الصراع بين القديم والحديث يتجلى في أكثر من صورة عبر الترشيحات الرسمية لجوائز الأوسكار هذا العام. وفي السنوات الأخيرة، تكرر ذلك أكثر من مرة، لكن هذا العام هناك منافسة ملحوظة وواضحة بين أفلام تنتمي الى المدرسة التقليدية وأخرى الى المدرسة الحديثة فناً وتفكيراً. وهذه المنافسة تزيد الصورة صعوبة اذا ما حاول الناقد قراءتها ساعياً أيضاً إلى استنتاج ما هو الأكثر توقعًا عندما توزع الجوائز في حفلة السادس والعشرين من الشهر المقبل. والواضح أن أحد الأسباب الكامنة وراء ازدياد حدة المنافسة بين الأفلام المعبرة، عن روح هوليوود القديمة وتلك الجديدة، يعود الى أن أكاديمية العلوم والفنون السينمائية المانحة للأوسكار تحتوي اليوم على عدد أكبر من الكتاب والمخرجين والممثلين والفنيين الذين ينتمون الى جيل الثمانينات والتسعينات. اولئك الذين بدأوا العمل في السينما في واحد من هذين العقدين وحملوا اليها، على نحو او آخر، حساً تجديدياً بدأ ينعكس في نتائج الترشيحات في كل عام، وليس من المستبعد أن يؤول السبب في فوز الفيلم المقبل الى هذا الفريق، كما حدث في العام الماضي عندما فاز فيلم "شكسبير عاشقاً". هذا العام يبدو ان الفيلم الذي يمثل نموذج الحداثة هو "جمال أميركي" للمخرج سام منديز المرشح لثمانية أوسكارات كلها مهمة وأساسية: الى جانب مسابقة أفضل فيلم، هو في مسابقات أفضل اخراج، افضل ممثل رئيسي كيفن سبايسي، أفضل ممثلة رئيسية آنيت بانينغ، افضل تصوير اللامع كونراد هول، أفضل توليف طارق أنور، أفضل موسيقى كتبت خصيصا للسينما توماس نيومان وأفضل سيناريو كتب خصيصا للسينما آلان بول. "جمال أميركي" صياغة لا تخلو من الحس العاطفي للمخرج ذاته حول انتفاضة رجل سبايسي اكتشف أنه كان "ميتا يتنفس" منذ خمس عشرة سنة تحول فيها الى موظف لا طموح له وزوج أقرب الى "الديكور" منه الى أي شيء آخر. حتى المتعة الجنسية بينه وبين زوجته بانينغ مفقودة. سيناريو آلان بول يوزع ملاحظاته على حياة لم تبلغ حد الحلم الأميركي لكنها تستيقظ فجأة عندما تجد جمالا مبهرا أمامها متمثل بفتاة صغيرة زميلة إبنته في المدرسة، لكن كلا من السيناريو والإخراج يتحاشيان الاستنتاجات السهلة فهذا ليس "لوليتا" جديدة مستخلصة من حكاية فلاديمير نابوكوف المعروفة، بل غوص في صعود ثم هبوط رجل استيقظ من سباته الطويل ليجد أن الوقت تأخر عليه والظروف أقوى من تمرده المعلن. الفة البراءة "جمال أميركي" هو أفضل من "قوانين عصارة التفاح" للسويدي الأصل لاسي هولستروم على صعيد الحرفة السينمائية ذاتها، ولا سيما الإختيارات التقنية من حيث استخدام الكاميرا من حيث الموقع والزاوية ومن حيث اللغة التي تعبر من خلالها عن لحمتها مع الموضوع. لكن فيلم هولستروم، المرشح لسبع جوائز، لا يقل عاطفة من حيث اختيار الموضوع. انه مقتبس عن رواية ناجحة لجون ارفينغ الذي كتب السيناريو المرشح بدوره لأوسكار أفضل سيناريو عن نص أدبي تدور حول الشاب هومر توبي ماغواير الذي عاش حياته في مؤسسة لرعاية الأيتام تحت عناية د. لارش مايكل كين وتعلم منه الحرفة من دون دراسة أكاديمية وشهادة تخوله الممارسة. لكن هومر لا يشعر بالرغبة في ممارسة عمليات الإجهاض التي يقوم بها د. لارش بصورة غير شرعية. المانع أخلاقي وعندما تصل الى الدار