مخيم ليس ككل مخيمات اللجوء الفلسطيني ال 59 التي اقامتها الاممالمتحدة اثر حرب الاقتلاع والتشريد عام 1948 وهو في الوقت ذاته يجسد نموذجاً صارخاً لهذه المخيمات. على أحد مداخل مخيم الدهيشة وحده ترى "صرح الشهيد" ملازماً ل "حق العودة" مجسداً بخارطة فلسطين الكاملة مصنوعة من الحجر وتحوي أسماء القرى الفلسطينية ال 46 المدمرة، التي ينتمي اليها سكان المخيم. على مدخله الرئيسي وضعت قوات الاحتلال الاسرائيلي بوابات حديد تشبه بتركيبتها "مسالخ الدجاج" فلا يسمح إلا لشخص واحد بالمرور عبر قضبان منصوبة افقياً وعمودياً. هذه "المسالخ" التي تفتقت عنها عقلية الاحتلال لا توجد إلا في مخيم الدهيشة وعلى مداخل قطاع غزة أو بالاحرى على حاجز "ايرز" العسكري. أهالي المخيم قرروا بعد جلاء الاحتلال عن المنطقة الابقاء على هذه "المسالخ" لتبقي الذاكرة حيّة لا تموت. في الحديث عن الذاكرة لا ينسى الجيل القديم "حمّامات الوكالة" التي بقي منها واحد غير مستعمل الان بالطبع، ولكن - للتذكير - خصص حمامان فقط لكل 25 غرفة من غرف وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، أي لكل 25 عائلة في ذلك الوقت. وتتذكر الحاجة أم أمين اللفتاوي أن النساء كن مرغمات على استخدام الحمّام نهاراً فقط لصعوبة الخروج ليلاً، وانها كانت تقف في طابور طويل قبل أن يصلها الدور. الانتفاضة الشعبية التي تفجرت في مدينة غزة رسمياً في كانون الاول ديسمبر 1987 وانتقلت الى باقي الاراضي الفلسطينية كانت تدور رحاها سنوات عديدة قبل ذلك في ازقة المخيم وشوارعه، وكان أهالي المخيم كما يقول الناشط زياد عباس "يصبحون على المستوطنين والمستوطنون يصبحون عليهم" كل على طريقته، اللاجئون بحجارتهم وزجاجاتهم الفارغة، والمستوطنون الاشد تزمتاً وتطرفاً الذين يقطنون في مستوطنة كريات أربع واخواتها في منطقة الخليل باطلاق النار من اسلحتهم الاوتوماتيكية. يذكر اهالي المخيم بفخر أنه عندما اعلن اسحق رابين وزير الدفاع عام 1985 تطبيق سياسة "القبضة الحديد" ادخل الى سجن جنيد 59 معتقلاً فلسطينياً، 34 منهم من الدهيشة. وكان نصيب المخيم من أيام "منع التجول" التي كانت تفرضها سلطات الاحتلال منذ 1979 هو الاكبر. وتسجل الاحصاءات أن الدهيشيون أخضعوا لهذا العقاب الجماعي ثلاثة اشهر ونصف الشهر كل عام. وبمزيد من الفخر يذكرون دراسة اسرائيلية أظهرت نتائجها أن نسبة عدد سكان المخيم الحاصلين على درجة الدكتوراه في العلوم المختلفة أعلى من نسبة السكان اليهود في مدينة القدسالمحتلة. "أوسلو" والاحباط الفلسطيني مع بدء عمليات الانسحاب الاسرائيلي التدريجي من المدن الفلسطينية الثماني تنفيذاً لاتفاق اوسلو عام 1993، تدافع شباب الدهيشة وشيبها لتمزيق السياج المحيط بالمخيم من الجهات كافة، حتى قبل أن تشمل هذه الانسحابات منطقتهم. ولم يخفف من ثقل الشعور بالاحباط الذي يشاركهم فيه جميع اللاجئين الفلسطينيين الذين احسوا بأن قضيتهم تركت في مهب الريح وانهم سيدفعون ثمن هذا الاتفاق. الاحباط العام في الشارع الفلسطيني، خصوصاً في مخيمات اللاجئين، أفرز "حالة" في المجتمع الفلسطيني لا يخشى أهالي الدهيشة التعبير عنها بوضوح. يقول "أبو عودة" أن سكان الدهيشة كلاجئين طالما احسوا "باختلاف عمودي" مع باقي فئات الشعب الفلسطيني وسرعان ما اصبح هذا الاختلاف "افقياً" طبقياً. طبقة "اللاجئ" وطبقة "أوسلو" المستفيدة من هذه المرحلة. طبقة الفقراء الذين "لم يستفيدوا من أوسلو لا سياسياً ولا اقتصادياً" والطبقة التي اصبحت مصالحها مرتبطة باستمرار اوسلو. الخروج من الاحباط في العام 1994 وبمبادرات شخصية اقام بعض من كانوا ناشطين