في ذلك الحين كان شهر العسل لا يزال قائماً بين الولاياتالمتحدة الأميركية، والسلطات العراقية. فالعراق، بزعامة صدام حسين، كان يخوض حرباً شرسة ومدمرة ضد إيران. ولم يكن في خوضه مثل تلك الحرب ما من شأنه أن يزعج واشنطن وحلفاءها العالميين والمحليين. من هنا، كانت كل مبادرة قتالية وقاتلة يتخذها صدام حسين، ضد إيران، تمر إما بترحيب تام، إن كان لا غبار عليها من الناحية السياسية، أو وسط صمت متواطئ، إن كان من شأنها أن تثير جدالاً. وسوف يتبين لاحقاً أن ثمة مبادرات عسكرية كثيرة، ما كان يمكن لها أن تتم وأن تكون ممكنة، لولا دعم مباشر أو غير مباشر، تقدمه الأجهزة الأميركية. من هنا ثارت علامات استفهام كثيرة أواخر آذار مارس 1988، من حول "التعاون الأميركي - العراقي" حين تمكنت الطائرات العراقية من قصف مصب النفط الإيراني في جزيرة خرج، في عملية قال بعض المحللين يومها انه كان من الصعب على الجيش العراقي تنفيذها لولا دعم - صور مثلاً، أو معلومات عسكرية دقيقة - وفرته له أجهزة الرصد الأميركية. طبعاً لن يؤكد أحد ذلك التخمين، لكنه يظل احتمالاً قوياً حتى الآن. وذلك للأهمية المطلقة لمصب خرج في خريطة الاقتصاد الإيراني، في وقت كانت إيران في حاجة الى تشغيل نشاطها كله لتوفير الأموال اللازمة لمواصلة حرب باهظة الكلفة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن النفط الإيراني ظل، في شكل أو آخر، يصل الى جزيرة خرج، ثم يصدّر انطلاقاً منها طوال سنوات الحرب العراقية - الإيرانية من دون أن يعقبه القصف العراقي بشكل جدي، يمكن أن نتساءل حقاً حول القدرة المباغتة التي بدأ العراق يتمتع بها من أجل تسديد ضربة تبدّت عسكرية وسياسية واقتصادية في الوقت نفسه: ضربة كان من الواضح أنها ستكون قاتلة، وهي كانت كذلك بالفعل! المهم في الأمر أن الطائرات العسكرية العراقية تمكنت في مثل هذا اليوم، من ذلك العام، من إمطار مصب النفط الإيراني في جزيرة خرج بوابل من الصواريخ والقذائف، ما أدى على الفور الى تدمير وإغراق ناقلتي نفط كبيرتين كانتا ترسوان في الميناء، وتحمّلان كميات هائلة من النفط المصدّر الى أوروبا. يومها أعلن أن طاقم الناقلة العملاقة "أواج" قد فني بكامله، حين حولت الصواريخ السفينة الى ما يشبه الجحيم الملتهب. وعلى الفور ذُكر أن 54 بحاراً قُتلوا، وأعلنت الخشية من أن يكون عدد القتلى أكبر من ذلك بكثير. وأمام مشهد الحريق والدمار المرعب في الميناء والمصب والناقلات العملاقة، قالت أوساط كويتية مراقبة يومها: "إن ثمة ارتباكاً كبيراً في الوضع في خرج، وهناك تضارب في المعلومات. أما النيران فظلت مشتعلة طوال فترة طويلة من الزمن في الناقلات، كما في المنشآت الميدانية". أما المراقبون الأميركيون فقد سارعوا الى التأكيد على ضخامة حجم الخسارة التي منيت بها إيران من جراء تلك الضربة المحكمة "لأن الإيرانيين - كما أكدت مصادر أولئك المراقبين - يعتمدون اعتماداً كلياً على تصدير النفط من خرج الى أوروبا واليابان بغية الحصول على المداخيل التي تمكّنهم من مواصلة الحرب ضد العراق". إزاء تلك الضربة، إذاً، بات من المستحيل على إيران أن تواصل تصدير نفطها انطلاقاً من مصب خرج، خصوصاً أن الجزيرة، في حد ذاتها، غير قادرة على توفير أية دفاعات ذاتية في وجه مزيد من الضربات، ناهيك عن أن أية شركة تأمين عالمية لم يعد في وسعها أن تؤمن أية ناقلة، أو ناقلة عملاقة تحاول أن تستخدم مصب خرج. من هنا اعتبر الأميركيون الضربة انتصاراً ساحقاً للعراقيين، وقالت أوساطهم إنها يمكن أن تشكل نهاية الحرب، إذ تدفع إيران "الى القبول بوقف النار والتفاوض حول المسائل العالق،ة ما يجنّب المنطقة ويلات توسع الحرب واستمرارها". وبالفعل ما إن مضى وقت قصير على ذلك حتى أعلنت طهران، رغبتها في وقف القتال وإنهاء الحرب. طبعاً لا يمكن اليوم أن نزعم أن ذلك الإعلان جاء تحت التأثير المباشر لضربة خرج، لكن من المؤكد أن الضربة لعبت في خلفياته دوراً لا يمكن نكرانه بأي حال من الأحوال.