الفتاة ساندي تشارليز ثيرون وبصحبتها صديقها والي بول رد لإجراء العملية ذاتها، يترك المهمة كاملة للطبيب لارش، لكنه يقرر أن يغادر المكان مع الشابين اللذين يشعران صوبه بألفة ربما ناتجة عن براءته الشديدة. هومر سيفهم معنى مختلفا للحياة التي لم يختبرها من قبل. الحياة خارج ذلك المكان الريفي - وحسب تقاليد الفترة الزمنية التي تقع فيها الأحداث : الثلاثينات- وهذا المعنى لن يخلو من ارتكاب الخطأ: لقد وقع في حب الفتاة التي كانت تحب صديقها والآن لم تعد متأكدة، وخان بذلك صديقها الذي أعتقد أنه يستطيع أئتمانه. القصة موحية بلا ريب وعاطفية على غرار ما تعشقه هوليوود، لكن اخراج هولستروم متساو في سياقه، ليس هناك تصعيد درامي خارج ما توحيه القصة بطبيعة حالها. ليس من فاعل حيوي يخرج السرد من مستواه الواحد طوال الوقت. توبي جيد في الدور لكن مايكل كين، بخبرته الواسعة، هو الذي يطغى عليه رغم أنه ليس الممثل المحوري في الفيلم. والنتيجة أن كين هو المرشح لجائزة أفضل ممثل ولو في قسم التمثيل المساند منافسا في ذلك توم كروز عن دوره في "مانغوليا"، مايكل كلارك دانكن "الميل الأخضر"، جود لو "السيد ريبلي الموهوب" والصبي هالي جوويل أوزمنت "الحاسة السادسة". وجود "شروط عصارة التفاح" كان مفاجئا لدى الوسط السينمائي في هوليوود، كون الفيلم لم يجد تحبيذا شديدا بين النقاد، لكن الحال واحد بالنسبة لفيلم آخر تسلل الى مسابقة أفضل فيلم هو "الحاسة السادسة"The 6th Sense للمخرج الهندي الأصل ن. نايت شيامالان وهو مفاجيء لأن هوليوود لم تنتجه كفيلم أوسكار والمخرج لم يعن به كحصان يدخل مثل هذه المسابقات. وهي ليست المفاجأة الأولى على اي حال. ف "الحاسة السادسة" فاجأ الجميع بنجاحه التجاري الغريب: 278 مليون دولار في اميركا و310 ملايين دولار خارجها. ونجاحه لم يتوقف عند حدود ثقافة واحدة، بل انتشر بين كل الثقافات. في لبنان شاهده نحو 75 الف متفرج، وإجمالي العالم العربي من المشاهدين يبلغ ضعف ذلك تقريبا: هذا نجاح كبير لفيلم انطلق مشروعا متعثرا كانت ديزني مترددة في إنتاجه لكنها مضت فيه عندما تحمست اليه جهات تمويلية اوروبية جمعها بيده التونسي طارق بن عمار. وهو فيلم تشويق ورعب في الأساس واختياره لمسابقة الأوسكار، سواء أوصل الى نهاية الشوط بفوزه ام لم يصل، يعكس قبولا لدى الأعضاء على تجاوز الصيغ التقليدية المناطة بالأنواع الأكثر "اجتماعية" مثل الدراميات العاطفية والتاريخية او الإجتماعية. دراما السجون والسجائر يبقى بين الأفلام عملان أولهما "الميل الأخضر" The Green Mile للمخرج فرانك دارابونت والثاني "الداخلي"The Insider للمخرج مايكل مان. والفارق شاسع بينهما كما بين كل واحد منهما واي من الأفلام الثلاثة الأخرى المتسابقة. "الميل الأخضر" هو دراما سجون تقع أحداثها في الثلاثينات ايضا وتتمحور حول ذلك السجين الأسود العملاق مايكل دنكن كلارك الذي يتمتع بموهبة الإشفاء عن طريق اللمس. وأول من يعالجه هو رئيس الحرس في عنبر الموت المسمى مجازا بالميل الأخضر الذي كان يشكو من ألم في المثانة. هذا ما يلفت نظر رئيس الحرس توم هانكس اليه ليكتشف أن السجين بريء من التهمة الموكولة اليه، انما هو مضطر لتنفيذ حكم الإعدام فيه كما أوصى قرار المحكمة. الملاحظ هنا انه في