وهنا لا نقصد فقط التناقض المُضحك للمواقف الرسمية الأمريكية إزاء ما جرى ويجري في المنطقة، من سوريا إلى البحرين، بل أيضاً التضارب في الاجتهادات الفكرية التي تغشى هذه اللحظات مراكز الأبحاث والإعلام الأمريكية. فكما أن هيلاري كلينتون تكون يوماً مُحافظة ومطمئنة ل"الاستقرار" في بعض الدول العربية وفي اليوم التالي "ثورية" وداعية تغيير وانتفاضة إصلاحية، كذلك تحار مراكز أبحاث عملاقة كمجلس العلاقات الخارجية، وبروكينغز، وهارفارد وغيرها، في تفسير أسباب وطبيعة الثورات المدنية- المُواطَنِية الراهنة في الوطن العربي. فثمة من يثق بأن ما يجري هو انتفاضة عربية شاملة لاستقبال الموجة الثالثة من الثورة الديمقراطية العالمية، وإن متأخرة 20 سنة؛ وبالتالي، ما نراه الآن ليس أمراً مفاجئاً أو مستغرباً بل هو امتداد طبيعي لثورات أوروبا الشرقية العام 1989 ولانتفاضات أمريكا اللاتينية العام 1999. في المقلب الآخر، ينتصب من لا يزال لا يثق ولا يؤمن بإمكان دخول العرب العصر الديمقراطي. ومن يُمثّل هؤلاء في الولاياتالمتحدة هم أنفسهم من مثّلهم في أوائل التسعينات، حين تم اختراع "العدو الإسلامي" كي يحل مكان العدو الشيوعي في الغرب: الحركة الصهيونية وغلاة اليهود والمحافظين الأمريكيين اليمينيين. هذا الفريق يعترف بأن ثمة انتفاضة عربية حقيقية، لكنه متأكد بأنها سرعان ما ستتعرض إلى الخطف والسبي على يد الأصوليين الإسلاميين الذين سيقيمون أنظمة حكم ثيولوجية "دينية" تكون أسوأ في استبدادها من الحكومات السلطوية الراهنة. وهنا، بدلاً من أن تعيش المنطقة الموجة الثالثة من الديمقراطية، فإنها بالأحرى تشهد إرهاصات ما قبل استيلاء رجال الدين على ثورة 1979 الإيرانية المدنية. الياس كانيتي "1905- 1994" مُفكّر يهودي بلغاري نشر العام 1960 كتاباً بعنوان "الجمهور والجبروت"" المؤلَف مثير بالفعل لأنه موسوعي في تحليله لظاهرة الجمهور وعلاقته بمرض ارتياب الحكّام. وهو يرى، على سبيل المثال، أن البيئة الطبيعية هي التي تعلّم الإنسان كيف يتصرّف كجمهور. وهكذا، فإن الألمان يتصرفون كأشجار بلادهم الكثيفة والشامخة، والعرب كرمال الصحراء، والهولنديين كأمواج البحر، والمغول كالريح. "الجمهور والجبروت" أثار، ولا يزال، الكثير من اللغط حول مدى مصداقيته العلمية، حيث اتهمه الكثيرون بأن يخلط بين العلم والشعر "كانيتي حاز على جائزة نوبل للآداب"، لكن الصهيونيين واليمينيين الأمريكيين يستخدمون بعض مقولاته الآن لقذف الثورات العربية الراهنة بالعشوائية وحتى بالغوغائية التي ستقود إلى استبداد جديد. هل ثمة صدقية ما في هذا "الاجتهاد الجديد"؟ وهل الثورات العربية الراهنة ستكون في نهاية المطاف تكراراً مملاً لتاريخ استبدادي أكثر مللا؟ لا. قطعاً لا. فمن يتقوّل بذلك، لما يتلقط بعد كُنه وجوهر ما يقوم به المواطن العربي هذه الأيام. إنه بالأحرى يستخدم أدوات تحليل عتيقة وباتت عقيمة، هي نفسها بالمناسبة أدوات الفكر الاستشراقي في الغرب. ما يجري الآن لا يقل عن كونه ثورة بنيوية ضخمة لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي، تطال كل بنية الإنسان العربي. وما يفعله الشباب في العديد من البلدان العربية هو معلم بارز آخر في هذه الثورة. فهو كسر حاجز الخوف التاريخي الذي لطالما ميّز العلاقة بين الحكام والمحكومين في المنطقة، وبدأ يُحل مكانه رويداً رويداً مفهوم العقد الاجتماعي والقانوني بين الطرفين، حيث الأوائل يحكمون برضى الأخيرين وشروطهم لا بالقوة والغلبة. كيف وصل الجيل الجديد العربي إلى هذا الانقلاب الهائل في المفاهيم السياسية والاجتماعية؟ عبر المبرر نفسه الذي يُسقطه عنهم المستشرقون وحلفاؤهم: قدرة المجتمعات العربية على التغيّر والتطور، أسوة بكل المجتمعات الأخرى في العالم. فما سُمّي في الغرب "الاستثناء العربي، لتبرير الادعاء بأن الديموقراطية لن تحدث في الوطن العربي، يتبيّن بجلاء الآن أنه كان استثناء في عقول أصحابه وحسب، وأن المواطن العربي أثبت، وسيثبت أكثر، أنه الأكثر استئهالاً وتأهيلاً لثورة الحداثة والعصرنة والديمقراطية.