تتعدى الهجمة الاسرائيلية الضارية ضد الشاعر الفلسطيني محمود درويش حقل الشعر والادب، لتشتبك مع سؤال الوجود والكينونة الاسرائيليين في "حوار" غير متكافئ ما بين القصيدة والاسطورة، وهو "حوار" لا يسعى للحصول على اجوبة شافية لهواجسه، بمقدار ما يطمح الى مساءلة السؤال نفسه من اجل تفريغه من محتواه، ومن اجل نزع فتيله والاجهاز على صواعقه. فإذا كانت مبادرة وزير المعارف الاسرائيلي يوسي ساريد بتدريس قصائد درويش وسواه من شعراء فلسطينيين تدخل في باب "اعرف عدوك" فإن من شأن ذلك - على بشاعته ان يقدم رواية بديلة عن الرواية التوراتية المسكونة بالمطلق وعقدة الاقصاء، ومن شأن ذلك، ايضاً ان يحدث ثقوباً واسعة في جدار "الغيتو" الصهيوني. لكن ما يجري حالياً في اسرائيل التي وحّدت ما صار يعرف ب"قضية درويش" مجتمعها - يعبر عن ظاهرة لا تثير الدهشة بمقدار ما تبعث على التساؤل عن السبب الذي يجعل من قصيدة شاعر يحن الى خبز امه ودمعتها، مبرراً وصفه ب"المتوحش" و"العدو المطلق" و"الشر المطلق" ملصقة به تهمة الدعوة الى القاء اليهود بالبحر. ولم يتوقف الامر عند تحريضات الصحافة وتخرصاتها، بل تطور الى درجة تدخل رئيس الحكومة ايهود باراك في الموضوع، وتنصله من مبادرة وزير معارفه بذريعة ان "الظروف غير ناضجة لتحمّل محمود درويش". فاذا كانت الظروف غير ناضجة لتحمّل شاعر تنطوي قصائده على الرواية البديلة والنقيضة لتلك المجبولة بالاوهام وعقدة التفوق المزعومة، فإن الحديث الجاري حالياً عن انفراجات مرتقبة وانسحابات من اراض محتلة يغدو امراً مفرّغاً من محتواه ولا يمكن القبض من خلاله على اي معنى تبنى عليه فكرة التعايش مع الاسرائيلي الذي يتباهى بأنه استطاع ان يغرق عاصمة عربية في الظلام. واسرائيل التي توحدت احزابها ومجتمعها على مقاومة قصيدة الى حد التهديد بسحب الثقة من الحكومة، ليست كياناً يمتلك شروط التعايش والانخراط في المحيط العربي كأمر واقع، فلقد جاءت المناسبة التي اكدت تهافت تطلعات المتفائلين العرب وبعض المثقفين والمفكرين اليهود ورهاناتهم، وتفتتها لصالح الابقاء على العزلة الاسرائيلية واستفحال روح العداء لها، ما يهدد الاساس البنيوي لأية استمرارية ممتدة للمشروع الصهيوني. ولا يكتفي الاسرائيليون - كما يرشح من ظلال الحدث الاخير - باحتلال الارض الفلسطينية واغتصابها بل يعملون على احتكار تاريخها، وفكرة الحنين اليها، كما يقول درويش، ما يحيل الى الازمة التي تفجرت في الكنيست قبل زهاء عشر سنوات على اثر قصيدة "عابرون في كلام عابر" التي حرمت وما تزال الشاعر الفلسطيني من حق العودة المشروع الى وطنه ومسقط رأسه في قريته المحتلة منذ العام 1948، حيث يبدو الاسرائيليون ليسوا عابرين في كلام عابر وحسب، بل وعابرين في سلام عابر وهشّ صنعوه كي يبدد مخاوفهم، وكي يشتروا امنهم وطمأنينتهم. وقد تهيأ لهم بأنهم نجحوا في ذلك، حين جردوا خصومهم من قنابلهم ودباباتهم، وخيّل اليهم بأن مصادرتهم على الواقع واذعان الضحية لشروطه الخشنة، كفيل بأن يزودهم بالوصاية الابدية على الماضي والمستقبل. هُيّئ للاسرائيليين بأنهم اقوياء ومحصّنون بترسانة رعبهم النووي، ولكنهم كانوا نائمين على وهم كما اثبتت الحقائق العديدة التي آخرها هذه الهستيريا الاسرائيلية الشاملة بسبب قصيدة. * كاتب وصحافي اردني.