حين أننا نجد أسماء م. نايت شايامالان وسام منديز ولاسي هولستروم مرشحة في مجال أفضل إخراج، فإن إسم مخرج هذا الفيلم، فرانك دارابونت، غائب عن تلك المسابقة. البديل هو سبايك جونز عن فيلمه الكوميدي الأسود والنازع الى الغرابة الداكنة، "أن تكون جون مالكوفيتش". "الداخلي" هو فيلم مايكل مان الجديد حول قصة حقيقية عن موظف سابق في إحدى شركات صنع السجائر يقرر الخروج الى العلن ليحذر من تبعات التدخين وليشير الى أن رؤساء شركات التبغ في اميركا كذبوا على لجنة استقصاء الحقيقة التابعة للكونغرس عندما أكدوا أن أبحاثهم دلت على أن النيكوتين ليس مادة مدمنة. الوسط الذي أعلن فيه عن هذه الحقيقة هو التلفزيون عبر برنامج لا يزال يبث كل أسبوع بعنوان "60 دقيقة". لكن المحطة تقرر منع المقابلة من البث حتى لا تعرض مصالحها التجارية للخطر إحدى الشركات التي تنوي شراءها لديها علاقات متينة مع إحدى شركات التبغ. من هذه الدراما المنسوجة من الواقع يقدم مان فيلما له دلالاته النقدية الموجهة ليس تحديداً الى شركات التبغ، بل - وأساسا- للوسط الإعلامي المستعد لأن يميع الحقيقة او يمنعها من الوصول الى الناس تلبية لمصالح محدودة. ليس أن الفيلم يدعي أنها المرة الأولى او الأخيرة التي كذب فيها الإعلام والتلفزيوني خصوصا على الشعب، انما يمضي في دعواه بكل جدية ومن دون تنازل يؤدي به الى نهاية توفيقية ما. مايكل مان في عداد المخرجين المرشحين للأوسكار وهو يستحق ذلك. تقنيا فيلمه لا يعلى عليه بين تلك المتسابقة. انه يبقى النفس لاهثا والرغبة في معرفة النتائج مثارة ويبتعد عن السهل والمتوقع ويصر على التوليفة المعقدة ضد التسهيل المعتاد. لكن في طي ذلك هو مخرج ممثلين يحسن إدارة ممثليه جيدا. آل باتشينو وراسل كراو في الدورين الرئيسيين، لكن بينما يمثل باتشينو الدور استنادا الى مهارته في تأدية ادواره من دون جديد يضاف اليها، يبرهن راسل كراو الذي تعرفنا عليه في "أسرار لوس أنجيليس" L.A. Confidetial كم هو ممثل موهوب وواعد ببذل الأقصى من أجل بلوغ الغاية التشخيصية المناطة به. لا عجب أن نجده في عداد المتسابقين لجائزة أفضل تمثيل الى جانب رتشارد فارنسوورث عن "قصة ستريت" وشون بن عن "حلو ومر" وكيفن سبايسي "جمال أميركي" ودانزل واشنطن "الإعصار". وكما لم يتسلل آل باتشينو الى مسابقة الغولدن غلوب كذلك غاب عن ترشيحات الأوسكار. اكبرهم عمراً رتشارد فارنسوورث هو أكبر المرشحين عمرا 72 سنة وهو قد لا ينتهي بصعوده مسرح الأوسكار لاستلام الجائزة الثمينة لأن المنافسة ضده شديدة من كراو وكيفن سبايسي ودنزل واشنطن. والأخير هو الوحيد الذي يمثل فيلم "الإعصار" لنورمان جويسون. والمعتقد بشدة هنا أن الهجوم الذي تعرض اليه الفيلم منذ أسابيع حد من رغبة أعضاء الأكاديمية تأييده. ومفاد هذا الهجوم هو أن الفيلم وصانعيه تولوا تمييع الحقيقة في تناولهم قصة الملاكم الأسود الذي سجن بتهمة قتل أربعة رجال في حادثة إطلاق نار لكنه أصر على رد التهمة عنه مؤكدا براءته. بعد عشرين سنة من السجن، يعاد تقديم قضيته على محكمة فدرالية تصدر حكمها ببراءته. الفيلم جيد وكان يستحق لفتة في أكثر من مسابقة، لكن بين ما كتب عنه وترك تأثيرا لدى المنتخبين على ما يبدو، هو أنه ملفق وبل بلغ الأمر بالبعض للتأكيد على