ربما يصلح وباء الملاريا للتعبير عن القصة الطويلة للعلاقة الصعبة والمعقدة بين الاجتماع الانساني وشروطه ومفاهيمه وعلاقاته وبين المرض كظاهرة في علاقات الكائنات الحية بعضها ببعض. امتزجت الملاريا بالصورة التي رسمها الغرب وروّج لها لاحقاً لأفريقيا، حيث الغابات الكثيفة والحرارة الرطبة الشديدة اللزوجة والمستنقعات التي تبث روائح كريهة وتحوّم فوقها أسراب البعوض. تلك صورة في عين المكتشف والفاتح المستعمر الذي يمدّ نفوذه وناسه ومصالحه عابراً فوق الجغرافيا وما تحتويه من ثقافات وخصوصيات. وتحوّلت البعوضة الى رمز لتوتر العلاقة بين الأوروبي الأبيض والقارة الافريقية. ما أن تلسع البعوضة القادم من الغرب حتى تعتريه الحمى، وربما دخل في هذيان وانتهى الى الموت. وتلك بعض ملامح الصورة التي رسمت مراراً وتكراراً عن افريقيا، بدءاً من الكتب ومروراً بالسينما والتلفزة. عرف طب الأوبئة بدايته الأولى مع ظاهرة الانتشار والتوسع الأوروبي باتجاه باقي العالم. وسمي ذلك الطب أولاً ب"طب المناطق الاستوائية"" وكانت الملاريا أول ما وصف في أسفار طب الأوبئة. ومن المفارقة أن الأبرز في الوبائيات الحالية هو الإيدز" وأنه يثير نقاشات حول أصله ونشوئه لا تخلو من بعض العنصرية في اتهام الأفارقة كمصدر للوباء. ومع أن الإيدز يحصد الأجساد حصداً في القارة السمراء، إلا أن أضراره ما زالت دون ما تسببه الملاريا وما أحدثته عبر التاريخ. وتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية الى أن الملاريا تقتل ما يزيد عن مائتي مليون انسان في كل عام، ومعظمهم من الأطفال دون سن الخامسة. وفي تاريخ البعوضة الناقلة للوباء، أنها قتلت شخصاً من كل اثنين على سطح الأرض. وتتغذى البعوضة القاتلة" من نوع الأنفوليس على المستنقعات حيث الحرارة والرطوبة تعطي هواء خطراً، هو جذر تسمية Malaria أي "الهواء الفاسد". وتقتات الأنوفليس على طفيلي هو البلازموديوم Plasmodium" ويوجد أربعة أنواع من البلازموديوم أخطرها وأكثرها انتشاراً الفالسيبوريوم. تملأ الأنوفليس جوفها من الفالسيبوروم ثم تلاقي جلد الانسان وتغرس سنها فيه وتفرغ ما في جوفها من طفيليات قبل أن تشرع في امتصاص الدم. وإذا ما شبعت دماً، انتقلت الى شخص آخر لتضرب إبرتها مجدداً وتنقل البلازموديوم من المصاب الى الأصحاء. وفي طفرة الحداثة" وعد العلم بالقضاء على الملاريا عبر رش المبيدات، لكن النتيجة كانت سلبية. تضررت التربة والنبات والتجمعات البشرية، من المبيدات، من دون أن تفلح في قتل البعوضة. والمفارقة العميقة أن الأنوفليس سارت صوب تنمية مناعتها ضد المبيدات، فيما أصيب البشر بأول وباء يستهدف مناعتهم" أي الإيدز. وأخيراً، تمكن بعض البحاثة الفرنسيين من ملاحظة الوسيلة التي يضرب بها الأنوفليس مشيمة الحوامل" مما يتسبب بالاجهاض أو بولادة أطفال منخفضي الوزن، مما يعرضهم للأوبئة والأمراض ويضعف من فرص الحياة. ومن المعروف أن بلازموديوم الملاريا يهاجم الكريات الحمراء ويكسرها، مما يسبب في تضخم الطحال وتكوّن بعض الجلطات التي تضرب الأعضاء الحيوية في الجسم. ويؤدي التكسر السريع في الكريات الحمراء الى ظهور الاصفرار المرافق للمرض" وإلى الإضرار بالكبد. وتمكن الفريق الفرنسي من دراسة الكيفية التي يهاجم بها البلازموديوم المشيمة، وذلك عبر دراسة شملت ألف وخمسمائة امرأة حامل في الكاميرون. ولاحظ الفريق ان البلازموديوم يدفع الكريات الحمراء دفعاً نحو المشيمة، وذلك عبر انتاج مواد جزيئية تلتصق بالكريات المصابة وبالمشيمة في الوقت نفسه. ويؤدي الأمر الى تلاحق مستمر بين الكريات الحمراء المكسّرة وبين أنسجة المشيمة. ويُعرف هذا التلاحق ب"ظاهرة تلاحم الخلايا" ويؤدي الى تحوّل المشيمة الى نقطة جذب للكريات المريضة. ويفضي تراكم الكريات الى تعطل العمليات الحيوية للمشيمة تمثل تغذية الجنين وتقوية الدورة الدموية. ومن البديهي أن يفضي ذلك الى موت الجنين أو ضعف بنيته فيولد بوزن ناقص. وأشار برتران موبير" من الفريق الفرنسي، الى أن الدراسة نسقت بين المعهد الفرنسي للصحة والأبحاث الطبية وبين منظمة مكافحة الملاريا في وسط افريقيا. ومن المتوقع نشر هذا البحث في مجلة "بارازيت إيمونولوجي". وكذلك أن يسهم في الجهود المبذولة منذ 1987 لإيجاد لقاح فعّال ضد الملاريا. * طبيب من أسرة "الحياة"