودة، وتأثيرها في تحريك النقاش والجدل والحوار، حتى حول المسائل التقنية الصغيرة شبه غائب. ولقد اصبحنا، لهذا الغياب الفادح للمجلات الثقافية التي يتحلق حولها المثقفون العرب، ولاسباب اخرى غير ذلك، بعيدين بالفعل عن مشروع عصر التنوير العربي الذي امتدت ذيوله واضواؤه الشاحبة الى افق السبعينات!