في "معمعة الثورة" مركز "ابداع" للجيل الذي لم يصب بعد بالاحباط او ربما لانقاذه من هذا الشعور المرير. جيل الشباب الذي يشكل الآن 55 في المئة من مجموع السكان الفلسطينيين. وتحول "ابداع" سريعاً، بمقره شديد التواضع داخل المخيم، الى مركز تجمع للاطفال من عمر 8 الى 15 عاماً، يستخدمون فيه أجهزة حاسوب تبرعت بها مؤسسة بريطانية عام 1998 ويتعلمون فنون الرقص الشعبي. جاب الاطفال اللاجئون عواصم دول العالم بدءاً من اوروبا ومروراً باميركا وحتى اليابان وبثوا معاناتهم واحاسيسهم وتفاؤلهم بمستقبل آت لا محالة الى كل من احتكوا به من فلسطينيين وعرب واجانب. وبدل أن يثير العالم الخارجي دهشتهم اثاروا انطباع الجميع. وخلال عام واحد أوجد مركز "ابداع" اول موقع لمخيم لاجئين فلسطينيين على الانترنت، الموقع الذي اصبح "موسوعة" عن تاريخ اللجوء الفلسطيني. في الذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية، برز مخيم الدهيشة من بين المخيمات في تظاهرة "المفاتيح" التي حملها اطفال المخيم لتذكير العالم بأنهم سيحملون ارث اجدادهم وسيكملون مشوار العودة لاعادة فتح ابواب منازل اجدادهم التي طردوا منها في العام 1948. اليوم، مشروع الدهيشة الجديد هو "رحلة العودة" وحفر الذاكرة بمشاهد حيّة ملموسة. مهندسو هذا المشروع ومنفذوه هم أطفال بين ال 12 وال 15. والوسيلة: زيارة القرى المدمرة أو ما تبقى منها بالتسلل عبر الحواجز العسكرية التي تمنعهم من اجتياز "الخط الاخضر" والوصول الى قرى اجدادهم التي اصبحت الآن جزءاً من شوارع سريعة او كيبوتسات ومستوطنات يهودية في دولة اسرائيل. الطفلة منار ابنة الثالثة عشرة شاهدت للمرة الاولى موطنها الاصلي قرية راس ابو عمار وصديقتها حنان شاهدت هي الاخرى قرية زكريا. في طريقها الى الدهيشة كتبت منار: عندما ذهبت الى راس ابو عمار كنت خائفة كثيراً ولم اكن اريد ان اترك المخيم ولكني الآن بعدما رأيت كم هي بلدتي جميلة اريد ان ادمر المخيم ولكن قبل ذلك اقبل ترابه لما شهده من معاناتنا". أما حنان فكتبت: للمرة الاولى شعرت بالحرية وانا في بلدي، رغم الحدود التي بيني وبين الحرية تحديتها لاجل بلدي. للمرة الاولى اقول اني اعرف معنى الحرية. لم اقرأها في الكتب بل في قلبي المجروح... نسأل دائماً، نحن الاطفال اللاجئين، الى متى سنبقى مختلفين عن اطفال العالم، الى متى سنبقى نعيش في الحرمان والظلم والانهار المليئة بالدموع والدماء؟". وفي مكان اخر كتبت: "ثم تابعنا المسير ووصلنا الى المسجد في زكريا كانت معتماً جدرانه مهترئة واصبح مجمعاً للقمامة. كان وسخاً جداً. آه كم تألمنا لهذا المشهد". لم يعد الاطفال من قراهم المدمرة بالافكار والمشاعر فقط، انهمكوا بجمع اواني الطبخ القديمة وكل ما تقع عليه ايديهم من ادوات او اي شيء يذكّر بهؤلاء الذين عاشوا يوماً حياتهم هناك ولا يزالون يأملون بأن تحفر قبورهم في الارض التي زرعوها وحصدوها. وفي ركن صغير في مقر المركز "تستريح" هذه "الاشياء" لتذكر من قد ينسى بأن الاجداد استخدموها يوماً وان الاحفاد جمعوها ليبقوا الذاكرة حية. وصية أحد الاجداد لحفيده بعد مماته ان لا يدفن الا في قريته. والحفيد لا يزال يفكر بالطريقة التي ستمكنه من تنفيذ وصية جده. على اكثر من جدار في المخيم كتب الاطفال الى جانب رسوماتهم التي تعبر قلباً وقالباً عن اللجوء: "أيها البابا: نأسف لأننا لن نطلق اسمك على اي من مخيماتنا... لأن المخيمات لن تدوم الى الابد". وهذا شعار واحد من عشرات سيرفعها الاطفال اليوم خلال زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لمخيم فلسطيني ولا عجب أن الدهيشة هو المخيم.