خلال السنوات الثماني الماضية التقى الرئيسان المصري حسني مبارك والاميركي بيل كلينتون مرات، إلا أن قمتهما المقررة اليوم في واشنطن، ربما الأخيرة بين الزعيمين، إذ تأتي في أعقابها فاعليات المعركة الانتخابية الرئاسية، التي سوف تسفر عن إدارة جديدة، قد تحمل آل غور أو بوش الابن إلى المكتب البيضاوي. هذه القمة التي تأتي قبل شهور قليلة من ترك كلينتون لمنصبه طرحت في العاصمة المصرية سؤالا مهماً عما يمكن لمصر أن تحصل عليه من "إدارة" تغرب شمسها؟ أجمعت المصادر السياسية في القاهرة على أهمية الزيارة وعلى أن التوقيت بالذات مناسب، بل ودقيق، من حيث إن المنطقة مقبلة وبإصرار أميركي هذه المرة، على "مشاهد" تاريخية تم ترتيب أوراق السيناريو الخاصة بها، ولم يتبق سوى اخراجها. ولفتت المصادر إلى أن قمة مبارك - كلينتون حصلت بعد يومين من قمة الرئيس السوري حافظ الأسد وكلينتون، في جنيف، التي رحبت بها القاهرة واعتبرتها تقدماً محموداً في عملية السلام. فالقاهرة عبرت أكثر من مرة أن "أي تقدم على أي مسار يخدم المسارات الأخرى". وإذا حدث ما تتوقعه القاهرة بقرب التوصل الى اتفاق سوري مع إسرائيل. فإن أحد الملفات الأساسية المعدة للتناول خلال زيارة مبارك للولايات المتحدة سيكون الملف الخاص بپ"حماية عملية السلام" المنجزة. وهذا الملف بالذات رغبت مصر في تجميع رؤية عربية حوله، وطرحته على جدول أعمال مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية الدورة 113 المنعقد في بيروت، ثم سحبته قبل بدء الاجتماعات بأيام، وطلبت تأجيله الى الدورة 114 في شهر أيلول سبتمبر المقبل. ويعود سبب سحب الاقتراح، على رغم عناية القاهرة بهذا الملف، الى شقين: الأول، تركيز الدورة 113 على الشأن اللبناني، والثاني، ظهور التعنت الإسرائيلي في الاسابيع الأخيرة على كل المسارات، مما جعل طرح "مستقبل المنطقة ما بعد التسوية"، بعيداً، بل وربما منتقداً. إلا أن الرؤية المصرية، التي سوف تطرح خلال محادثات مبارك في واشنطن، وتبلغها الى دوائر صنع القرار، تتلخص في أن السلام لا عودة عنه، وأن أسسه معروفة وأن الأطراف وبوساطة أميركية "حقيقية" أصبحت قريبة منه. وأن هذا السلام هو في حاجة إلى حماية، لن تتحقق إلا بشراكة أميركية فعلية، وباستثمارات أميركية مباشرة لا تقصد إسرائيل فقط، إنما يجب أن تشمل دول المنطقة التي ساهمت في صنع هذا السلام، حتى تشعر الشعوب بثماره. كما أنه في إطار "حماية" هذا السلام لم يعد هناك من معنى لبقاء الملف النووي الإسرائيلي غامضاً ومخيفاً وخارج أي رقابة اقليمية أو دولية، ومفتوحاً في الوقت نفسه على كل معطيات التطور والارتقاء. ويرتبط بپ"حماية السلام" و"الملف النووي الإسرائيلي" وقضية "التسلح" في المنطقة إذ تطرح مصر أفكارا حول الحد من التسلح وتوازن القوى في المنطقة "لأن أي خلل لصالح أطراف من دون الأخرى لن يحقق الاستقرار الذي استهدفته عملية التسوية في المنطقة بالأساس". وترغب مصر في تجنب وتجنيب المنطقة "سباق تسلح" محتمل على رغم اتفاقات السلام، تغذيه إسرائيل باستمرارها في تطوير ترسانتها المسلحة بما في ذلك اسلحة الدمار الشامل. وترفض مصر مبررات اسرائيل سواء أعلنت عن برنامجها النووي أو أخفته، اذ إن القاهرة على ثقة من وجود هذا البرنامج ومن تهديده الأكيد لأمن المنطقة. كما ترفض استثناء إسرائيل من التوقيع على اتفاقات دولية للحد من التجارب النووية التي وقعتها كل الدول العربية بلا استثناء، تحت دعاوى "مخاوف" محتملة من قبل قوى اقليمية غير عربية مثل إيران وباكستان، أو عربية مثل العراق. ولا ترى مصر أن هذه القوى تشكل تهديداً جدياً لإسرائيل وخصوصاً إيران. وسيشرح الرئيس مبارك خلال زيارته للولايات المتحدة أهمية أن تتعاون إسرائيل في تصفية برنامجها النووي العسكري، ليس بشكل عاجل وفوري، إنما بالتدريج كأن تبدأ بإغلاق مفاعل ديمونة القديم وقبول مبدأ الاشراف الدولي على منشآتها النووية الأحدث والتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية كما اقترح المستشار السياسي للرئيس المصري اسامة الباز، وكذلك تقتنع بأن ضمان بقائها في المنطقة لن يكون بالتفوق العسكري إنما بقبول عربي شامل بها. وعلى رغم التحرك البادي والمحتمل على المسارات التفاوضية أوضحت مصادر سياسية مصرية أن ملف عملية السلام سيكون أساسيا في محادثات مبارك في واشنطن، لكون "الرغبة" في الانتهاء من عملية التسوية غير إتمامها واقعياً. ويعتمد الطرح المصري في هذا الملف