تحت عنوان: "إني أتهم" كان الكاتب الفرنسي المشهور إميل زولا وجه في 18 كانون الثاني يناير 1998 رسالة مفتوحة الى السيد فيلكس فور، رئيس الجمهورية الفرنسية في حينه، ضمّنها اتهاماً باللاسامية للقضاء العسكري الفرنسي الذي كان اصدر، حكماً بحق الضابط اليهودي الاصل الفريد دريفوس، حكماً يقضي بتجريده من رتبته العسكرية وبنفيه الى جزيرة الشيطان بتهمة الخيانة. ومنذ ذلك الحين غدت عبارة "إني اتهم" عبارة مركزية في ادبيات السجال السياسي والايديولوجي يلجأ اليها المثقفون، لا سيما منهم ذوي التوجه اليساري، في كل مرة يريدون فيها ان يغيروا مجرى الاشياء او الرؤية السائدة لدى الرأي العام، على نحو ما فعل زولا عندما قلب برسالته الموقف لصالح الضابط دريفوس، وأجبر السلطات المعنية في وقت لاحق على رد الاعتبار اليه واعادته الى صفوف الجيش وتقليده وسام الشرف. البير جاكار، الذي لمع نجمه في المساجلات العلمية والتلفزيونية التي خاضها في الثمانينات دفاعاً عن "حق الاختلاف" وعن "هموم الفقراء"، يستعير في كتابه هذا عبارة اميل زولا ليضع في قفص الاتهام هذه المرة ما يسميه ب"الاصولية الاقتصادية"، اي الديانة الليبرالية الجديدة القائلة بأن الاقتصاد يحكم العالم وبأن قوانين السوق هي - ويجب ان تكون - قانون الايمان الجديد لبشرية القرن الحادي والعشرين. ما هي الحجة الاولى لألبير جاكار على انتصار الاقتصاد والنزعة الاقتصادية؟ انها حجة بيئوية اكثر منها اقتصادية. فعنده ان الارض تنوء تحت ضغط سكانها، بل ستنفجر اذا ما استمر الانفجار السكاني فوق سطحها. فحتى مطلع التاريخ الميلادي لم يكن تعداد سكان الارض يزيد على ثلاثمئة مليون نسمة. وقد بقي كذلك حتى نهاية الالفية الاولى. فالطبيعة، التي لا تفعل شيئاً للصدفة كما كان يقول الفلاسفة من ارسطو الى ابن سينا، كانت تحقق نوعاً من توازن طبيعي بين عدد الولادات وعدد الوفيات بحيث امكن للنوع البشري ان يضمن لنفسه عدم الفناء وعدم التكاثر الكارثي في آن معاً. لكن منذ اطلالة الحداثة في القرن السادس عشر شرع الانسان بالتدخل في مجريات الطبيعة وحقق بفضل تقدم العلم والطب انتصاراً باهراً على الموت. فبموجب الناموس الطبيعي كان مآل نصف الاولاد الذين تنجبهم كل امرأة الى الموت الاكيد خلال السنة الاولى من ولادتهم. واليوم ماعاد يموت في البلدان المتقدمة سوى طفل واحد من كل مئة وخمسين مولوداً، وفي باقي العالم طفل واحد من كل اربعين. وفي بادئ الامر كان تكاثر النوع البشري بطيئاً، فلم يتم تجاوز المليار الاول من افراد البشرية الا في مطلع القرن التاسع عشر، ثم تم تجاوز المليار الثاني في نحو العام 1930. ولكن منذ ذلك الحين حدث انفجار حقيقي: فقد استغرقت البشرية السابقة عشرين قرناً كيما تتضاعف اربع مرات، ولكن في القرن العشرين وحده عادت البشرية تتضاعف دفعة واحدة اربع مرات. ولئن تكن تخطت بتعدادها في مطلع القرن الحادي والعشرين الستة مليارات، فانها لن تُتم هذا القرن الا وتكون قد تضاعفت من جديد لتبلغ في نهايته نحواً من احد عشر او اثني عشر ملياراً. وهنا ينطرح السؤال الاقتصادي: هل سيكون في مقدور الارض اطعام مثل هذا العدد من ابنائها؟ يجمع الاختصاصيون على الاجابة ان بلى. لكن هذا بشرط: ألا تقلد البشرية في استهلاكها الطريقة الغربية. ومؤلف "اني اتهم الاقتصاد المنتصر" هو بهذا الصدد قاطع: ففي رأيه ان موارد الارض تكفي لسد الحاجات الدنيا لعشرة او لاثني عشر مليار انسان، لكنها لا تكفي لسد الحاجات العليا الا لمليار واحد من البشر. وهو يُجري بهذا الخصوص المعادلة الحسابية التالية: فمليار واحد من البشر من اغنياء الشمال ممن يعيشون على الطريقة الغربية يستهلكون 80 في المئة من موارد الارض المتاحة بينما لا تزيد حصة الخمسة مليارات الباقين من فقراء البشر في الجنوب على 20 في المئة من هذه الموارد. ومعنى ذلك ان "الشمالي" يستهلك عشرين ضعف ما يستهلكه "الجنوبي" من موارد الارض المتاحة. ولو ان الخمسة مليارات من فقراء الجنوب صاروا يستهلكون من الموارد بمعدلات مكافئة لما يستهلكه المليار الواحد من اغنياء الشمال لارتفعت نسبة استهلاك جملة البشرية من الموارد المتاحة من 100 في المئة الى 480 في المئة. وهذا السيناريو يأخذ بعداً كارثياً اذا اجرى الحساب لا على واقع تعداد البشرية اليوم، بل على المتوقع من التعداد الذي ستصل اليه خلال المئة سنة القادمة. فلو ان البشرية المتضاعفة عدداً بقيت منقسمة خلال القرن القادم الى شماليين اغنياء وجنوبيين فقراء بمثل معدلات انقسامها اليوم، لما ازداد استهلاك جملة البشرية من الموارد المتاحة الا بحدود 20 في المئة، ليرتفع من 100 في المئة الى 120 في المئة. اما لو اغتنى فقراء الجنوب بمثل اغتناء اغنياء الشمال، وتضاعف في الوقت نفسه عددهم من خمسة مليارات الى عشرة مليارات، فان استهلاكهم من الموارد المتاحة سيتضاعف عشرة اضعاف ما يستهلكه المليار الواحد من اغنياء الشمال اليوم، مما سيعني ان استهلاك جملة البشرية من الموارد المتاحة سيرتفع من 100 في المئة الى 900 في المئة خلال القرن القادم. وهذا، كما يؤكد البير جاكار، ما لا طاقة للأرض على احتماله. ولن يكون ثمن مثل هذا التقدم اقل من انفجار كوكبنا الصغير بسكانه. اهي اذن رؤيا من رؤى نهاية العالم للادبيات الدينية للعصور القديمة والوسطى؟ بلى، لكن هذه المرة باخراج علمي، وبلغة الارقام الواقعيةلا الرموز الميثولوجية. ومع ذلك، ورغم كل النيات الطيبة التي يصدر عنها البيئوي البير جاكار بوصفه واحداً من ابرز المدافعين في الساحة الثقافية الفرنسية عن حقوق المستضعفين في الارض من الفقراء والمهاجرين واللاجئين و"البدون" بالمعنى الكويتي لهذه الكلمة، فان تلك الرؤيا الكارثية تبدو لنا، من اكثر من وجه، رؤيا ماجنة. ووجه المجون فيها انها تضعنا من حيث لا يريد الرائي أمام مأزق لا مخرج منه. فاما ان تبقى الارض على انقسامها الى اقلية من الشماليين المتقدمين والاغنياء واكثرية من الجنوبيين المتخلفين والفقراء، واما ان تنفجر بهم جميعهم اذا ما افلحت الاكثرية في اللحاق بركب الاقلية وتقدمت مثلها وصارت تستهلك بنفس معدلات استهلاكها. وبديهي ان البير جاكار، وهو الانساني النزعة، لا ينكر على فقراء الجنوب حقهم في ان يحلموا بمحاكاة طريقة اغنياء الشمال في الحياة. ولكن ما يحذر منه، من منظور بيئوي هذه المرة، هو تحويل هذا الحلم الى واقع. فالارض، بمواردها المحدودة والقابلة للنضوب، قد تحتمل ملياراً من الاغنياء المبذرين وعشرة مليارات من الفقراء المقتصدين، لكنها، بحال من الاحوال، لا تحتمل احد عشر ملياراً يعيشون على الطريقة الغربية. هل معنى ذلك ان البير جاكار يدعو فقراء الجنوب الى ان يبقوا على فقرهم؟ العكس هو الأصح بالاحرى: فهو يدعو اغنياء الشمال الى ان يتخلوا عن غناهم والى ان يعودوا الى محاكاة فقراء الجنوب في طريقة حياتهم. وازاء سذاجة هذه الطوباوية السالبة فان المرء لا يملك الا ان يبتسم، تماماً كما يبتسم عندما يجد البير جاكار يدعو الى رفع سعر البرميل الواحد من النفط الى آلاف الدولارات حفاظاً على هذه المادة العضوية الثمينة القابلة للنضوب. وما لا يدور لألبير جاكار ببال ان ثمة طريقة اخرى غير الضريبة وغيرها من وسائل التدخل البيروقراطي لانقاذ النفط وغيره من موارد الطبيعية الثمينة من النضوب: التقدم التقني والاختراع العلمي. فالنفط اكثر ما يكون استهلاكه وقوداً للسيارات. والحال ان الابحاث التكنولوجية جارية على قدم وساق لتطوير سيارة تسير بغير قوة النفط. ولئن لم يكتب النجاح حتى الآن لسيارة بمحرك كهربائي، فان العقد الاول من القرن الحادي والعشرين سيشهد مولد سيارة بمحرك يعمل بقوة الهواء المضغوط. واذا نجحت هذه المحاولة، فستكون البشرية قد اثبتت مرة اخرى انها لا تطرح على نفسها المشكلات الا عندما تغدو قادرة على حلها. وهذا ينطبق على ظاهرة الانفجار الديموغرافي كما على حلم فقراء الجنوب في ان يعيشوا كأغنياء الشمال. فالتكاثر السكاني ليس لا متناهياً. وجميع تقديرات الاخصائيين في علم السكان تشير الى ان البشرية ستستقر عددياً وبصورة نهائية على رقم 12 مليار نسمة. لماذا؟ لأن ثورة التعليم ستؤدي لا محالة الى ضبط النسل. وألبير جاكار هو نفسه من يسوق مثال المغرب حيث تنجب المرأة الامية خمسة اولاد في المتوسط، والمرأة المتعلمة ولدين فقط. وبالاضافة الى هذا الضبط الذاتي لمعدلات التناسل من جراء تعميم ثورة التعليم على مستوى العالم اجمع، فان البشرية تتقدم، من وجهة النظر التكنولوجية، نحو ثورة صناعية من طبيعة جديدة: هي الثورة الالكترونية. وأهم ما يميز هذه الثورة انها ستحرر الانتاج الصناعي من طبيعته المادية. ف"البراغيث" الالكترونية لها مفعول مادي هائل انطلاقاً من نزر يسير من توظيف المادة. وتعميم الثورة الالكترونية سيحد من استهلاك البشرية لموارد الطبيعة بمعدلات تفوق معدلات التكاثر السكاني ومعدلات تقدم البشرية من فقر الجنوب الى غنى الشمال. وبدلاً من طوباوية البير جاكار السالبة واللاواقعية، فاننا نؤثر ان نحلم بطوباوية تكنولوجية تسمح لكل البشرية بأن تتقدم بدون ان تستنزف موارد الارض التي يبقى البشر، حتى اشعار آخر على الاقل، اسرى لها. وليس للبشرية من بديل آخر سوى الرهان على الثورة الصناعية الالكترونية الجديدة، لأن هذه الثورة لن تكون محض ثورة مستهلكة للموارد، بل خلاقة لها ايضاً. جورج طرابيشي