لم يشكل فوز الاصلاحيين في الدور الأول من الانتخابات التشريعية الايرانية مفاجأة، كان انتصاراً منتظراً ومتوقعاً لأنه ينسجم مع ما يمكن أن اسميه بقوانين تاريخية. فرجال الدين الايرانيون المتزمتون، أو من يطلق عليهم بالمحافظين، كانوا ثوريين قبل وقوع الثورة الاسلامية في ايران وأثناءها. شكلوا حالة قطيعة مع الحكم الامبراطوري الشاهي المحافظ. ونفس الثوار مع مرور الزمن أصبحوا محافظين تجاه جيل جديد يتمثل في أغلبه من الشباب الذين كانوا أطفالاً أو ربما لم يولدوا بعد عندما اندلعت شرارة الثورة الايرانية. هذا ديالكتيك تاريخي يكاد يكون حتمياً: يتلخص في عبارة ان الثوار حينما يمارسون السلطة لفترة من الزمن يتحولون الى محافظين. شهدنا ذلك عبر الثورة الفرنسية، التي شكلت فيها طبقة البرجوازية طليعة ثورية في إزالة الاقطاع والملكية. وتكرر نفس السيناريو مع الثورة البلشفية، فإذا كنا نطلق على لينين لقب زعيم الثوار، فإنه لا يمكننا أن ننعت بريجينيف أو اندروبوف أو تشرننكو إلا بلقب زعماء المحافظين. رغم أن الدولة في مرحلتها الثورية أو مرحلتها المحافظة تحمل نفس الشعارات. نستنتج من كل ذلك أن الجيل الذي يأتي بعد الثورة لا يمكنه أن يعيش على ايديولوجيا كفاح قديمة تتغنى بإزالة العهد البائد وتفتخر بمنجزات الثورة. هذا الجيل الثاني هو الذي يفقد الثورة بريقها، لأنه لم يشارك فيها أولا ولأنه يواجه احتكار من قام بها لمناصب السلطة ثانياً. من الممكن إذن الحديث عن صراع أجيال في ايران، ومن الممكن أكثر الحديث عن تفكك النخب الحاكمة بين أغلبية محافظة عادة ما يكون من أجل مناصبها يقودها رجال الدين المتشددون وعلى رأسهم خامنئي نفسه، وأقلية بحثت عن تحالفات لدى الجيل الشاب يقودها السيد محمد خاتمي. الملاحظة الأولى التي تميز هذا الصراع تكمن في أسلوبه السلمي، وذلك يعود الى الحد الأدنى من اللعبة الديموقراطية التي نجحت الدولة الايرانية في توفيرها. حدثت عملية مأسسة الصراع وتقنينه عبر صناديق الانتخابات بشكل مثير للاعجاب نسبياً. وهو ما يجعل التوتر يقل مما يساعد في نزع فتيل أي انفجار محتمل. الملاحظة الثانية تكمن في أن التيار الاصلاحي اعتمد، تقريباً، كلية على الشباب والنساء، فالصراع يكاد يكون بين جيلين. ومن المنطقي أن يفوز الجيل الشاب، لأنه ببساطة يمثل الأغلبية العددية. الملاحظة الثالثة تكمن في بروز النمط الغربي في الحملات الانتخابية الدعائية بشكل مثير لدى الجيل الشاب. فالموسيقى التي استخدمت وأسلوب التلويح باليدين مع رقصة الجسد أو لنقل تمايله، يكادان يعبران عن حفلة "روك" لولا ارتداء النساء الحاضرات الحجاب الايراني الأسود. هذا التناقض يذكرنا بسرعة أننا نعيش حالة ايرانية خاصة جداً. لنذكر أن الدولة الايرانية هي دولة أكثر كليانية Totalitaire من غيرها من الدول الاسلامية رغم أنها تبدو أقل سلطوية Autoritaire. والدولة الكليانية في قاموس العلوم السياسية هي تلك الدولة التي تتدخل في مجالات كثيرة في حياة الانسان الخاصة مثل ملبسه وأكله وشربه وسلوكه ولا تكتفي بالجانب السياسي القانوني أي العقد الاجتماعي بينها وبين المواطن. لذلك عادة ما تكون الدولة السلطوية أرحم من الدولة الكليانية. فالدولة السلطوية تكتفي بالقهر السياسي لمواطنيها دون أن تفرض عليهم نمط حياة وحيداً. المفارقة الكبرى التي تعيشها ايران تكمن في كونها جمهورية ولكنها اسلامية، رئيس دولتها منتخب، لكن مرشدها معين. برلمانها منتخب، لكن هرمها الديني الحاكم معين. هي من جهة تعتمد آخر مناهج السياسة في العالم، أي الانتخابات الديموقراطية، ولكنها في الآن نفسه، تعتمد مناهج مدرسة دينية أسست في القرون الوسطى. باختصار، ايران تعيش صراعاً ممزقاً بين الحداثة والسلفية. وهي ان نجحت في الحفاظ على هذا التناقض وتقنينه، فإن المستقبل يبدو أنه لن يحتمل لوقت طويل مثل هذا التناقض. سيأتي يوم تجد نفسها فيه مضطرة للاختيار: بين إزالة ما تبقى من موروث الثورة والاندماج في الحداثة، أو القطع