كثير من الذين يهاجرون لأسبابهم المختلفة هم الذين درسوا في الخارج. ولكن أسارع لأوضح ان ليس كل من طلب الدراسة في الخارج راغب في الهجرة. بل اغلبهم يغتربون في البدء لمتابعة الدراسة الجادة فقط، ويعتبرونها فترة مرحلية يتحملون فيها فراق احبتهم ويختارون التغرب عن اوطانهم في مقابل الحصول على الكفاءة والمهارات العلمية التي تقدمها مؤسسات الدراسة الغربية ولا توفرها مؤسسات الدراسة المحلية في الجامعات والمعاهد الوطنية. معظم الذين يختارون الدراسة العليا في الغرب هم الذين يدركون ان محيطهم المحلي لا تتوافر فيه الوسائل العلمية المتطورة وأجهزة التقنية الحديثة. وكثير منهم، بسبب مرحلة السن يتزوج هناك! وكثير منهم يظل ولاؤهم لأوطانهم حتى حين يعودون ليجدوا فرص العمل قاصرة عن طموحاتهم وجو العمل مليئاً بالتناحر وبعيداً من الالتزام المهني وأدبيات الوظيفة، ومقر العمل مفتقراً الى الوسائل الحديثة التي اعتادوا استخدامها وفاعليتها. ثم فوق ذلك المردود المادي ضعيف وفرص الترقية محدودة ومحاصرة بالروتين والمحسوبية. مقارنة بذلك، كل من يتخرج من جامعة ممتازة في الغرب يجد افضلية للتوظيف في الشركات الكبرى والمؤسسات العالمية والجامعات، حيث المرتبات مغرية وفرص الترقية خاضعة لما يبذله هو من جهد شخصي وما يظهره من تميّز في العمل. ولننظر اخيراً الى الجانب الثاني من الصورة لعلنا نتعلم شيئاً يفيدنا مستقبلاً في سياساتنا. الدول التي تسمح بالهجرة تنتقي من بين الملايين الذين يتقدمون اليها من حملة المؤهلات والمهارات. فهي لا تفتح تكية للتنابل ولا ملجأ للمجرمين الهاربين، بل تتيح فرصة للعيش الكريم والعطاء. وهي بالدرجة الأولى ترغب في مواطنين يضيفون الى مستقبلها بقدر ما تمنحهم من هذه الفرص. فهل نحن العرب اكفاء لمنافستها في ما تقدمه من وعود مغرية لاستقطاب الراغبين في الهجرة بحثاً عن آفاق اوسع؟ هل نحن قادرون على اعداد الفرص امام النابغين من شبابنا وعلمائنا لكي لا يحتاجوا الى الاستجابة لإغراءات الهجرة؟ وماذا فعلنا لعلماء المسلمين الذين شتتتهم الصراعات والحروب والتصدعات السياسية في اوطانهم؟ علماء شرق أوروبا كثير منهم من المسلمين، نوابغ التقدم العلمي في ما كان من قبل الاتحاد السوفياتي، ونجوم وأعمدة نهضته العلمية والتقنية والبحثية. وهم يعانون منذ انهدّ الاتحاد وفقدوا مواقع عملهم وعيشهم فماذا فعلنا لهم؟ فقدوا فرص العيش الكريم والنمو العلمي والانجاز والعمل حين اصبحت مساقط رؤوسهم في البوسنة والهرسك والشيشان متهمة بالانفصالية، وانتماءاتهم خاضعة للمساءلة ومدنهم في صراع مع الغالبية غير المسلمة: الصرب والروس. فهل سارعنا لتقديم فرص الهجرة وتسهيل منحهم الهوية الثبوتية وتبنينا احلامهم وكرامتهم، فحميناهم من طرق بوابات الغرب المرحب بهم، وأدخلنا مهاراتهم وقدراتهم وتخصصاتهم في خطة بناء الوطن، ومنحناهم وطناً؟ اسئلة يجب ان نضعها امام أعيننا ونحاول الاجابة عليها بصدق موضوعي وباعتراف بالأوضاع قبل ان نلوم دول الهجرة لأنها تسرق العقول والمواهب، وقبل ان نتبرأ من أولادنا الناجحين هناك.