أن الملاكم تايلور الذي يؤدي شخصيته واشنطن بدقة ارتكب جريمة القتل فعلا. على صعيد التمثيل الرجالي المساند او الثانوي كما كنا نقول نجد أن أصغر المرشحين سنا هو الصبي هايلي جوويل أوزمنت الذي لن يكون قد طبق الإحدى عشر عاما عندما تقام حفلة توزيع الجوائز في السادس والعشرين من آذار مارس. انه ممثل ممتاز، لكن كذلك مايكل كلارك دنكن الذي لن تتاح له، وذلك لظروف سيدركها من يشاهده في "الميل الأخضر"، فرصة أخرى للإشتراك في مسابقة الأوسكار. في مجال أفضل تمثيل نسائي نجد أن المنافسة لا تقل ضراوة عن مثيلها لدى الرجال. آنيت بانينغ في "جمال أميركي" تقدم أفضل ما لديها، جانيت ماكنير في "العشب البري" Tumbleweeds تنجح الى حد في دمج خبرتها المسرحية الانكليزية بلكنة وشخصية المرأة الأميركية القادمة من وسط أميركا. جوليانا مور عن "نهاية الأيام" تبكي أكثر من اللازم وهي تبكي ايضا في فيلم "ماغنوليا" الذي استبعد من المسابقات الرئيسية باستثناء مسابقة أفضل ممثل مساند،توم كروز، وأفضل سيناريو كتب خصيصا -لبول توماس أندرسون. ولم يكن مفاجئا مطلقا دخول هيلاري سوانك، وهي الممثلة الجديدة التي خطفت "غولدن غلوب" عن دورها في "الأولاد لا يبكون"، المسابقة، لكن ميريل ستريب تبدو فجأة رهانا قويا وذلك عن دورها في الفيلم الذي لم يستقبل بحرارة غير عادية "موسيقى من القلب". مسابقة أفضل ممثلة مساندة شهدت وجود آنجيلا جولي عن دورها في "فتاة مقاطعة" وكاثرين كينر عن "ان تكون جون مالكوفيتش" وكليو سيفيني عن "الأولاد لا يبكون". المفاجأة الحلوة والتي تستحق الكثير من التقدير وجود الممثلة الجديدة سامانثا مورتون في عداد المتسابقات هنا وذلك عن دورها في فيلم وودي ألن الذكي والحار "حلو ومر" ترجمة قريبة مع مضمون عنوان Sweet and Lowdown . السينما كلغة عالمية كل هذه المسابقات وغيرها مما لا يتيح المجال قراءته كما يجب، تعكس في نهاية المطاف حالة هوليوودية خاصة، فبينما لا يؤدي فوز "الموضوع" الرابح في "كان" او "برلين" او "فانيسيا" او سواها من المهرجانات، ولا الفيلم الرابح في جوائز الفيلم الأوروبي او السيزار الفرنسي او البافتا البريطاني، حالة رواج تجارية، لا يزال الأوسكار مناسبة لإعادة طرح الفيلم المرشح وفرصة أمام معظم الممثلين للإرتقاء بمستوى ما يضطرون لقبوله من سيناريوهات. كذلك فإن سعر الكاتب او المخرج الفائز بالجائزة المذهبة يرتفع عما كان عليه قبل موعد إعلان النتائج. حتى الأفلام الأجنبية ترتفع احتمالات نجاحها التجاري أكثر من ذي قبل. هذا ما سيحدث مع "كل شيء عن أمي" للأسباني بدرو المودافار الذي يبدو من بعيد الفيلم الأكثر احتمالا بالفوز. وهو وحيد الأفلام المشتركة في هذه المسابقة الذي بوشر بعرضه التجاري فعلا. الأفلام الأخرى ستحظى بالتوزيع قريبا لكي تستفيد من الهالة التي تجد نفسها فيها وهي "تحت الشمس" السويد و"سولومون وغينور" بريطانيا والفيلم الفرنسي "شرق - غرب" والفيلم النيبالي "قافلة" وهو فيلم غريب التكوين اذ هو أقرب الى تسجيل درامي منه الى الفيلم الروائي وتدور أحداثه على أعالي قمم الهملايا من دون مؤثرات وبصدق شديد. هناك نحو شهر قبل أن تقام الحفلة الثانية والسبعون للأوسكار، لكن الحديث المجبول بالتوقعات والتكهنات لن يتوقف يوماً واحداً.