مع الحداثة، أي مع عملية الانتخابات نفسها والاكتفاء بالتقليد الديني. وبما أن اللعبة الديموقراطية تعمل لمصلحلا الحداثة، فإن موروث الثورة يمكنه أن يوقف زحفها عبر استخدام الانقلاب عليها. وهنا، سيكون موقف الجيش وحرس الثورة محددين لمستقبل ايران. وسيصبح الصراع ثلاثي الأبعاد: رجال دين محافظون من جهة، جيل شاب ينزع نحو الحداثة من جهة ثانية، ومؤسستا الجيش وحرس الثورة من جهة ثالثة. ولئن بدا اليوم أن حرس الثورة، كما يدل على ذلك اسمه، في صف المحافظين، فإن الجيش الايراني يقوده محترفون وصلوا الى قيادتهم بفضل خبراتهم أثناء الحرب العراقية - الايرانية عندما أخذوا مواقع الضباط الثوريين الذين أثبتوا فشلهم الميداني في البداية الأولى للحرب. من الممكن أن ينضم الضباط المحترفون الى الاصلاحيين في حين ينضم ضباط الحرس الثوري للمحافظين فيشتد الانقسام، لنذكر أن العسكر يتدخلون دائماً مباشرة في الأحداث عندما يرون أي مؤشرات فوضى أو انفلات أمني تهدد استقرار الدولة. فتدخل الجيش الجزائري سنة 1992 مثال قريب يؤكد هذا الرأي. وايران توجد بين بلدين للجيش فيهما كلمته، إن لم تكن الكلمة الأولى والأخيرة. فالمؤسسة العسكرية التركية ومثيلتها الباكستانية يقدمان مثالين واضحين للجيش الايراني على ما يجب فعله حينما تخرج اللعبة الديموقراطية الهشة عن حدودها المسطرة لها. والسؤال المطروح دائماً هو الى أي حد سيقبل المحافظون بلعبة ديموقراطية تؤكد كل يوم جديد انها الآلة الجهنمية التي ستزيلهم من الخارطة السياسية بعد سنوات قليلة. فهل ينقلبون؟ هل يستخدمون القوة المسلحة في عملية وقائية يزيحون بها خصومهم؟ حتى يحافظوا على سلطاتهم ويمنعون تغيراً عميقاً في المجتمع الايراني؟ إن خطراً كبيراً آخر يهدد النظام الايراني يتمثل في الفشل الاقتصادي الذريع الذي تعيشه ايران منذ الثورة الى اليوم، وقد يكون هذا الخطر وراء نجاح الاصلاحيين في تعبئة الشارع بشكل عام والجيل الشاب بشكل خاص. لقد اعتاد المراقبون للوضع الايراني التركيز على الشأن السياسي ومدى قوة ايران العسكرية: ما تورده أو تصنعه من أسلحة، وهل تعمل من أجل امتلاك القنبلة النووية. وفي المقابل تم تجاهل الوضع الاقتصادي وما وصل إليه من ترد تحت إدارة النخبة الحاكمة التي جاء أغلبها من دائرة رجال الدين. فإيران التي تعد اليوم حوالى 70 مليون نسمة ينتشرون على أكثر من مليون ونصف المليون كليومترمربع 1638057 كم2، وصلت فيها نسبة نمو الناتج القومي الخام للفرد الواحد بين سنوات 1985 - 1994 -1 في المئة سنوياً: أي ان النمو يسير في الجانب السلبي الانحداري. وبلغت ديونها الخارجية سنة 1994 ما يقارب 22.7 بليون دولار. وشهدت عملتها تضخماً متواصلاً وصل سنة 1996 الى نسبة يعادل فيها الدولار الواحد ثلاثة آلاف ريال ايراني. وسجل النمو العام نسبة 1.9 في المئة سنة 1994 في حين بلغ نسبة التضخم 31.5 في المئة ونسبة البطالة 30 في المئة وهي تمس بالأساس فئة الشباب الذي كثيراً ما يجد نفسه خارج الدائرة الزبونية لرجال الدين المحتكرين لموارد الدولة الاقتصادية. أما معدل المرتبات للعمال وصغار الموظفين فلا يتعدى 100 دولار شهرياً. إذا قارنا هذه الأرقام مع موارد ايران الضخمة، من بترول وغاز ومواد معدنية أخرى كثيرة، اضافة الى أراض فلاحية خصبة، وسوق واسعة، ويد عاملة شابة.. فإننا يمكن أن نتحدث عن كارثة اقتصادية حقيقية نتجت عن سوء تصرف رجال دولة يتمتعون بالشرعية "الثورية" ويفتقدون الخبرة العلمية والكفاءة الحقيقية في التنظيم والادارة. لمثل هذه الأسباب، نجد طلبة الجامعات، الفئة الاجتماعية الأكثر عداء لرجال الدين والأكثر حماسة للالتزام بالاصلاح وتغيير رجال الدولة. أي بعبارة أخرى يريد هذا الشباب أن يفرض نفسه عبر كفاءاته العلمية في مواجهة الشرعية "الثورية الدينية"، يتهمها بالفشل بعد أن أخذت فرصتها لمدة طويلة من الزمن قاربت العشرين سنة ولم تحقق فيها نمواً يوازي النمو الذي حققته دولة الشاه المخلوع. * كاتب تونسي.