على رؤية من محورين: الأول: الاستعداد المصري للتعاون الى أبعد الحدود وتشجيع الأطراف كما جرى أخيراً في لقاء شرم الشيخ الثلاثي الذي ضم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل ايهود باراك، بما في ذلك الثقة في التزام الرئيس الاميركي بالعمل الى آخر يوم من رئاسته لتحقيق السلام وهو الإنجاز التاريخي الذي يلحظ الجميع حرص كلينتون عليه، وحرص الأطراف على إهدائه هذا الانجاز. وكذلك منح باراك الفرص التي يطلبها لتحقيق وعوده، مع القناعة التامة لدى القيادة السياسية في مصر أن باراك قلب معظم اللاءات الإسرائيلية تقريبا، حين اسقط التحفظ على قيام دولة فلسطينية، واعترف بپ"وديعة" رابين الخاصة بقبول الانسحاب من الجولان العربي السوري المحتل، كما قررت حكومته الانسحاب من جنوبلبنان في غضون أسابيع. الثاني: ضرورة التقدم على مختلف المسارات: الفلسطينية، السورية، واللبنانية، لأن السلام المقبول عربيّاً هو الذي سيكون عادلاً وشاملاً، مع التركيز على أن الانسحاب المقترح من لبنان لاپبد أن يكون نهائيا ولا عودة عنه ولا يتضمن أي تهديد للبنان أو انتقاص حقوقه المشروعة، وأن مصر لن تعرقل أي اتفاقات محتملة، وأنها ستعود الى شعار "نقبل ما تقبله الأطراف"، الذي أعلنته عندما تم اتفاق أوسلو - 1، وكما أعلنت في لبنان على لسان وزير خارجيتها عمرو موسى من أنها "لن تسبق لبنان ولن تزايد عليه"، وهو الشعار نفسه مع المسار السوري اذ "تقبل مصر ما يقبله السوريون". أما عن الملفات الثنائية فإنها كانت في صدارة الملفات خلال زيارة الرئيس مبارك للبنتاغون مقر وزارة الدفاع الاميركية، اذ يطرح الرئيس المصري تصوراته عن الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وبحث في مزيد من التعاون العسكري لتحديث القوات المسلحة والانتاج الحربي من منطلق أن "مصر قوية هي عنصر ضمان لأمن المنطقة ككل". وبخلاف ملفات الشراكة الاقتصادية والاستثمار ومستقبل المعونة السنوية وبرنامج نهضة مصر العلمية والتكنولوجية، حظيت ملفات أخرى باهتمام البلدين، وخصوصا السودان وليبيا والعراقوإيران، وهي ملفات شهدت تقدماً إيجابياً ملموساً اقتربت فيها وجهتا النظر الاميركية والمصرية. فالبلدان رحبا بالتطورات السياسية الأخيرة في إيران، وفي مقابل التقارب الاميركي الايراني فإن هناك تقاربا مصريا إيرانيا تقلصت من خلاله نقاط الخلاف بين القاهرةوطهران الى نقاط محدودة جدا، مثل الشارع الذي يحمل اسم خالد الاسلامبولي قاتل الرئيس الراحل أنور السادات في العاصمة الايرانية، وإعلان القاهرة أنه لا يوجد بينها وبين طهران "صراع على حدود أو حقوق"، مما يمهد الطريق الى خطوة أكبر ربما تتمثل في عودة العلاقات الديبلوماسية الكاملة. وبالنسبة لليبيا فإن الولاياتالمتحدة تقترب، على ذمة المصادر، من فتح حوار مباشر مع الجماهيرية. أما السودان، فإن الطرح المصري لتحقيق المصالحة في هذا البلد الذي عبرت عنه المبادرة المصرية - الليبية لم يعد يجد المعارضة الاميركية السابقة. كما لم يعد السودان نفسه، بفضل جهود مصرية، مهدد اميركياً. وتبقى المسألة العراقية التي تؤكد المصادر السياسية أنها لن تتحرك إلا بحساب دقيق، وأنها لن تشهد ذروة درامية كغيرها من المسائل الشائكة في ختام حكم كلينتون. وفي الوقت نفسه فإن حساسيات عربية تمنع القاهرة من إنجاز خطوات في سبيل حل معضلات هذا الملف، إلا أن هذه المعضلات وبعضها "دولي" لم يمنع من طرح المسألة العراقية خلال المحادثات باعتبارها من أكثر المشكلات تعقيداً في المنطقة. وإذا كان ملف "الإرهاب" تراجع، وهو كان في الصدارة في قمم سابقة، فإن المراقبين في العاصمة المصرية عنوا بالأجواء المصاحبة لزيارة مبارك إذ لم يتم حتى الآن رصد ما كان يعرف بپ"موسم الهجوم على مبارك في اميركا"، الذي تضافرت في اقامته في زيارات سابقة جهود "اللوبي" الصهيوني و"أقباط" المهجر. وعزا محللون سياسيون خفوت هذه الحملات الى اختفاء رئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتانياهو عن الساحة السياسية، وهو الذي كان يشجع قوى اليمين في "اللوبي". ولم يستبعد هؤلاء المحللون "نقاشات" قد تتم اثناء الزيارة حول ما جرى في قرية الكُشح في صعيد مصر، على رغم إعلان قرار الاتهام في هذه القضية والذي طرح أخيراً بعدالة وحياد أقرت بهما قيادات الأقباط في مصر. فالأمر كله أصبح في يد القضاء، في وقت أعربت قيادات الأقباط عن قناعتها بأنها ستكون "نقاشات" موضوعية، وربما "استفسارات" فقط.